وفي انتظار قيام الجماعة بتزويج الأيامى يأمرهم بالاستعفاف حتى يغنيهم الله بالزواج : ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . . ( والله واسع عليم ) . . لا يضيق على من يبتغي العفة ، وهو يعلم نيته وصلاحه .
وهكذا يواجه الإسلام المشكلة مواجهة عملية ؛ فيهيئ لكل فرد صالح للزواج أن يتزوج ؛ ولو كان عاجزا من ناحية المال . والمال هو العقبة الكؤود غالبا في طريق الإحصان .
ولما كان وجود الرقيق في الجماعة من شأنه أن يساعد على هبوط المستوى الخلقي ، وأن يعين على الترخص والإباحية بحكم ضعف حساسية الرقيق بالكرامة الإنسانية . وكان وجود الرقيق ضرورة إذ ذاك لمقابلة أعداء الإسلام بمثل ما يعاملون به أسرى المسلمين . لما كان الأمر كذلك عمل الإسلام على التخلص من الأرقاء كلما واتت الفرصة . حتى تتهيأ الأحوال العالمية لإلغاء نظام الرق كله ، فأوجب إجابة الرقيق إلى طلب المكاتبة على حريته . وذلك في مقابل مبلغ من المال يؤديه فينال حريته :
( والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم . إن علمتم فيهم خيرا ) . .
وآراء الفقهاء مختلفة في هذا الوجوب . ونحن نراه الأولى ؛ فهو يتمشى مع خط الإسلام الرئيسي في الحرية وفي كرامة الإنسانية . ومنذ المكاتبة يصبح مال الرقيق له ، وأجر عمله له ، ليوفي منه ما كاتب عليه ؛ ويجب له نصيب في الزكاة : ( وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ) . ذلك على شرط أن يعلم المولى في الرقيق خيرا . والخير هو الإسلام أولا . ثم هو القدرة على الكسب . فلا يتركه كلا على الناس بعد تحرره . وقد يلجأ إلى أحط الوسائل ليعيش ، ويكسب ما يقيم أوده . والإسلام نظام تكافل . وهو كذلك نظام واقع . فليس المهم أن يقال : إن الرقيق قد تحرر . وليست العنوانات هي التي تهمه . إنما تهمه الحقيقة الواقعة . ولن يتحرر الرقيق حقا إلا إذا قدر على الكسب بعد عتقه ؛ فلم يكن كلا على الناس ؛ ولم يلجأ إلى وسيلة قذرة يعيش منها ، ويبيع فيها ما هو أثمن من الحرية الشكلية وأغلى ، وهو أعتقه لتنظيف المجتمع لا لتلويثه من جديد ؛ بما هو أشد وأنكى .
وأخطر من وجود الرقيق في الجماعة ، احتراف بعض الرقيق للبغاء . وكان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ؛ وجعل عليها ضريبة يأخذها منها - وهذا هو البغاء في صورته التي ما تزال معروفة حتى اليوم - فلما أراد الإسلام تطهير البيئة الإسلامية حرم الزنا بصفة عامة ؛ وخص هذه الحالة بنص خاص :
( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء . إن أردن تحصنا . لتبتغوا عرض الحياة الدنيا . ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ) .
فنهى الذين يكرهون فتياتهم على هذا المنكر ، ووبخهم على ابتغاء عرض الحياة الدنيا من هذا الوجه الخبيث . ووعد المكرهات بالمغفرة والرحمة ، بعد الإكراه الذي لا يد لهن فيه .
قال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول ، رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى معاذة . وكان إذ نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه ، والكرامة له . فأقبلت الجارية إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فشكت إليه ذلك ؛ فذكره أبو بكر للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأمره بقبضها . فصاح عبد الله بن أبي : من يعذرنا من محمد ? يغلبنا على مملوكتنا ! فأنزل الله فيهم هذا .
هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء - وهن يردن العفة - ابتغاء المال الرخيص كان جزءا من خطة القرآن في تطهير البيئة الإسلامية ، وإغلاق السبل القذرة للتصريف الجنسي . ذلك أن وجود البغاء يغري الكثيرين لسهولته ؛ ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة في محلها الكريم النظيف .
ولا عبرة بما يقال من أن البغاء صمام أمن ، يحمي البيوت الشريفة ؛ لأنه لا سبيل لمواجهة الحاجة الفطرية إلا بهذا العلاج القذر عند تعذر الزواج . أو تهجم الذئاب المسعورة على الأعراض المصونة ، إن لم تجد هذا الكلأ المباح !
إن في التفكير على هذا النحو قلبا للأسباب والنتائج . فالميل الجنسي يجب أن يظل نظيفا بريئا موجها إلى إمداد الحياة بالأجيال الجديدة . وعلى الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كل فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة وبالزواج . فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت هذه الحالات علاجا خاصا . . وبذلك لا تحتاج إلى البغاء ، وإلى إقامة مقاذر إنسانية ، يمر بها كل من يريد أن يتخفف من أعباء الجنس ، فيلقي فيها بالفضلات ، تحت سمع الجماعة وبصرها !
إن النظم الاقتصادية هي التي يجب أن تعالج ، بحيث لا تخرج مثل هذا النتن . ولا يكون فسادها حجة على ضرورة وجود المقاذر العامة ، في صور آدمية ذليلة .
وهذا ما يصنعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف ، الذي يصل الأرض بالسماء ، ويرفع البشرية إلى الأفق المشرق الوضيء المستمد من نور الله .
{ وليستعفف } وليجتهد في العفة وقمع الشهوة . { الذين لا يجدون نكاحا } أسبابه ، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به أو بالوجدان التمكن منه . { حتى يغنيهم الله من فضله } فيجدوا ما يتزوجون به . { والذين يبتغون الكتاب } المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على كذا من الكتاب لأن السيد كتب على نفسه عتقه إذا أدى المال ، أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض . { مما ملكت أيمانكم } عبدا كان أو أمة والموصول بصلته مبتدأ خبره . { فكاتبوهم } أو مفعول لمضمر هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط ، والأمر فيه للندب عند أكثر العلماء لأن الكتابة معاوضة تتضمن الارفاق فلا تجب كغيرها واحتجاج الحنفية بإطلاقه على جواز الكتابة الحالية ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد عند المحل . { إن علمتم فيهم خيرا } أمانة وقدرة على أداء المال بالاحتراف ، وقد روي مثله مرفوعا وقيل صلاحا في الدين . وقيل مالا وضعفه ظاهر لفظا ومعنى وهو شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز . { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } أمر للموالي كما قبله بأن يبذلوا لهم شيئا من أموالهم ، وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند الأكثر ويكفي أقل ما يتمول . وعن علي رضي الله تعالى عنه يحط الربع ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الثلث ، وقيل ندب لهم إلى الإنفاق عليهم بعد أن يؤتوا ويعتقوا ، وقيل أمر لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم من الزكاة ويحل للمولى وإن كان غنيا ، لأنه لا يأخذه صدقة كالدائن والمشتري ، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة " هو لها صدقة ولنا هدية " { ولا تكرهوا فتياتكم } إماءكم . { على البغاء } على الزنا ، كانت لعبد اله بن أبي ست جوار يكرههن على الزنا وضرب عليهن الضرائب فشكا بعضهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت . { إن أردن تحصنا } تعففا شرط للإكراه فإنه لا يوجد دونه ، وإن جعل شرطا للنهي لم يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهي بامتناع المنهي عنه ، وإيثار إن على إذا لأن إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر . { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } أي لهن أوله إن تاب ، والأول أوفق للظاهر ولما في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ولا يرد عليه أن المكرمة غير آثمة فلا حاجة إلى المغفرة لأن الإكراه لا ينافي المؤاخذة بالذات ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص .
«استعف » وزنه استفعل ومعناه طلب أن يكون عفيفاً ، فأمر الله تعالى في هذه الآية كل من يتعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعف ، ثم لما كان أغلب الموانع على النكاح عدم المال وعد بالإغناء من فضله ، فعلى هذا التأويل يعم الأمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح بأي وجع تعذر ، وقالت جماعة من المفسرين «النكاح » في هذه الآية اسم ما يمهر وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس ، قال القاضي وحملهم على هذا قوله : { حتى يغنيهم الله من فضله } ، فظنوا أن المأمور بالاستعفاف إنما هو من عدم المال الذي يتزوج به ، وفي هذا القول تخصيص المأمورين بالاستعفاف وذلك ضعيف{[8708]} ، ثم أمر الله تعالى المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك ، وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه { خيراً } ، قال النقاش سببها أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى سأل مولاه الكتابة فأبى عليه ، وقال مكي هو صبيح القبطي غلام حاطب بن أبي بلتعة ، ولفظ { الكتاب } في الآية مصدر كالقتال والجلاد ونحوه من مصادر فاعل ، والمكاتبة مفاعلة من حيث هذا يكتب على نفسه وهذا على نفسه ، واختلف الناس هل هذا الأمر بالكتابة على الوجوب أو على الندب على قولين ، فمذهب مالك رحمه الله أن ذلك على الندب ، وقال عطاء ذلك واجب وهو ظاهر قول عمر لأنس بن مالك في سيرين حين سأل سيرين الكتابة فتلكأ أنس فقال عمر كاتبه أو لأضربنك بالدرة ، وهو قول عمرو بن دينار والضحاك{[8709]} ، واختلف الناس في المراد ب «الخير » ، فقالت فرقة : هو المال ولم تر على سيد عبد أن يكاتب إلا إذا علم أن له مالاً يؤدي منه أو من التجر فيه{[8710]} ، وروي عن ابن عمر وسلمان أنهما أبيا من كتابة عبدين رغبا في الكتابة ووعدا باسترفاق الناس ، فقال كل واحد منهما لعبده أتريد أن تطعمني أوساخ الناس ، وقال مالك إنه ليقال «الخير » القوة والأداء ، وقال الحسن بن أبي الحسن «الخير » هو صدق الموعد وقلة الكذب والوفاء وإن لم يكن للعبد مال ، وقال عبيدة السلماني «الخير » هو الصلاح في الدين عَ وهذا في ضمنه القول الذي قبله ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وحرمة العتق إنما يتلبس بها بعد الأداء هذا قول جمهور الأمة ، وقال ابن مسعود إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم ، وقال علي بن أبي طالب العتاقة تجري فيه بأول نجم يؤديه{[8711]} ، وقوله تعالى : { وآتوهم } ، قال المفسرون هو أمر لكل مكاتب أن يضع للعبد من مال كتابته ، واستسحن ذلك علي بن أبي طالب أن يكون ذلك ربع الكتابة ، قال الزهراوي وروي ذلك عن النبي عليه السلام{[8712]} ، واستحسن الحسن بن أبي الحسن وابن مسعود ثلثها وقال قتادة عشرها ، ورأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه مباردة إلى الخير خوف أن لا يدرك آخرها ، ورأى مالك رحمه الله وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم ، وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد ، فرجع هو وماله إلى السيد ، فعادت إليه وضيعته ، وهي شبه الصدقة ، وهذا قول عبد الله بن عمر ، ورأى مالك رحمه الله هذا الأمر على الندب ولم ير لقدر الوضيعة حداً ، ورأى الشافعي وغيره الوضيعة واجبة يحكم بها الحاكم على المكاتب وعلى ورثته ، وقال الحسن والنخعي ، وبريدة إنما الخطاب بقوله تعالى : { وآتوهم } للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين وأن يعينوهم في فكاك رقابهم ، وقال زيد بن أسلم إنما الخطاب لولاة الأمور بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم وهو الذي تضمنه قوله تعالى :
{ وفي الرقاب }{[8713]} [ البقرة : 177 ] .
{ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين }
روي أن سبب هذه الآية هو أن عبد الله بن أبي ابن سلول كانت له أمة تسمى مسيكة ، وقيل معادة{[8714]} ، فكان يأمرها بالزنا والكسب به ، فشكت ذلك إلى النبي عليه السلام ، فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين وقوله : { إن أردن تحصناً } راجع إلى «الفتيات » ، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يتصور ويمكن أن يكون السيد مكرهاً ، ويمكن أن ينهى عن الإكراه وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن ، فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها لأن الإكراه لا يتصور فيها هي مريدة للزنا ، فهذا أمر في سادة وفتيات{[8715]} حالهم هذه ، وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين فقال بعضهم قوله : { إن أردن } راجع إلى { الأيامى } [ النور : 32 ] في قوله : { وأنكحوا الأيامى منكم } ، وقال بعضهم هذا الشرط في قوله : { إن أردن } ملغى ونحو هذا مما ضعف والله الموفق للصواب برحمته ، وعرض { الحياة الدنيا } ، في هذه الآية الشيء الذي تكتسبه الأمة بفرجها ومعنى باقي الآية بين { فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } ، بهن ، وقد يتصور الغفران والرحمة بالمكرهين بعد أن تقع التوبة من ذلك ، فالمعنى { غفور } لمن تاب ، وقرأ ابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن جبير «لهن غفور رحيم » بزيادة «لهن » .
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
أمِر كل من تعلق به الأمر بالإنكاح بأن يلازموا العفاف في مدة انتظارهم تيسير النكاح لهم بأنفسهم أو بإذن أوليائهم ومواليهم . والسين والتاء للمبالغة في الفعل ، أي وليعف الذين لا يجدون نكاحاً . ووجه دلالته على المبالغة أنه في الأصل استعارة . جعل طلب الفعل بمنزلة طلب السعي فيه ليدل على بذل الوسع .
ومعنى { لا يجدون نكاحاً } لا يجدون قدرة على النكاح ففيه حذف مضاف . وقيل النكاح هنا اسم ما هو سبب تحصيل النكاح كاللباس واللحاف . فالمراد المهر الذي يبذل للمرأة .
والإغناء هنا هو إغناؤهم بالزواج . والفضل : زيادة العطاء .
{ والذين يَبْتَغُونَ الكتاب مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم فكاتبوهم إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذى ءاتاكم } .
لما ذُكر وعد الله مَن يزوج من العبيد الفقراء بالغنى وكان من وسائل غناه أن يذهب يكتسب بعمله وكان ذلك لا يستقل به العبد لأنه في خدمة سيده جعل الله للعبيد حقاً في الاكتساب لتحرير أنفسهم من الرق ويكون في ذلك غنى للعبد إن كان من ذوي الأزواج . أمر الله السادة بإجابة من يبتغي الكتابة من عبيدهم تحقيقاً لمقصد الشريعة من بث الحرية في الأمة ، ولمقصدها من إكثار النسل في الأمة ، ولمقصدها من تزكية الأمة واستقامة دينها .
{ والذين } مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره { فكاتبوهم } وهذا الثاني هو اختيار سيبويه والخليل .
ودخول الفاء في { فكاتبوهم } لتضمين الموصول معنى الشرطية كأنه قيل : إن ابتغى الكتاب ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ، تأكيداً لترتب الخير على تحقق مضمون صلة الموصول بأن يكون كترتب الشروط على الشرط .
والكتاب : مصدر كاتب إذا عاقد على تحصيل الحرية من الرق على قدر معين من المال يُدفع لسيد العبد منجماً ، أي موزعاً على مواقيت معينة ، كانوا في الغالب يوقتونها بمطالع نجوم المنازل مثل الثريا فلذلك سموا توقيت دفعها نجماً وسموا توزيعها تنجيماً ، ثم غلب ذلك في كل توقيت فيقال فيه : تنجيم . وكذلك الديات والحمالات كانوا يجعلونها موزعة على مواقيت فيسمون ذلك تنجيماً وكان تنجيم الدية في ثلاث سنين على السواء ، قال زهير :
تُعَفّى الكلوم بالمئين فأصبحت *** يُنجِّمها من ليس فيها بمُجرم
وسموا ذلك كتابة لأن السيد وعبده كانا يسجلان عقد تنجيم عوض الحرية بصك يكتبه كاتب بينهما ، فلما كان في الكتب حفظ لحق كليهما أطلق على ذلك التسجيل كتابة لأن ما يتضمنه هو عقد من جانبين ، وإن كان الكاتب واحداً والكتب واحداً . وفي حديث عبد الرحمن بن عوف : كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة .
ومعنى { إن علمتم فيهم خيراً } إن ظننتم أنهم لا يبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكناً من الإباق ، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبداً كما كان .
وكانت الكتابة معروفة من عهد الجاهلية ولكنها كانت على خيار السيد فجاءت هذه الآية تأمر السادة بذلك إن رغبه العبد أو لحثه على ذلك على اختلاف بين الأئمة في محمل الأمر من قوله تعالى : { فكاتبوهم } . فعن عمر بن الخطاب ومسروق وعمرو بن دينار وابن عباس والضحاك وعطاء وعكرمة والظاهرية أن الكتابة واجبة على السيد إذا علم خيراً في عبده وقد وكله الله في ذلك إلى علمه ودينه ، واختاره الطبري وهو الراجح لأنه يجمع بين مقصد الشريعة وبين حفظ حق السادة في أموالهم فإذا عرض العبد اشتراء نفسه من سيده وجب عليه إجابته . وقد هم عمر بن الخطاب أن يضرب أنس بن مالك بالدرّة لما سأله سيرين عبدُه أن يكاتبه فأبى أنس . وذهب الجمهور إلى حمل الأمر على الندب .
وقد ورد في السنة حديث كتابة بريرة مع سادتها وكيف أدت عنها عائشة أم المؤمنين مال الكتابة كله . وذكر ابن عطية عن النقاش ومكي بن أبي طالب أن سبب نزول هذه الآية : أن غلاماً لحويطب بن عبد العزى أو لحاطب بن أبي بلتعة اسمه صبيح القبطي أو صُبْح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فأنزل الله هذه الآية فكاتبه مولاه . وفي « الكشاف » أن عمر بن الخطاب كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام .
والظاهر أن الخطاب في قوله : { وآتوهم من مال الله الذي ءاتاكم } موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه . وكذلك قال مالك : يوضع عن المكاتب من آخر كتابته ما تسمح به نفس السيد . وحدده بعض السلف بالربع وبعضهم بالثلث وبعضهم بالعشر .
وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ ( الإيتاء ) وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطاً لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء كما سمي إكمال المطلِّق قبل البناء لمطلقته جميعَ الصداق عفواً في قوله تعالى : { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } [ البقرة : 237 ] في قول جماعة في محمل { الذي بيده عقدة النكاح } منهم الشافعي .
وقال بعض المفسرين : الخطاب في قوله : { وءاتوهم } للمسلمين . أمرهم الله بإعانة المكاتبين .
والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء وحمله الشافعي على الوجوب . وقال إسماعيل بن حماد القاضي : وجعل الشافعي الكتابة غير واجبة وجعل الأمر بالإعطاء للوجوب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجباً وهذا لا نظير له ا ه . وفيه نظر .
وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله .
وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه .
والموصول في قوله { الذي آتاكم } يجوز أن يكون وصفاً ل { مال الله } ويكون العائد محذوفاً تقديره : آتاكموه . ويجوز أن يكون وصفاً لاسم الجلالة فيكون امتناناً وحثاً على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة ويكون مفعول { ءاتاكم } محذوفاً للعموم ، أي ءاتاكم على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة . ويكون مفعول { ءاتاكم } محذوفاً للعموم ، أي ءاتاكم نعماً كثيرة كقوله : { وءاتاكم من كل ما سألتموه } [ إبراهيم : 34 ] .
وأحكام الكتابة وعجز المكاتَب عن أداء نجومه ورجوعه مملوكاً وموت المكاتب وميراث الكتابة وأداء أبناء المكاتب نجوم كتابته مبسوطة في كتب الفروع .
{ وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
انتقال إلى تشريع من شؤون المعاملات بين الرجال والنساء التي لها أثر في الأنساب ومن شؤون حقوق الموالي والعبيد ، وهذا الانتقال لمناسبة ما سبق من حكم الاكتساب المنجر من العبيد لمواليهم وهو الكتابة فانتقل إلى حكم البغاء .
