ثم أنزل الله تحريم من عدا نسائه اللواتي في عصمته فعلا ، لا من ناحية العدد ، ولكن هن بذواتهن لا يستبدل بهن غيرهن ؛ ولم يعرف أن رسول الله قد زاد عليهن قبل التحريم :
( لا يحل لك النساء من بعد ، ولا أن تبدل بهن من أزواج - ولو أعجبك حسنهن )لا يستثني من ذلك - ( إلا ما ملكت يمينك ) . . فله منهن ما يشاء . . ( وكان الله على كل شيء رقيبا ) . . والأمر موكول إلى هذه الرقابة واستقرارها في القلوب .
وقد روت عائشة - رضي الله عنها - أن هذا التحريم قد ألغي قبل وفاة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وتركت له حرية الزواج . ولكنه [ صلى الله عليه وسلم ] لم يتزوج كذلك غيرهن بعد هذه الإباحة . فكن هن أمهات المؤمنين . .
{ لا يحل لك النساء } بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي ، وقرأ البصريان بالتاء . { من بعد } من بعد التسع وهو في حقه كالأربع في حقنا ، أو من بعد اليوم حتى لو ماتت واحدة لم يحل له نكاح أخرى . { ولا أن تبدل بهن من أزواج } فتطلق واحدة وتنكح مكانها أخرى و { من } مزيدة لتأكيد الاستغراق . { ولو أعجبك حسنهن } حسن الأزواج المستبدلة ، وهو حال من فاعل { تبدل } دون مفعوله وهو { من أزواج } لتوغله في التنكير ، وتقديره مفروضا اعجابك بهن واختلف في أن الآية محكمة أو منسوخة بقوله : { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } على المعنى الثاني فإنه وإن تقدمها قراءة فهو مسبوق بها نزولا . وقيل المعنى لا يحل لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللاتي نص على إحلالهن لك ولا أن تبدل بهن أزواجا من أجناس آخر . { إلا ما ملكت يمينك } استثناء من النساء لأنه يتناول الأزواج والإماء ، وقيل منقطع . { وكان الله على كل شيء رقيبا } فتحفظوا أمركم ولا تتخطوا ما حد لكم .
وقوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد } قيل كما قدمنا إنها خطرت عليه النساء إلا التسع اللواتي كنَّ عنده ، فكأن الآية ليست متصلة بما قبلها ، قال ابن عباس وقتادة لما هجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً ، وآلى منهن ثم خرج وخيرهن فاخترن الله ورسوله ، جازاهن الله بأن حظر عليه النساء غيرهن وقنعه بهن وحظر عليه تبديلهن ، ونسخ بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء ، وقال أبيّ بن كعب وعكرمة قوله { لا يحل لك النساء من بعد } أي من بعد الأصناف التي سميت ، ومن قال إن الإباحة كانت له مطلقة قال هنا { لا يحل لك النساء } معناه لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا تأويل فيه بعد ، وإن كان روي عن مجاهد ، وكذلك روي أن تبدل اليهوديات والنصرانيات بالمسلمات ، وهذا قول أبي رزين وسعيد بن جبير ، وقال أبيّ بن كعب { من بعد } يعني لا يحل لك العمات والخالات ونحو ذلك ، وأمر مع ذلك بأن لا يتبدل بأزواجه التسع منه من أن يطلق منهن ويتزوج غيرهن قاله الضحاك ، وقيل بمن تزوج وحصل في عصمته أي لا يبدلها بأن يأخذ زوجة إنسان ويعطيه هو زوجته قال ابن زيد وهذا شيء كانت العرب تفعله .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول ضعيف أنكره الطبري وغيره في معنى الآية ، وما فعلت العرب قط هذا ، وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فقال من هذه الحميراء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه عائشة ، فقال عيينة : يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة العرب جمالاً ونسباً فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة لأنها كانت صبية فقال هذا القول{[9551]} ، وقرأ أبو عمرو بخلاف «لا تحل » بالتاء على معنى جماعة النساء ، وقرأ الباقون «لا يحل » بالياء من تحت على معنى جميع النساء وهما حسنان لأن تأنيث لفظ النساء ليس بحقيقي ، وقوله تعالى : { ولو أعجبك حسنهن } ، قال ابن عباس نزل ذلك بسبب أسماء بنت عميس أعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات عنها جعفر بن أبي طالب وفي هذه اللفظة { أعجبك حسنهن } دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها ، وقد أراد المغيرة بن شعبة زواج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «انظر إليها فإنه أجدر أن يؤدم بينكما »{[9552]} وقال عليه السلام لآخر : «انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً »{[9553]} ، قال الحميدي يعني «صغراً » ، وقال سهل بن أبي حثمة رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحاك على أجار من أجاجير{[9554]} المدينة فقلت له أتفعل هذا ؟ فقال نعم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها »{[9555]} ، وقوله تعالى : { إلا ما ملكت يمينك } { ما } في موضع رفع بدل من { النساء } ، ويجوز أن تكون في موضع نصب على الاستثناء ، وفي النصب ضعف ، ويجوز أن تكون { ما } مصدرية والتقدير إلا ملك يمينك وملك بمعنى مملوك ، وهو في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول{[9556]} ، و «الرقيب » فعيل بمعنى فاعل أي راقب{[9557]} .
موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع ، على أن حذف ما أضيفت إليه { بعدُ } ينادي على أنه حذْفُ معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخّرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يُتردد فيه ، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو : إمّا أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبله ، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله : { إنا أحللنا لك أزواجك } [ الأحزاب : 50 ] الخ . وإمّا أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان ، أي من بعد هذا الوقت ، والأول الراجح .
و { بعد } يجوز أن يكون بمعنى ( غير ) كقوله تعالى : { فمن يهديه من بعد الله } [ الجاثية : 23 ] وهو استعمال كثير في اللغة ، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها ، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله : { ولا أن تبدل بهن من أزواج } أي غيرهن ، وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال : « نُهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات » فقال : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك } فأحل الله المملوكات المؤمنات { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } [ الأحزاب : 50 ] . ومثل هذا مروي عن أُبَيّ بن كعب وعكرمة والضحاك . ويجوز أن يكون { بعدُ } مراداً به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيَتعينُ تقدير لفظ يدل على شيء سابق .
وبناء { بعدُ } على الضم يقتضي تقدير مضاف إليه محذوففٍ يدل عليه الكلام السابق على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في « شرحه على قطر الندى » ، فيجوز أن يكون التقدير : من بعدِ مَن ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر : من غير مَن ذكرن ، أو يقدر من بعدِ من ذُكرن ، فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذُكرن ( وكن تسعاً ) ، أو مَن اخترتهن .
ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتاً ، أي بعد اليوم أو الساعة ، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخاً لقوله : { إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله : خالصة لك } [ الأحزاب : 50 ] .
وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت : « ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء » . وقال حديث حسن . ( وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة ) فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها : ما مات ، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخة للإِباحة التي عنتها عائشة ولذلك فالإِباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أمّ سلمة .
و { النساء } إذا أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج ، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة :
حذارا على أن لا تُنال مقادتي *** ولا نِسوتي حتى يَمُتْنَ حرائرا
أي لا تحل لك الأزواج من بعد مَنْ ذُكِرْن .
وقوله : { ولا أن تبدل بهن } أصله : تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً ، يقال : بَدَّل وتبدَّل بمعنى واحد ، ومادة البدل تقتضي شيئين : يعطي أحدهما عوضاً عن أخذ الآخر ، فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطَى بالباء أو بحرف { مِن } ، وتقدم عند قوله تعالى : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل } في سورة البقرة ( 108 ) .
والمعنى : أن من حصلتْ في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحلّ لك أن تطلقها ، فكنى بالتبدل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرءَ لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى ، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخرُ الآية أولَها وسابقتها ، فإن الرسول أحلت له الزيادة على النساء اللاتي عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن ، فإذا كانت المستبدَلَة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرَّم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين ، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاماً في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها بغيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنّى به عن الطلاق وملاحظاً فيه نية الاستبدال . فالمعنى : أن الرسول أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلْن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة .
والمعنى : ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجاً أخرى .
وضمير { بهن } عائد إلى ما أضيف إليه { بعد } المقدَّر وهن الأصناف الثلاثة .
والمعنى : ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها .
و { مِن } مزيدة على المفعول الثاني ل { تبدل } لقصد إفادة العموم . والتقدير : ولا أن تبَدَّل بهن أزواجاً أُخرَ ، فاختص هذا الحكم بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله : { إلا ما ملكت يمينك } . وأما التي تهَب نفسَها فهي إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الأزواج ، فشملها حكمهن ، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف .
وقرأ الجمهور { لا يحل } بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غيرُ صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل . وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم .
وجملة { ولو أعجبك حسنهن } في موضع الحال والواو واوه ، وهي حال من ضمير { تبدل } . و { لو } للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير وتسمى وصلية ، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأوْلى ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ولو افتدى به } في آل عمران ( 91 ) .
والمعنى : لا يحلّ لك النساء من بعدُ بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حالة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك .
وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدّد له أصنافاً معينة وفيهن غناء .
وقد عبرت عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة ، إذ قالت للنبيء : ما أرى ربَّك إلا يُسارِع في هواك . وأُكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله : { وكان الله على كل شيء رقيباً } أي عالماً بِجَرْي كللِ شيء على نحو ما حدّده أو على خلافه ، فهو يجازي على حسب ذلك . وهذا وعد للنبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم .
والاستثناء في قوله : { إلا ما ملكت يمينك } منقطع . والمعنى : لكن ما ملكت يمينك حلالٌ في كل حال . والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ { النساء } في قوله : { لا يحل لك النساء } ما يرادف لفظ الإِناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم .