فلنأخذ في التفصيل بعد هذا الإجمال . .
( شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولوا العلم - قائما بالقسط . لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . .
هذه هي الحقيقة الأولى التي يقوم عليها التصور الاعتقادي في الإسلام . حقيقة التوحيد : توحيد الألوهية ، وتوحيد القوامة . . القوامة بالقسط . . وهي الحقيقة التي بدأت بها السورة : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . . وهي تستهدف إقرار حقيقة العقيدة الإسلامية من جهة ، وجلاء الشبهات التي يلقيها أهل الكتاب من جهة . جلاءها عن أهل الكتاب أنفسهم ، وجلاءها عن المسلمين الذين قد تؤثر هذه الشبهات في عقيدتهم .
وشهادة الله - سبحانه - أنه لا إله إلا هو . . هي حسب كل من يؤمن بالله . . وقد يقال : إنه لا يكتفي بشهادة الله إلا من يؤمن بالله . وأن من يؤمن بالله ليس في حاجة إلى هذه الشهادة . . ولكن واقع الأمر أن أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله ولكنهم في نفس الوقت يجعلون له ابنا وشريكا . بل إن المشركين أنفسهم كانوا يؤمنون بالله ، ولكن الضلال كان يجيئهم من ناحية الشركاء والأنداد والأبناء والبنات ! فإذا قرر لهؤلاء وهؤلاء أن الله - سبحانه - شهد أنه لا إله إلا هو ، فهذا مؤثر قوي في تصحيح تصوراتهم .
على أن الأمر - كما يبدو من متابعة السياق كما تابعناه فيما تقدم - أعمق من هذا وأدق . فإن شهادة الله - سبحانه - بأنه لا إله إلا هو ، مسوقة هنا ليساق بعدها ما هو من مستلزماتها ؛ وهو أنه لا يقبل إذن من العباد إلا العبودية الخالصة له ، الممثلة في الإسلام بمعنى الاستسلام - لا اعتقادا وشعورا فحسب - ولكن كذلك عملا وطاعة واتباعا للمنهج العملي الواقعي المتمثل في أحكام الكتاب . . ومن هذه الناحية نجد كثيرين في كل زمان يقولون : إنهم يؤمنون بالله ، ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية ، حين يتحاكمون إلى شريعة من صنع غيره ، وحين يطيعون من لا يتبع رسوله وكتابه ؛ وحين يتلقون التصورات والقيم والموازين والأخلاق والآداب من غيره . . فهذه كلها تناقض القول بأنهم يؤمنون بالله . ولا تستقيم مع شهادة الله - سبحانه - بأنه لا إله إلا هو .
وأما شهادة الملائكة وشهادة أولي العلم ، فهي متمثلة في طاعتهم لأوامر الله وحدها ، والتلقي عن الله وحده ، والتسليم بكل ما يجيئهم من عنده بدون تشكك ولا جدال ، متى ثبت لهم أنها من عنده . وقد سبق في السورة بيان حال أولي العلم هؤلاء في قوله : ( والراسخون في العلم يقولون : آمنا به ، كل من عند ربنا ) . . فهذه شهادة أولي العلم وشهادة الملائكة : تصديق . وطاعة . واتباع . واستسلام .
وشهادة الله سبحانه وشهادة الملائكة وأولي العلم بوحدانية الله يصاحبها شهادتهم بأنه - تعالى - قائم بالقسط . بوصفها حالة ملازمة للألوهية .
( شهد الله أنه لا إله إلا هو - والملائكة وأولوا العلم - قائما بالقسط ) . .
فهي حالة ملازمة للألوهية كما تفيد صياغة العبارة . وهذا إيضاح للقوامة التي وردت في مطلع السورة :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) . . فهي قوامة بالقسط .
وتدبير الله لهذا الكون ولحياة الناس متلبس دائما بالقسط - وهو العدل - فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ، ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون ، التي يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر . . لا يتحقق هذا إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس ، وبينه في كتابه . وإلا فلا قسط ولا عدل ، ولا استقامة ولا تناسق ، ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان . وهو الظلم إذن والتصادم والتشتت والضياع !
