وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم . لا كله . فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون . ولكن يعفو منه عن كثير . ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به ، وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير :
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) .
وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله ، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف . فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه ؛ ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف ؛ وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان ، فيعفو عن كثير ، رحمة منه وسماحة .
قوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } قرأ أهل المدينة والشام { بما كسبت } بغير فاء ، وكذلك هو في مصاحفهم فمن حذف الفاء جعل ما في أول الآية بمعنى الذي أصابكم بما كسبت أيديكم . { ويعفو عن كثير } قال الحسن : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر " .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه ، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدثنا بشر بن موسى الأسدي ، حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا مروان بن معاوية ، أخبرني الأزهر بن راشد الباهلي عن الخضر ابن القواس البجلي عن أبي سخيلة قال : قال علي بن أبي طالب : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } قال : وسأفسرها لك يا علي : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فيما كسبت أيديكم ، والله عز وجل أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة ، وما عفا عنكم في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه . قال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبداً فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفر إلا بها ، أو درجة لم يكن الله ليبلغها إلا بها .
قوله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " قرأ نافع وابن عامر " بما كسبت " بغير فاء . الباقون " فبما " بالفاء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم للزيادة في الحرف والأجر . قال المهدوي : إن قدرت أن " ما " الموصولة جاز حذف الفاء وإثباتها ، والإثبات أحسن . وإن قدرتها التي للشرط لم يجز الحذف عند سيبويه ، وأجازه الأخفش واحتج بقوله تعالى : " وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " {[13515]} [ الأنعام : 121 ] . والمصيبة هنا الحدود على المعاصي ، قاله الحسن . وقال الضحاك : ما تعلم رجل القرآن ثم نسيه إلا بذنب ، قال الله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " ثم قال : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن ، ذكره ابن المبارك عن عبد العزيز بن أبي رواد . قال أبو عبيد : إنما هذا على الترك ، فأما الذي هو دائب في تلاوته حريص على حفظه إلا أن النسيان يغلبه فليس من ذلك في شيء . ومما يحقق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينسى الشيء من القرآن حتى يذكره . من ذلك حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم : سمع قراءة رجل في المسجد فقال : ( ما له رحمه الله ! لقد أذكرني آيات كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا ) . وقيل : " ما " بمعنى الذي ، والمعنى الذي أصابكم فيما مضى بما كسبت أيديكم . وقال علي رضي الله عنه : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله عز وجل . وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه ! وقد روي هذا المعنى مرفوعا عنه رضي الله عنه ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم : " وما من مصيبة فبما كسبت أيديكم " الآية : ( يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم . والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه ) . وقال الحسن : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ولا نكبة حجر إلا بذنب ولما يعفو الله عنه أكثر ) . وقال الحسن : دخلنا على عمران بن حصين فقال رجل : لا بد أن أسألك عما أرى بك من الوجع ، فقال عمران : يا أخي لا تفعل ! فوالله إني لأحب الوجع ومن أحبه كان أحب الناس إلى الله ، قال الله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبتم أيديكم ويعفو عن كثير " فهذا مما كسبت يدي ، وعفو ربي عما بقي أكثر . وقال مُرَّة الهمذاني : رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت : يا أبا أمية ، ما هذا ؟ قال : هذا بما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وقال ابن عون : إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك فقال : إني لا أعرف هذا الغم ، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة . وقال أحمد بن أبي الحواري{[13516]} قيل لأبى سليمان الداراني : ما بال العقلاء أزالوا اللوم عمن أساء إليهم ؟ فقال : لأنهم علموا أن الله تعالى إنما ابتلاهم بذنوبهم ، قال الله تعالى : " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " . وقال عكرمة : ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها . وروي أن رجلا قال لموسى : يا موسى ، سل الله لي حاجة يقضيها لي هو أعلم بها ، ففعل موسى ، فلما نزل إذ هو بالرجل قد مزق السبع لحمه وقتله ، فقال موسى : ما بال هذا يا رب ؟ فقال الله تبارك وتعالى له : ( يا موسى انه سألني درجة علمت أنه لم يبلغها بعمله فأصبته بما ترى لأجعلها وسيلة له في نيل تلك الدرجة ) . فكان أبو سليمان الداراني إذا ذكر هذا الحديث يقول : سبحان من كان قادرا على أن ينيله تلك الدرجة بلا بلوى ! ولكنه يفعل ما يشاء .
قلت : ونظير هذه الآية في المعنى قوله تعالى : " من يعمل سوءا يجز به " [ النساء : 123 ] وقد مضى القول فيه{[13517]} . قال علماؤنا : وهذا في حق المؤمنين ، فأما الكافر فعقوبته مؤخرة إلى الآخرة . وقيل : هذا خطاب للكفار ، وكان إذا أصابهم شر قالوا : هذا بشؤم محمد ، فرد عليهم وقال بل ذلك بشؤم كفركم . والأول أكثر وأظهر وأشهر . وقال ثابت البناني : إنه كان يقال ساعات الأذى يذهبن ساعات الخطايا . ثم فيها قولان : أحدهما : أنها خاصة في البالغين أن تكون عقوبة لهم ، وفي الأطفال أن تكون مثوبة لهم . الثاني : أنها عقوبة عامة للبالغين في أنفسهم والأطفال في غيرهم من والد ووالدة . " ويعفو عن كثير " أي عن كثير من المعاصي ألا يكون عليها حدود ، وهو مقتضى قول الحسن . وقيل : أي يعفو عن كثير من العصاة ألا يعجل عليهم بالعقوبة .
قوله : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي ما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم أو أهليكم أو أموالكم أو غير ذلك من وجوه المصائب فإنما ذلك عقوبة لكم من الله بما اجترحتم من السيئات والذنوب .
وذلك فضل من الله ورحمة منه بعباده ؛ إذْ يعاقبهم في الدنيا ببعض العقوبات جزاء آثامهم وسيئاتهم ومعاصيهم بدلا من معاقبتهم على ذلك في النار يوم القيامة . ولا شك أن عقاب النار في الآخرة أليم وجيع وأنه أشد ويلا وفظاعة . وفي المعاقبة في الدنيا على السيئات ، جاء في الصحيح : " والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وصب{[4110]} ولا هم ولا حزن ؛ إلا كفَّر اللهُ عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يُشَاكها " .
وذكر عن الحسن البصري في قوله تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال : لما نزلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ما من خَدْشٍ عودٍ ولا اختلاج عِرْق ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر " .
وروى الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ؛ ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها " .
وذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال ف هذا الصدد : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه ؟ فتلا هذه الآية : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال : ما عاقب الله تعالى به في الدنيا فالله أحلمُ من أن يثني عليه بالعقوبة يوم القيامة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرمُ من أن يعود في عفوه يوم القيامة .
قوله : { وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } أي يعفو الله عن كثير من ذنوب عباده وسيئاتهم فلا يعاقبهم بها .