ذلك الأصل الذي قررته الآية الأولى في السورة ، يرتب عليه توجيه المؤمنين لقتال الكافرين . فهم على الحق الثابت الذي ينبغي أن يتقرر في الأرض ، ويستعلي ويهيمن على أقدار الناس والحياة ليصل الناس بالحق وليقيم الحياة على أساسه . والذين كفروا على الباطل الذي ينبغي أن يبطل وتذهب آثاره من الحياة :
( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب . حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد وإما فداء . حتى تضع الحرب أوزارها ) . .
واللقاء المقصود في الآية هنا هو اللقاء للحرب والقتال لا مجرد اللقاء . فحتى نزول هذه السورة كان المشركون في الجزيرة منهم المحارب ومنهم المعاهد ؛ ولم تكن بعد قد نزلت سورة " براءة " التي تنهي عهود المشركين المحددة الأجل إلى أجلها ، والمطلقة الأجل إلى أربعة أشهر ؛ وتأمر بقتل المشركين بعد ذلك أنى وجدوا في أنحاء الجزيرة - قاعدة الإسلام - أو يسلموا . كي تخلص القاعدة للإسلام .
وضرب الرقاب المأمور به عند اللقاء يجيء بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له طبعا . وهو تصوير لعملية القتل بصورتها الحسية المباشرة ، وبالحركة التي تمثلها ، تمشيا مع جو السورة وظلالها .
( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ) . .
والإثخان شدة التقتيل ، حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى ، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع . وعندئذ - لا قبله - يؤسر من استأسر ويشد وثاقه . فأما والعدو ما يزال قويا فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر .
وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف - كما رأى معظم المفسرين - بين مدلول هذه الآية ، ومدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر . والتقتيل كان أولى . وذلك حيث يقول تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . . فالإثخان أولا لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته ؛ وبعد ذلك يكون الأسر . والحكمة ظاهرة ، لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال . وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة . وكانت الكثرة للمشركين . وكان قتل محارب يساوي شيئا كبيرا في ميزان القوى حينذاك . والحكم ما يزال ساريا في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو ، وتعجيزه عن الهجوم والدفاع .
فأما الحكم في الأسرى بعد ذلك ، فتحدده هذه الآية . وهي النص القرآني الوحيد المتضمن حكم الأسرى :
( فإما منا بعد وإما فداء ) . .
أي إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل من مال أو من فداء لأسرى المسلمين . وإما أن يطلق مقابل فدية من مال أو عمل أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين .
وليس في الآية حالة ثالثة . كالاسترقاق أو القتل . بالنسبة لأسرى المشركين .
ولكن الذي حدث فعلا أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والخلفاء من بعده استرقوا بعض الأسرى - وهو الغالب - وقتلوا بعضهم في حالات معينة .
ونحن ننقل هنا ما ورد حول هذه الآية في كتاب " أحكام القرآن للإمام الجصاص الحنفي " ونعلق على ما نرى التعليق عليه في ثناياه . قبل أن نقرر الحكم الذي نراه :
قال الله تعالى : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب )قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان . وهو نظير قوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . . " وهذا صحيح فليس بين النصين خلاف " .
حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان . قال : حدثنا أبو عبيد . قال : حدثنا عبدالله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة . عن ابن عباس في قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . قال : ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار . إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم . شك أبو عبيد في . . وإن شاءوا استعبدوهم . . " والاستعباد مشكوك في صدور القول به عن ابن عباس فنتركه . وأما جواز القتل فلا نرى له سندا في الآية وإنما نصها المن أو الفداء .
وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا أبو مهدي وحجاج ، كلاهما عن سفيان . قال : سمعت السدي يقول في قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . قال : هي منسوخة ، نسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) : قال أبو بكر : أما قوله : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) . . وقوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . . وقوله : ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) . . فإنه جائز أن يكون حكما ثابتا غير منسوخ . وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] بالإثخان في القتل وحظر عليه الأسر - إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم - وكان ذلك وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين ، فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء . فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام . " ونقول : إن الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا خاص بمشركي الجزيرة . بينما النص في سورة محمد عام . فمتى تحقق الإثخان في الأرض جاز أخذ الأسارى . وهذا ما جرى عليه الخلفاء بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبعد نزول سورة براءة بطبيعة الحال ، ولم يقتلوهم إلا في حالات معينة سيأتي بيانها " . .