والبغاء مصدر : باغت الجارية ، إذا تعاطت الزنى بالأجر حرفة لها ، فالبغاء الزنى بأجرة . واشتقاق صيغة المفاعلة فيه للمبالغة والتكرير ولذلك لا يقال إلا : باغت الأمة . ولا يقال : بغَتْ . وهو مشتق من البَغي بمعنى الطلب كما قال عياض في « المشارق » لأن سيد الأَمَة بغى بها كسباً . وتسمى المرأة المحترفة به بَغياً بوزن فعول بمعنى فاعل ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث . فأصل بَغيّ بغوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقُلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء .
وقد كان هذا البغاء مشروعاً في الشرائع السالفة فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح 38 : « فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل ( عينائم ) التي على الطريق » ثم قال فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها فمال إليها على الطريق وقال : هاتي أدخل عليك . فقالت : ماذا تعطيني ؟ فقال : أرسل لك جدي معزى من الغنم . . ثم قال ودخل عليها فحبلت منه » .
وقد كانت في المدينة إماء بغايا منهن ست إماء لعبد الله بن أُبَي بن سلول وهن : مُعاذة ومُسيكة وأمَيْمَةُ وَعمرَةُ وأرْوَى وقتيلة ، وكان يُكرههن على البغاء بعد الإسلام . قال ابن العربي : روى مالك عن الزهري أن رجلاً من أسرى قريش في يوم بدر قد جُعل عند عبد الله بن أبي وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت وكان عبد الله بن أُبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه ( أي من الأسير القرشي ) فيطلب فداء ولده ، أي فداء رقه من ابن أُبَيّ . ولعل هذا الأسير كان مؤسراً له مال بمكة وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل يدفعها لسيد الأمة ، وأنها شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية .
وقالوا إن عبد الله بن أُبَيّ كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامة له . فأقبلت معاذة إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكر أبو بكر ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم فأمر النبي أبا بكر بقبضها فصاح عبد الله بن أُبَيّ : مَنْ يعذِرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا . فأنزل الله هذه الآية ، أي وذلك قبل أن يتظاهر عبد الله بن أُبَيّ بالإسلام . وجميع هذه الآثار متظافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن .
وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البيطار ليعرفهن الرجال ، وهن كما ذكر الواحدي : أم مهزول جارية السائب المخزومي ، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية ، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل ، ومزنة جَارية مالك بن عميلة بن السباق ، وجَلالة جارية سهيل بن عمرة ، وأم سُويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وشريفة جارية ربيعة بن أسود . وقرينة أو قريبة جارية هشام بن ربيعة ، وقرينة جارية هلال بن أنس . وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير .
قلت : وتقدم أن من البغايا عَناق ولعلها هي أم مهزول كما يقتضيه كلام القرطبي في تفسير قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } [ النور : 3 ] . ولم أقف على أن واحدة من هؤلاء اللاتي كنّ بمكة أسلمت وأما اللائي كنّ بالمدينة فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة ، ولم أقف على أسماء الثلاث الأخر في الصحابة فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن .
والبغاء في الجاهلية كان معدوداً من أصناف النكاح . ففي الصحيح من حديث عائشة أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :
فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيُصدقها ثم ينكحها .
ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب . وإنما يُفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع .
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدتُّ فهو ابنك يا فلان . تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها .
ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها ، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علماً ، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت جُمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودُعي ابنَه ، فلما بُعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم اه .
فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق . وكانت عَنَاقُ صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلازانية أو مشركة } [ النور : 3 ] . وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب وكانوا يسمون أجرهن مهراً كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله نهى عن مهر البغي ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات جمع فتاة بمعنى الأمة ، كما قالوا للعبد : غلام .
واعلم أن تفسير هذه الآية معضل وأن المفسرين ما وفَّوها حق البيان وما أتوا إلا إطناباً في تكرير مختلف الروايات في سبب نزولها وأسماء من وردت أسماؤهم في قضيتها دون إفصاح عما يستخلصه الناظر من معانيها وأحكامها .
ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى : { ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء } موجه إلى المسلمين ، فإن كانت قصة أمة ابن أُبَيّ حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول فشمله العموم لا محالة ، وإن كانت حدثت قبل أن يُظهر الإسلام فهو سبب ولا يشمله الحكم لأنه لم يكن من المسلمين يومئذٍ وإنما كان تذمر أمته منه داعياً لنهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء . وأيّاً مَّا كان فالفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة .
وقد كان إظهار عبد الله بن أبيّ الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمناً في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارهاً مصرّاً على النفاق . ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبيّ حين نزلت : مَنْ يعذِرنا من محمد يغلِبنا على مماليكنا ، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمناً بعد الهجرة بنحو سنة .
ولا شك أن البغاء يمت إلى الزنى بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزنى سراً لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علناً ، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذين تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغيّ بأن الحمل ممن تعيّنه . واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيهاً بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد .
ولا شك في أن الزنى كان محرماً تحريماً شديداً على المسلم من مبدإ ظهور الإسلام . وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها . وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم .
ولا يعقل أن يكون البغاء محرماً قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء ، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرّم بين المسلمين أمثالهم .
ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [ النساء : 43 ] توطئة لتحريم الخمر البتة . وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله : { إن أردن تحصناً } بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف ، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن .
والداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن . ففي ذكر القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به .
وذكر { إن أردن تحصناً } لحالة الإكراه إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين وغالب الإباء أن يكون عن إرادة التحصن . هذا تأويل الجمهور ورجعوا في الحامل على التأويل إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر انعقد الإجماع على مقتضاه فلا نزاع في أن الإجماع على تحريم البغاء ولكن النظر في أن تحريمه هل كان بهذه الآية .
وأنا أقول : إن ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول .
والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلاً على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن . فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريماً باتاً . فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه ، ثم لم يلبث أن حرم تحريماً مطلقاً كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغيّ ، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء .
وقد يكون هذا الاحتمال معضوداً بقوله تعالى بعده : { ومن يكرههنّ فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } كما يأتي .
وفي « تفسير الأصفهاني » : « وقيل إنما جاء النهي عن الإكراه لا عن البغاء لأن حد الزنا نزل بعد هذا » .
وهذا يقتضي أن صاحب هذا القول يجعل أول السورة نزل بعد هذه الآيات ولا يعرف هذا .
وقوله : { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } متعلق ب { تكرهوا } أي لا تكرهوهن لهذه العلة . ذكر هذه العلة لزيادة التبشيع كذكر { إن أردن تحصناً } .
و { عرض الحياة } هو الأجر الذي يكتسبه الموالي من إمائهم وهو ما يسمى بالمهر أيضاً .
وأما قوله : { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } فهو صريح في أنه حكم متعلق بالمستقبل لأنه مضارع في حيّز الشرط ، وهو صريح في أنه عَفْو عن إكراه .
والذي يشتمل عليه الخبر جانبان : جانب المُكرِهين وجانب المُكرَهات ( بفتح الراء ) ، فأما جانب المكرهين فلا يخطر بالبال أن الله غفور رحيم لهم بعد أن نهاهم عن الإكراه إذ ليس لمثل هذا التبشير نظير في القرآن .
وأما الإماء المُكرَهات فإن الله غفور رحيم لهن . وقد قرأ بهذا المقدر عبد الله بن مسعود وابن عباس فيما يروى عنهما وعن الحسن أنه كان يقول : « غفور رحيم لهن والله لهن والله » . وجعلوا فائدة هذا الخبر أن الله عذرالمُكرَهات لأجل الإكراه ، وأنه من قبيل قوله : { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم } [ البقرة : 173 ] . 5 وعلى هذا فهو تعريض بالوعيد للذين يُكرِهون الإماء على البغاء .
ومن المفسرين من قدر المحذوف ضمير ( مَن ) الشرطية ، أي غفور رحيم له ، وتأولوا ذلك بأنه بعد أن يقلع ويتوب وهو تأويل بعيد .
وقوله : { فإن الله غفور رحيم } دليل جواب الشرط إذ حذف الجواب إيجازاً واستغني عن ذكره بذكر علته التي تشمله وغيره . والتقدير : فلا إثم عليهن فإن الله غفور رحيم لأمثالهن ممن أكره على فعل جريمة . والفاء رابطة الجواب .
وحرف ( إنّ ) في هذا المقام يفيد التعليل ويغني غناء لام التعليل .