يذكر الناس بهذه الإشارة بنعمة الله عليهم في اصطفائهم بخلافة هذه الأرض ، وبما سخر لهم فيها من قوى وطاقات . ثم يوجههم إلى الأدب الواجب في شكر هذه النعمة وشكر هذا الاصطفاء ؛ وتذكر المنعم كلما عرضت النعمة ، لتبقى القلوب موصولة بالله عند كل حركة في الحياة :
( لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ) . . فما نحن بقادرين على مقابلة نعمته بنعمة مثلها ، وما نملك إلا الشكر نقابل به هذا الإنعام .
ولذلك قال :{ لتستووا على ظهوره } أي ظهور ما تركبون وجمعه للمعنى . { ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها . { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين } مطيقين من أقرن الشيء إذا أطاقه ، وأصله وجد قرينته إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف . وقرئ بالتشديد والمعنى واحد . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال : بسم الله ، فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله على كل حال { سبحان الذي سخر لنا هذا } إلى قوله : { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أي راجعون ، واتصاله بذلك لأن الركوب للتنقل والنقلة العظمى هو الانقلاب إلى الله تعالى ، أو لأنه مخطر فينبغي للراكب أن لا يغفل عنه ويستعد للقاء الله تعالى .
والاستواء الاعتِلاء . والظهورُ : جمع ظَهر ، والظهر من علائق الأنعام لا من علائق الفلك ، فهذا أيضاً من التغليب . والمعنى : على ظهوره وفي بطونه . فضمير { ظهوره } عائد إلى { ما } الموصولة الصادق بالفلك والأنعام كما هو قضية البيان ، على أن السفائن العظيمة تكون لها ظهور ، وهي أعاليها المجعولة كالسطوح لِتقي الراكبين المطر وشدة الحر والقرّ . ولذلك فجمع الظهور من جمع المشترك والتعدية بحرففِ { على } بنيت على أن للسفينة ظهراً قال تعالى : { فإذا استويتَ أنت ومن معك على الفلك } [ المؤمنون : 28 ] .
وقد جُعل قوله : { لتستووا على ظهوره } توطئة وتمهيداً للإشارةِ إلى ذكر نعمة الله في قوله : { ثم تذكروا نعمة ربّكم إذا استويتم عليه } أي حينئذٍ ، فإن ذكر النعمة في حال التلبّس بمنافعها أوقع في النفس وأدعَى للشكر عليها . وأجدر بعدم الذهول عنها ، أي جعل لكم ذلك نعمة لتشعروا بها فتشكروه عليها ، فالذكر هنا هو التذكر بالفكر لا الذكر باللسان .
وهذا تعريض بالمشركين إذ تقلبوا في نعم الله وشكروا غيره إذ اتخذوا له شركاء في الإلهية وهم لم يشاركوه في الأنعام . وذكْرُ النعمة كناية عن شكرها لأن شكر المنعِم لازم للإنعام عرفاً فلا يَصرف عنه إلاّ نسيانُه فإذا ذكره شكر النعمة .
وعطف على { تذكروا نعمة ربّكم } قوله : { وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا } ، أي لتشكروا الله في نفوسكم وتُعلِنوا بالشكر بألسنتكم ، فلقنهم صيغةَ شكر عناية به كما لقّنهم صيغة الحمد في سورة الفاتحة وصيغةَ الدعاء في آخر سورة البقرة .
وافتتح هذا الشكر اللّساني بالتسبيح لأنه جامع للثناء إذ التسبيح تنزيه الله عما لا يليق ، فهو يدلّ على التنزيه عن النقائص بالصريح ويدلّ ضمناً على إثبات الكمالات لله في المقام الخطابي . واستحضار الجلالة بطريق الموصولية لما يؤذن به الموصول من علة التسبيح حتى يصير الحمد الذي أفادهُ التسبيح شكراً لتعليله بأنه في مقابلة التسخير لنا . واسم الإشارة موجه إلى المركوب حينما يقول الراكب هذه المقالة من دابّة أو سفينة .
والتسخير : التذييل والتطويع . وتسخير الله الدواب هو خلقه إيّاها قابلة للترويض فاهمة لمراد الرّاكب ، وتسخير الفلك حاصل بمجموع خلق البحر صالحاً لسبح السفن على مائه ، وخلق الرياح تهبّ فتدفع السفن على الماء ، وخلق حيلة الإنسان لصنع الفلك ، ورصد مهابّ الرياح ، ووضع القلوع والمجاذيف ، ولولا ذلك لكانت قوة الإنسان دون أن تبلغ استخدام هذه الأشياء القوية . ولهذا عقب بقوله : { وما كنّا له مُقْرِنين } أي مطيقين ، أي بمجرد القوة الجسدية ، أي لولا التسخير المذكور ، فجملة { وما كُنَّا له مقرنين } في موضع الحال من ضمير { لنا } أي سخرها لنا في حال ضعفنا بأن كان تسخيره قائماً مقام القوة .
والمُقرن : المطيق ، يقال : أقرن ، إذا أطاق ، قال عمرو بن معديكرب :
لقد علم القبائل ما عُقَيل *** لنا فِي النائبات بمُقْرِنينا
وخُتم هذا الشكر والثناء بالاعتراف بأن مرجعنا إلى الله ، أي بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء ، وهذا إدماج لتلقينهم الإقرار بالبعث .
وفيه تعريض بسؤال إرجاع المسافر إلى أهله فإن الذي يقدر على إرجاع الأموات إلى الحياة بعد الموت يُرْجَى لإرجاع المسافر سالماً إلى أهله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.