وأما قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . ظاهره يقتضي أحد شيئين : من أو فداء . وذلك ينفي جواز القتل . وقد اختلف السلف في ذلك . حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير ، وقال : من عليه أو فاده . وحدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : أخبرنا هشيم . قال : أخبرنا أشعث قال : سألت عطاء عن قتل الأسير فقال : من عليه أو فاده قال : وسألت الحسن . قال : يصنع به ما صنع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بأسارى بدر ، يمن عليه أو يفادى به . وروي عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء اصطخر ليقتله ، فأبى أن يقتله ، وتلا قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . وروي أيضا عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير . وقد روينا عن السدي أن قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء )منسوخ بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) . وروي مثله عن ابن جريج . حدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : هي منسوخة . وقال : قتل رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] عقبة ابن أبي معيط يوم بدر صبرا ، قال أبو بكر : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافا فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في قتله الأسير ، منها قتله عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر . وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعدما أسر . وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية . ومن على الزبير بن باطا من بينهم ، وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا ، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله . وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ، ومقيس بن حبابة ، وعبد الله بن أبي سرح ، وآخرين ، وقال : " اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " . ومن على أهل مكة ولم يغنم أموالهم . وروي عن صالح بنكيسان عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف ، أنه سمع أبا بكر الصديق يقول : " وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته ، وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا " . وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعدما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله . فهذه آثار متواترة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه . واتفق فقهاء الأمصار على ذلك . " وجواز القتل لا يؤخذ من الآية ، ولكن يؤخذ من عمل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبعض الصحابة . وتتبع الحالات التي وقع فيها القتل يعطي أنها حالات خاصة ، وراءها أسباب معينة غير مجرد التعرض للقتال والأسر . فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كلاهما كان له موقف خاص في إيذاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإيذاء دعوته . وكذلك أبو عزة الشاعر ، ولبني قريظة كذلك موقف خاص بارتضائهم حكم سعد بن معاذ سلفا . وهكذا نجد في جميع الحالات أسبابا معينة تفرد هذه الحالات من الحكم العام للأسرى الذي تقرره الآية : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . .
وإنما اختلفوا في فدائه ، فقال أصحابنا جميعا " يعني الحنفية " : لا يفادى الأسير بالمال ، ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا . وقال أبو حنيفة : لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ، ولا يردون حربا أبدا . وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين . وهو قول الثوري والأوزاعي ، وقال الأوزاعي : لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب ، ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون . وقال المزني عن الشافعي : للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم ، فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله : ( فإما منا بعد وإما فداء )وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين ؛ وبأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فدى أسارى بدر بالمال . ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران ابن حصين . قال : أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأسر أصحاب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجلا من بني عامر ابن صعصعة ؛ فمر به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو موثق ، فناداه ، فأقبل إليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : علام أحبس ? قال : " بجريرة حلفائك " . فقال الأسير : إني مسلم ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح " . ثم مضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فناداه أيضا ، فأقبل ، فقال : إني جائع فأطعمني . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " هذه حاجتك " . ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما . . ( وحجة القائلين بالفداء أرجح في تقديرنا من حجة أصحاب الإمام الجصاص على الاختلاف في الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين ) .
وقد ختم الإمام الجصاص القول في المسألة بترجيح رأي أصحابه الحنفية قال : وأما ما في الآية من ذكر المن والفداء ، وما روي في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) . . وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج . وقوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر )إلى قوله : ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) . فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك . ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة " براءة " بعد سورة " محمد " [ صلى الله عليه وسلم ] فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها . . " وقد سبق القول بأن هذا القتل للمشركين - أو الإسلام - مقصود به مشركو الجزيرة فهو حكم خاص بهم . أما غيرهم خارجهافتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب . وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين قبل التسليم . فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم ? نقول : إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة ، أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين ، إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية . فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى ، فحكم الأسرى يظل ساريا في الحالة التي لم تنته بالجزية ) .
والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى . وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر . وأنه هو الأصل الدائم للمسالة . وما وقع بالفعل خارجا عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية . فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائما نظائر ؛ وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر ، لا بمجرد خروجهم للقتال . ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيرا فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير . وإنما كان الأسر مجرد وسيلة للقبض عليه .
ويبقى الاسترقاق . وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة ، وتقاليد في الحرب عامة . ولم يكن ممكنا أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين . ومن ثم طبقه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى منا . وفادى ببعضهم أسرى المسلمين ، وفادى بعضهم بالمال . وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء .
فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى ، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي : ( فإما منا بعد وإما فداء )لانقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق . فليس الاسترقاق حتميا ، وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام .
وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم . ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث . . والله الموفق للصواب .
ويحسن أن يكون مفهوما أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرى ء الإسلام منها ! إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبدا ، فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير ، لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول : إنه يرى خيرا مما يرى الله . إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه .
وذلك . . - أي القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى - ( حتى تضع الحرب أوزارها ) . . أي حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له . فهي القاعدة الكلية الدائمة . ذلك أن " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " كما يقول رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] حتى تكون كلمة الله هي العليا .
والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر ، ولا يفرض عليهم هذا الجهاد ، لأنه يستعين بهم - حاشاه - على الذين كفروا . فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشرا ؛ وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض ؛ الإبتلاء الذي تقدر به منازلهم :
( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض . والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ، ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) . .
إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين ، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار ، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء . إن هؤلاء جميعا حفنة من الخلق . تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض ، بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية والمجرات والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مداها إلا الله في هذا الفضاء الذي تبدو فيه هذه المجرات والعوالم نقطا متناثرة ، تكاد تكون ضائعة ، لا يمسكها ولا يجمعها ولا ينسقها إلا الله .
فلا يبلغ هؤلاء ومن وراءهم من الأتباع ، بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلها ، أن يكونوا نمالا صغيرة . لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات . لا بل إنهم لا يبلغون شيئا أصلا حين يقفون أمام قوة الله .
إنما يتخذ الله المؤمنين - حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم - إنما يتخذهم سبحانه ستارا لقدرته . ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة . كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم . بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها ، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير . وهو يبتليهم ، ويربيهم ، ويصلحهم ، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار .
يريد ليبتليهم . وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات . فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به ، حتى تجاهد في سبيله فتقتل وتقتل ، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه ، ولا تستطيع الحياة بدونه ، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله .
ويريد ليربيهم . فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه . ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص ، وينفي كل زغل ودخل ، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد ، والتطلع إلى وجه الله ورضاه . فترجح هذه وتشيل تلك . ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت ، وأنها تربت فعرفت ، وأنها لا تندفع بلا وعي ولكنها تقدر وتختار .
ويريد ليصلحهم . ففي معاناة الجهاد في سبيل الله ، والتعرض للموت في كل جولة ، ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف ، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه . وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته . سواء سلم منه أو لاقاه . والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام ! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح .
ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها ، عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها ؛ وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله . ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه . . وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد . ويصبح عزيزا على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد ؛ وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح ، وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله !
ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب . وتيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم السوءى ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وعذابه . وكل ميسر لما خلق له . وفق ما يعلمه الله من سره ودخيلته .
ومن ثم يكشف عن مصير الذين يقتلون في سبيل الله :
( والذين قتلوا في سبيل الله ، فلن يضل أعمالهم
لن يضل أعمالهم . . في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم . فهي أعمال مهتدية واصلة مربوطة إلى الحق الثابت الذي صدرت عنه ، وانبعثت حماية له ، واتجاها إليه . وهي باقية من ثم لأن الحق باق لا يهدر ولا يضيع .
ثم نقف أمام هذه الحقيقة الهائلة . . حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله . . فهي حقيقة مقررة من قبل في قوله تعالى : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) . . ولكنها تعرض هنا عرضا جديدا . تعرض في حالة امتداد ونماء في طريقها الذي غادرت الحياة الدنيا وهي تسلكه وتتوخاه . طريق الطاعة والهداية والتجرد والنقاء :
{ فإذا لقيتم الذين كفروا } في المحاربة . { فضرب الرقاب } أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدر ، وأنيب منابه مضافا إلى المفعول ضما إلى التأكيد والإختصار . والتعبير به عن القتل إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقاب حيث أمكن ، وتصوير له بأشنع صورة . { حتى إذا أثخنتموهم } أكثرتم قتلهم وأغلظتموه من الثخين وهو الغليظ . { فشدوا الوثاق } فأسروهم واحفظوهم ، والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به . { فإما منا بعد وإما فداء } أي فإما تمنون منا أو تفدون فداء ، والمراد التخيير بعد الأسر بين المن والإطلاق وبين أخذ الفداء ، وهو ثابت عندنا فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر تخير الإمام بين القتل والمن والفداء ، والاسترقاق منسوخ عند الحنفية أو مخصوص بحرب بدر فإنهم قالوا يتعين القتل أو الاسترقاق . وقرئ " فدا " كعصا . { حتى تضع الحرب أوزارها } آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع ، أي تنقضي الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم . وقيل آثامها والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ، وهو غاية للضرب أو الشد أو للمن والفداء أو للمجموع بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيها حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم . وقيل بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام { ذلك } أي الأمر ذلك ، أو افعلوا بهم ذلك ، { ولو يشاء الله لأنتصر منهم } لانتقم منهم بالاستئصال ، { ولكن ليبلوا بعضكم ببعض } ولكن أمركم بالقتال ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر . { والذين قاتلوا في سبيل الله } أي جاهدوا ، وقرأ البصريان وحفص " قتلوا " أي استشهدوا . { فلن يضل أعمالهم } فلن يضيعها ، وقرئ " يضل " من ضل ويضل على البناء للمفعول .
قال ابن عباس وقتادة وابن جريج والسدي : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف التي في براءة : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10349]} [ التوبة : 5 ] وإن الأسر والمن والفداء مرتفع ، فمتى وقع أسر فإنما معه القتل ولا بد ، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه{[10350]} . وقال ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعطاء ما معناه : إن هذه الآية محكمة مبينة لتلك ، والمن والفداء ثابت ، وقد منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال ، وفادى أسرى بدر ، وقاله الحسن ، وقال : لا يقتل الأسير إلا في الحرب ، يهيب بذلك على العدو . وكان عمر بن عبد العزيز يفادي رجلاً برجل ، ومنع الحسن أن يفادوا بالمال . وقد أمر عمر بن عبد العزيز بقتل أسير من الترك ذكر له أنه قتل مسلمين . وقالت فرقة : هذه الآية خصصت من الأخرى أهل الكتاب فقط ، ففيهم المن والفداء ، وعباد الأوثان ليس فيهم إلا القتل . وعلى قول أكثر العلماء الآيتان محكمتان . وقوله هنا : { فضرب الرقاب } بمثابة قوله هناك : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }{[10351]} [ التوبة : 5 ] وصرح هنا بذكر المن والفداء ، ولم يصرح به هنالك ، وهو مراد متقرر ، وهذا هو القول القوي .
وقوله : { فضرب الرقاب } مصدر بمعنى الفعل ، أي فاضربوا رقابهم وعين من أنواع القتل أشهره وأعرفه فذكره ، والمراد : اقتلوهم بأي وجه أمكن ، وقد زادت آية : { واضربوا منهم كل بنان }{[10352]} [ الأنفال : 12 ] وهي من أنكى ضربات الحرب ، لأنها تعطل من المضروب جميع جسده ، إذ البنان أعظم آلة المقاتل وأصلها . و : { أثخنتموهم } معناه : بالقتل . والإثخان في القوم : أن يكثر فيهم القتلى والجرحى ، والمعنى : فشدوا الوثاق بمن لم يقتل ولم يترتب عليه إلا الأسر . و : { مناً } و : { فداء } مصدران منصوبان بفعلين مضمرين . وقرأ جمهور الناس : «فداء » . وقرأ شبل عن ابن كثير : «فدى » مقصوراً .
وإمام المسلمين مخير في أسراه في خمسة أوجه : القتل ، أو الاسترقاق ، أو ضرب الجزية ، أو الفداء ، أو المن . ويترجح النظر في أسير أسر بحسب حاله من إذاية المسلمين أو ضد ذلك .
وقوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } معناه : حتى تذهب وتزول أثقالها . والأوزار : الأثقال فيها والآلات لها ، ومنه قول الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
وأعددت للحرب أوزارها . . . رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا{[10353]}
وقال الثعلبي : وقيل الأوزار في هذه الآية : الآثام ، جمع وزر ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين .
واختلف المتأولون في الغاية التي عندها { تضع الحرب أوزارها } ، فقال قتادة : حتى يسلم الجميع فتضع الحرب أوزارها . وقال حذاق أهل النظر : حتى تغلبوهم وتقتلوهم .
وقال مجاهد حتى ينزل عيسى ابن مريم .
قال القاضي أبو محمد : وظاهر الآية أنها استعارة يراد لها التزام الأمر أبداً ، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا إلى يوم القيامة ، فإنما تريد : إنك تفعله دائماً .
وقوله تعالى : { ذلك } تقديره : الأمر ذلك . ثم قال : { ولو يشاء الله لانتصر منهم } أي بعذاب من عنده يهلكهم به في حين واحد ، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين وأن يبلو بعض الناس ببعض .
وقرأ جمهور الناس : «قاتلوا » وقرأ عاصم الجحدري بخلاف عنه : «قَتَلوا » بفتح القاف والتاء . وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم والأعرج وقتادة والأعمش : «قُتِلوا » بضم القاف وكسر التاء . وقرأ زيد بن ثابت والحسن والجحدري وأبو رجاء : «قُتِّلوا » بضم القاف وكسر التاء وشدها ، والقراءة الأولى أعمها وأوضحها معنى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله:"فَإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا" بالله ورسوله من أهل الحرب، فاضربوا رقابهم.
وقوله: "حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ "يقول: حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم، فصاروا في أيديكم أسرى، "فَشُدّوا الوَثاقَ" يقول: فشدّوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم، فيهربوا منكم.
وقوله: "فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً" يقول: فإذا أسرتموهم بعد الإثخان، فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم، وتخلوا لهم السبيل.
واختلف أهل العلم في قوله: "حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ، فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً"؛ فقال بعضهم: هو منسوخ نسخه قوله: "فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم" وقوله "فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ في الحَرْب فَشَرّدْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهُمْ"...
وقال آخرون: هي محكمة وليست بمنسوخة، وقالوا: لا يجوز قتل الأسير، وإنما يجوز المنّ عليه والفداء...
والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى، وذلك قوله: "فَاقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ..." الآية، بل ذلك كذلك، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب، فيقتل بعضا، ويفادي ببعض، ويمنّ على بعض، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْط وقد أُتي به أسيرا، وقتل بني قُرَيظة، وقد نزلوا على حكم سعد، وصاروا في يده سلِما، وهو على فدائهم والمنّ عليهم قادر، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ، وهو أسير في يده، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى، فخصّ ذكرهما فيها، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ماله فيهم مع القتل.
وقوله: "حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها" يقول تعالى ذكره: فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم، وافعلوا بأسراهم ما بيّنت لكم، حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم، فيؤمنوا به وبرسوله، ويطيعوه في أمره ونهيه، فذلك وضع الحرب أوزارها. وقيل: "حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها" والمعنى: حتى تلقي الحرب أوزار أهلها. وقيل: معنى ذلك: حتى يضع المحارب أوزاره... عن قتادة، قوله: "حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها" حتى لا يكون شرك...
وقوله: "ذلكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ" يقول تعالى ذكره: هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل المشركين إذا لقيتموهم في حرب، وشدّهم وثاقا بعد قهرهم، وأسرهم، والمنّ والفداء حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها هو الحقّ الذي ألزمكم ربكم، ولو يشاء ربكم ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة وكفاكم ذلك كله، ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم، وعقوبتهم عاجلاً إلا بأيديكم أيها المؤمنون "لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ" يقول: ليختبركم بهم، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين، ويبلوهم بكم، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحقّ... وقوله: "وَالّذِينَ قاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ"... والذين قاتلوا منكم أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين الله، وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى، فجاهدوهم في ذلك، "فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ" فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضلالاً عليهم كما أضلّ أعمال الكافرين...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ذلك إذا رجا المسلمون في ذلك غبطةً أو فائدةً؛ مثل إفراج الكفَّارِ عن قومٍ من المسلمين، أو بسبب ما يؤخذ من الفِداء.. وأمثال هذا، فحينئذٍ ذلك مُسَلّمٌ على ما يراه الإمام...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وضرب الرقاب عبارة عن القتل وإن ضرب غير رقبته من المقاتل، لأنّ الواجب أن تضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء، وذلك أنهم كانوا يقولون: ضرب الأمير رقبة فلان، وضرب عنقه وعلاوته، وضرب ما فيه عيناه إذا قتله، وذلك أن قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته، فوقع عبارة عن القتل، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل...
على أن في هذه العبارة من الغلظة والشدّة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صورة وهو حز العنق...
{أَثْخَنتُمُوهُمْ} أكثرتم قتلهم وأغلظتموه، من الشيء الثخين: وهو الغليظ. أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض {فَشُدُّواْ الوثاق} فأسروهم.أو زار الحرب: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح...
إلى أن لا يكون حرب مع المشركين. وذلك إذا لم يبق لهم شوكة...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{الَّذِينَ كَفَرُوا}: فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الْمُشْرِكُونَ...الثَّانِيَةُ كُلُّ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ وَلَا ذِمَّةَ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِعُمُومِ الْآيَةِ فِيهِ...
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ... وَهَذِهِ الْآيَةُ... مَنْسُوخَةٌ...
وَالصَّحِيحُ إحْكَامُهَا؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النَّسْخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا من الْمُعَارَضَةِ...
ما الحكمة في اختيار ضرب الرقبة على غيرها من الأعضاء نقول فيه...
والرقبة أظهر المقاتل لأن قطع الحلقوم والأوداج مستلزم للموت لكن في الحرب لا يتهيأ ذلك، والرقبة ظاهرة في الحرب ففي ضربها حز العنق وهو مستلزم للموت بخلاف سائر المواضع، ولاسيما في الحرب، وفي قوله {لقيتم} ما ينبئ عن مخالفتهم الصائل لأن قوله {لقيتم} يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا لقيكم، ولذلك قال في غير هذا الموضع {واقتلوهم حيث ثقفتموهم}...
{حتى} لبيان غاية الأمر لا لبيان غاية القتل أي حتى إذا أثخنتموهم لا يبقى الأمر بالقتل، ويبقى الجواز ولو كان لبيان القتل لما جاز القتل، والقتل جائز إذا التحق المثخن بالشيخ الهرم، والمراد كما إذا قطعت يداه ورجلاه فنهى عن قتله.
قوله تعالى: {فشدوا الوثاق} أمر إرشاد...
قوله تعالى: {ولكن ليبلو بعضكم ببعض}...
إشارة إلى عدم الحاجة تقريرا لقوله {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} أي: إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصدا بالسيوف، {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا} أي: أهلكتموهم قتلا {فشدوا} وثاق الأسارى الذين تأسرونهم، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجانا، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه. والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله، سبحانه، عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذوا منهم الفداء، والتقلل من القتل يومئذ...
{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي: هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونَكَال من عنده، {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم، ويبلو أخباركم...
{وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها. ومنهم من يجري عليه عمله في طول بَرْزَخه،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فإذا لقيتم} أي أيها المؤمنون {الذين كفروا} ولو بأدنى أنواع الكفر في أيّ مكان كان وأيّ زمان اتفق...
. {فضرب الرقاب} أي عقبوا لقيكم لهم من غير مهلة بأن تضربوا رقابهم ضرباً بالصدق في الضرب بما يزهق أرواحهم، فإن ذلك انتهاز للفرصة وعمل بالأحوط...
{حتى} وبشرهم بالتعبير بأداة التحقق فقال تعالى: {إذا أثخنتموهم} أي أغلظتم القتل فيهم وأكثرتموه...
{فشدوا} أي لأنه لا مانع لكم الآن من الأسر {الوثاق} أي الرباط الذي يستوثق به من الأسر بالربط على أيديهم مجموعة إلى أعناقهم -مجاز عن الأسر بغاية الاستيلاء والقهر...
{فإما منّاً} أي أن ينعموا عليهم إنعاماً {بعد} أي في جميع أزمان ما بعد الأسر باستبقائهم ثم بعد الإنعام باستبقائهم إما أن يكون ذلك مع الاسترقاق أو مع الإطلاق ثم الإطلاق إما مجاناً {وإما فداء} بمال أو بأسرى من المسلمين ونحو ذلك، فأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام أن الإبقاء غير واجب بل- جائز، ودخل في الإبقاء ثلاث صور: الاسترقاق والإطلاق مجاناً و بالفداء فصرح سبحانه وتعالى بالفداء الذي معناه الأخذ على وجه أنه قسيم للمن، فعلم أن المراد به الإبقاء مع عدم الأخذ فدخل فيه الإطلاق مجاناً وهو واضح والاسترقاق لأنه إنعام بالنسبة إلى القتل، وأفهم التعبير بالمن الذي معناه الإنعام من المنان الذي هو اسمه تعالى ومعناه المعطي ابتداء جواز القتل- لأن الإنعام مخير فيه لا واجب لأنه لو كان واجباً كان حقاً لا نعمة، فقد دخلت الصور الأربع في التعبير بهاتين الكلمتين...
{حتى} أي افعلوا ما أمرتكم به على ما جددت لكم إلى أن {تضع الحرب أوزارها} وهي أثقالها أي الآلات التي تثقل القائمين بها من النفقات والسلاح والكراع ونحوه، وذلك لا يكون وفي الأرض كافر...
ولما كانت الحرب كريهة إلى النفوس شديدة المشقة، أكد أمرها بما معناه: إن هذا أمر قد فرغ منه، فقال تعالى: {ذلك} أي الأمر العظيم العالي الحسن النافع الموجب لكل خير. ولما كان هذا ربما أوهم أن التأكيد في هذا الأمر لكون الحال لا يمكن انتظامه إلا به، أتبعه ما يزيل هذا- الإيهام فقال: {ولو} ولما كان لو عبر بالماضي أفاد أنه كان ولم يبق، عبر بالمضارع الدال على الحال وما بعده فقال: {يشاء الله} أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال والقدرة على ما يمكن {لانتصر منهم} أي بنفسه من غير أحد انتصاراً عظيماً بأن لا يبقى منهم أحداً {ولكن} أوجب ذلك عليكم {ليبلوا}. ولما كان الابتلاء ليس خاصاً بفريق منهم بل عاماً للفريقين لأنه يكشف عن أهل المحاسن وأهل- المساوئ من كل منهم، قال تعالى: {بعضكم} من الفرقة المؤمنين بالإنكار عليهم من الفرقة الطاغين حتى يكون لهم بذلك اليد البيضاء {ببعض} أي يفعل في ذلك فعل المختبر ليترتب عليه الجواء على حسب ما تألفونه من العوائد. ولما أفهم هذا أن الابتلاء بين فريقين بالجهاد، قال عاطفاً على ما تقديره: فالذين قاتلوا أو قتلوا في سبيل الشيطان أضل أعمالهم: {والذين قتلوا} وفي قراءة البصريين وحفص {قتلوا} وهي أكثر ترغيباً والأولى أعظم ترجية {في سبيل الله} أي لأجل تسهيل طريق الملك الأعظم المتصف بجميع صفات الكمال. ولما كان في سياق الترغيب، قرن الخبر بالفاء إعلاماً بأن أعمالهم سببه فقال تعالى: {فلن يضل} أي يضيع ويبطل {أعمالهم *} لكونها غير تابعة لدليل بل يبصرهم بالأدلة ويوفقهم لاتباعها، وهو معنى قوله تعالى تعليلاً: {سيهديهم..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فحتى نزول هذه السورة كان المشركون في الجزيرة منهم المحارب ومنهم المعاهد؛ ولم تكن بعد قد نزلت سورة "براءة "التي تنهي عهود المشركين المحددة الأجل إلى أجلها، والمطلقة الأجل إلى أربعة أشهر؛ وتأمر بقتل المشركين بعد ذلك أنى وجدوا في أنحاء الجزيرة -قاعدة الإسلام- أو يسلموا. كي تخلص القاعدة للإسلام. وضرب الرقاب المأمور به عند اللقاء يجيء بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له طبعا. وهو تصوير لعملية القتل بصورتها الحسية المباشرة، وبالحركة التي تمثلها، تمشيا مع جو السورة وظلالها...
(حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق).. والإثخان شدة التقتيل، حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع. وعندئذ -لا قبله- يؤسر من استأسر ويشد وثاقه. فأما والعدو ما يزال قويا فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر. وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف -كما رأى معظم المفسرين- بين مدلول هذه الآية، ومدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول [صلى الله عليه وسلم] والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر. والتقتيل كان أولى. وذلك حيث يقول تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة، والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).. فالإثخان أولا لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته؛ وبعد ذلك يكون الأسر. والحكمة ظاهرة، لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال. وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة. وكانت الكثرة للمشركين. وكان قتل محارب يساوي شيئا كبيرا في ميزان القوى حينذاك. والحكم ما يزال ساريا في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو، وتعجيزه عن الهجوم والدفاع. فأما الحكم في الأسرى بعد ذلك، فتحدده هذه الآية. وهي النص القرآني الوحيد المتضمن حكم الأسرى: (فإما منا بعد وإما فداء).. أي إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل من مال أو من فداء لأسرى المسلمين. وإما أن يطلق مقابل فدية من مال أو عمل أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين. وليس في الآية حالة ثالثة. كالاسترقاق أو القتل. بالنسبة لأسرى المشركين. ولكن الذي حدث فعلا أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] والخلفاء من بعده استرقوا بعض الأسرى -وهو الغالب- وقتلوا بعضهم في حالات معينة...
ونقول: إن الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا خاص بمشركي الجزيرة. بينما النص في سورة محمد عام. فمتى تحقق الإثخان في الأرض جاز أخذ الأسارى. وهذا ما جرى عليه الخلفاء بعد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وبعد نزول سورة براءة بطبيعة الحال، ولم يقتلوهم إلا في حالات معينة سيأتي بيانها"...
والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى. وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر. وأنه هو الأصل الدائم للمسالة. وما وقع بالفعل خارجا عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية. فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائما نظائر؛ وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر، لا بمجرد خروجهم للقتال. ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيرا فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير. وإنما كان الأسر مجرد وسيلة للقبض عليه. ويبقى الاسترقاق. وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة، وتقاليد في الحرب عامة. ولم يكن ممكنا أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام: (فإما منا بعد وإما فداء).. في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين. ومن ثم طبقه الرسول [صلى الله عليه وسلم] في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى منا. وفادى ببعضهم أسرى المسلمين، وفادى بعضهم بالمال. وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء. فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي: (فإما منا بعد وإما فداء) لانقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق. فليس الاسترقاق حتميا، وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام. وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم. ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث.. والله الموفق للصواب. ويحسن أن يكون مفهوما أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرى ء الإسلام منها! إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبدا، فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير، لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول: إنه يرى خيرا مما يرى الله. إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه. وذلك.. -أي القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى- (حتى تضع الحرب أوزارها).. أي حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له. فهي القاعدة الكلية الدائمة. ذلك أن "الجهاد ماض إلى يوم القيامة "كما يقول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حتى تكون كلمة الله هي العليا. والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر، ولا يفرض عليهم هذا الجهاد، لأنه يستعين بهم -حاشاه- على الذين كفروا. فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشرا؛ وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض؛ الابتلاء الذي تقدر به منازلهم: (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض. والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم. سيهديهم ويصلح بالهم، ويدخلهم الجنة عرفها لهم).. إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء. إن هؤلاء جميعا حفنة من الخلق. تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض ...
... (والذين قتلوا في سبيل الله، فلن يضل أعمالهم لن يضل أعمالهم.. في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم. فهي أعمال مهتدية واصلة مربوطة إلى الحق الثابت الذي صدرت عنه، وانبعثت حماية له، واتجاها إليه. وهي باقية من ثم لأن الحق باق لا يهدر ولا يضيع...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله: {حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاق}. وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى: {ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يُثْخِن في الأرض} [الأنفال: 67] الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقرراً يومئذٍ، وتقدم في سورة الأنفال. والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم. والمقصود: تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين. وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التّعليل من قوله: {حتى تضع الحرب أوزارها}. والمعنى: فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضّدتم شوكتهم، فأسروا منهم أسرى. وضرب الرقاب: كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض. والضرب هنا بمعنى: القطع بالسيف، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنّه أدل على شجاعة المحارب...
والذين كفروا: هم المشركون لأنّ اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر، نحو: الكافرين، والكفار، والذين كفروا، هو الشرك. و {حتى} ابتدائية. ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع. وإذا فسّر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فأسروا حينئذٍ، أي أبقوا الأسرى، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر. وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله: {حتى يُثخن في الأرض}. والمنُّ: الإنعام. والمراد به: إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق منٌّ عليه إذ لم يُقتل، والفداء: بكسر الفاء ممدوداً تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدّو. وقدم المن على الفداء ترجيحاً له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ...
... {الذين كفروا} عام في كل كافر، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حَربهم ويشمل من حارَب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار...
. واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحدُ قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي، ومِن السلف عبدُ الله بن عمر، وعطاءُ، وسعيدُ بن جبير: أن هذه الآية غير منسوخة، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء، وأمير الجيش مخيّر في ذلك. ويشبه أن يكون أصحاب هذا القول يرون أن مورد الآية الإذنُ في المنّ أو الفداء فهي ناسخة أو مُنهية لحكم قوله تعالى: ما كانَ لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله: {لمسَّكُم فيما أخذتم عذاب عظيم} في سورة الأنفال (67، 68). وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة، وأوقات المحاربة، فلذلك لم يقل هؤلاء بحَظْر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء، ولم يذكر معهما القتل. وقد ثبت في « الصحيح» ثبوتاً مستفيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل من أسرى بدر النضر بنَ الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية، وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ، وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة، وقتل بعد أحد أبا عزّة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر. وأيضاً لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق، وهو الأصل في الأسرى، وهو يدخل في المنّ إذا اعتبر المن شاملاً لترك القتل، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع. وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك: أنَّ المنّ من العتق. والغاية المستفادة من {حتى} في قوله: {حتى تضع الحرب أوزارها} للتعليل لا للتقييد، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها، أي ليكفّ المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال. والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهِن العدوَّ فيتركوا حربكم، فلا مفهوم لهذه الغاية، فالتعليل متصل بقوله: {فضرب الرقاب} وما بينهما اعتراض. والتقدير: فضرب الرقاب، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها، فيكون وارداً مورد التعليم والموعظة، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء. والأوزار: الأثقال، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمّال أو المسافر أثقاله، وهذا من مبتكرات القرآن. والبَلْوْ حقيقته: الاختبار والتجربة، وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار، وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس. {والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله: {فضرب الرقابِ} إلى قوله: {وإما فداء}، فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذُكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
الخطاب في الآيات موجه إلى المسلمين كما هو المتبادر وقد تضمنت:
(1) أمرا لهم بأن عليهم إذا لقوا الكافرين في الحرب أن يصدقوا في قتالهم حتى إذا أكثروا فيهم القتل وقهروهم، وضمنوا لأنفسهم الغلبة عليهم جنحوا إلى أسر ما بقي منهم، ويظل أمرهم معهم على هذا المنوال حتى تنتهي حالة الحرب، ويتخلص الناس من أعبائها.
(2) وتشريعا في حق الأسرى، فالمسلمون مخيرون فيهم بعد ذلك: فإما أن يمنوا ويتفضلوا عليهم فيطلقوهم بدون فداء، وإما أن يطلقوهم بفداء.
(3) واستطرادا تنبيهيا بأن الله قادر على التنكيل بالكفار والانتصار للمسلمين منهم بدون حاجة إلى قتالهم، ولكن حكمته شاءت أن يبلو بعضهم ببعض.
(4) وبشارة وتطمينا بأن الله تعالى لن يضيع أجر الذين قتلوا في سبيله. وأنه سيهدئ روعهم ويقر عيونهم ويدخلهم الجنة التي وصفها لهم... إضافة تعبير (وصدوا عن سبيل الله} إلى جملة {الذين كفروا} في الآية الأولى من السورة تدل على أن الأمر الذي احتوته الآية الأولى من الآيات التي نحن بصددها أي الآية الرابعة بقتال الكفار وضرب رقابهم حينما يلقاهم المسلمون هو صد الكفار الناس عن سبيل الله مع كفرهم. يتناول تعطيل الدعوة والكيد لها والعدوان على المسلمين... وتعبير {لانتصر منهم} مما يؤيد ذلك؛ لأن الانتصار هو رد العدوان ومقابلته بالمثل. وهكذا يكون الأمر بالقتال هنا متسقا مع المبادئ الجهادية التي انطوت عليها الآيات القرآنية وهي قتال المعتدي وليس قتال الكافر إطلاقا على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار...
وينطوي في جملة {إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق} حكم قرآني في هدف القتال وهو أنه ليس لللإبادة وإنما هو للتأديب والتنكيل والقهر. فحينما تتحقق هذه الغاية وجب الكف عن القتل والجنوح إلى الأسر. وليس من تعارض بين هذا الحكم وبين ما ورد في جملة {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} الواردة في آية الأنفال (67) بل وبينهما توافق. فهذه الجملة لم تمنع الأسر وإنما نبهت إلى أنه لا ينبغي أن يكون إلا بعد أن تكون هيبة النبي وقوته قد توطدتا في قلوب الأعداء ولم يبق من حرج في الأسر منهم بدلا من إبادتهم بالقتل، وحكم الجملة التي نحن في صددها قد سمحت بالأسر إذا ما أثخن المسلمون في أعدائهم وقهورهم، وتحققت لهم الغلبة عليهم ...
{حتى تضع الحرب أوزارها} إنها بمعنى حتى يسلموا أو يسالموا...
ومن الجدير بالذكر أن الأحداث المروية عن ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم في الأسرى تفيد أنه كان أكثر ما يمارس المن والفداء، وأنه لم يمارس القتل إلا في النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط لشدة أذاهما وأنه لم يمارس القتل والاسترقاق إلا في بني قريظة لشدة خطورة موقف الغدر والخيانة الذي وقفوه على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأنفال والأحزاب، وأن استرقاق سبي بني المصطلق وهوازن لم يستمر واستبدل بالمن. ولقد روى الإمام أبو عبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل مناديا يوم الفتح ينادي (ألا يقتلن أسير ولا يتبع هارب ولا يجهز على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن). بحيث يسوغ القول: إن المن والفداء هما الأكثر رعاية في سنن النبي، وأن القتل والاسترقاق وبخاصة القتل لم يطبقا إلا في ظروف خاصة اقتضتهما. وإذا لوحظ أن عادة استرقاق أسرى الحرب التي كانت عامة في جميع الأمم والبلاد كانت المصدر الرئيسي لعادة الاسترقاق الإنساني التي ظلت جارية في كثير من البلاد الإسلامية مدة طويلة إلى عهد حتى أن كلمة (الأسير) جاءت في آية قرآنية مرادفة للمملوك {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا} (الإنسان 8) ثم إذا لوحظ أن آية سورة محمد هي التي احتوت تشريعا مطلقا في ما ينبغي عمله في الأسرى، وأن هذا التشريع هو المن أو الفداء ظهرت لنا روعة هذا التشريع بتوجيهه ضربة حاسمة إلى هذه العادة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ اللقاء يستعمل أحياناً بمعنى اللقاء بأي شكل كان، وأحياناً بمعنى المواجهة والمجابهة في ميدان الحرب، واستعمل في القرآن المجيد بكلا المعنيين، والآية مورد البحث ناظرة إلى المعنى الثّاني. ومن هنا يتّضح أنّ أُولئك الذين حوّروا هذه الآية وفسّروها بأنّ الإسلام يقول: حيثما وجدتم كافراً فاقتلوه، لم يريدوا إلاّ الإساءة إلى الإسلام، واتخاذ الآية بمعناها المحرّف حربة ضد الدين الحنيف، محاولة منهم لتشويه صورة الإسلام الناصعة، وإلاّ فإنّ الآية صريحة في اللقاء في ساحة الحرب وميدان القتال...