وها نحن أولاء نرى على مدار التاريخ أن الفترات التي حكم فيها كتاب الله وحدها هي التي ذاق فيها الناس طعم القسط ، واستقامت حياتهم استقامة دورة الفلك - بقدر ما تطيق طبيعة البشر المتميزة بالجنوح إلى الطاعة والجنوح إلى المعصية ، والتأرجح بين هذا وذاك ؛ والقرب من الطاعة كلما قام منهج الله ، وحكم في حياة الناس كتاب الله . وأنه حيثما حكم في حياة الناس منهج آخر من صنع البشر ، لازمه جهل البشر وقصور البشر . كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور . ظلم الفرد للجماعة . أو ظلم الجماعة للفرد . أو ظلم طبقة لطبقة . أو ظلم أمة لأمة . أو ظلم جيل لجيل . . وعدل الله وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء . وهو إله جميع العباد . وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء .
( لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . .
يؤكد حقيقة وحدة الألوهية مرة أخرى في الآية الواحدة ، مصحوبة بصفة العزة وصفة الحكمة . والقدرة والحكمة لازمتان كلتاهما للقوامة بالقسط . فالقسط يقوم على وضع الأمور في مواضعها مع القدرة على إنفاذها . وصفات الله سبحانه تصور وتوحي بالفاعلية الإيجابية . فلا سلبية في التصور الإسلامي لله . وهو أكمل تصور وأصدقه لأنه وصف الله لنفسه سبحانه . وقيمة هذه الفاعلية الإيجابية أنها تعلق القلب بالله وإرادته وفعله ، فتصبح العقيدة مؤثرا حيا دافعا لا مجرد تصور فكري بارد !
{ شهد الله أنه لا إله إلا هو } بين وحدانيته بنصب الدلائل الدالة عليها وإنزال الآيات الناطقة بها . { والملائكة } بالإقرار . { وأولو العلم } بالإيمان بها والاحتجاج عليها ، شبه ذلك في البيان والكشف بشهادة الشاهد . { قائما بالقسط } مقيما للعدل في قسمه وحكمه وانتصابه على الحال من الله ، وإنما جاز إفراده بها ولم يجز جاء زيد وعمرو راكبا لعدم اللبس كقوله تعالى : { ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة } . أو من هو والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد قائما ، أو أحقه لأنها حال مؤكدة ، أو على المدح ، أو الصفة للمنفي وفيه ضعف للفصل وهو مندرج في المشهود به إذا جعلته صفة ، أو حالا من الضمير . وقرئ القائم بالقسط على البدل عن هو أو الخبر لمحذوف . { لا إله إلا هو } كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليبني عليه قوله : { العزيز الحكيم } فيعلم أنه الموصوف بهما ، وقدم العزيز لتقديم العلم بقدرته على العلم بحكمته ، ورفعهما على البدل من الضمير أو الصفة لفاعل شهد .
وقد روي في فضلهما أنه صلى الله عليه وسلم قال " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى : " إن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة " . وهي دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله .
أصل { شهد } في كلام العرب حضر ، ومنه قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }{[3028]} ثم صرفت الكلمة حتى قيل في أداء ما تقرر علمه في النفس بأي وجه تقرر من حضور أو غيره : شهد يشهد فمعنى { شهد الله } أعلم عباده بهذا الأمر الحق وبينه ، وقال أبو عبيدة : { شهد الله } معناه ، قضى الله وهذا مردود من جهات ، وقرأ جميع القراء : { أنه لا إله } بفتح الألف من { أنه } وبكسرها من قوله : { إن الدين } [ آل عمران : 19 ] واستئناف الكلام ، وقرأ الكسائي وحده «أن الدين » بفتح الألف ، قال أبو علي : «أن » بدل من { أنه } الأولى ، وإن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو ، لأن الإسلام هو التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل ، وإن شئت جعلت «إن الدين » بدلاً من القسط لأنه هو في المعنى . ووجه الطبري هذه القراءة ، بأن قدر في الكلام ، واو عطف ثم حذفت وهي مرادة كأنه قال : { وإن الدين } [ آل عمران : 19 ] وهذا ضعيف ، وقرأ عبد الله بن العباس : «إنه لا إله إلا هو » بكسر الألف من «إنه » ، وقرأ «أن الدين » بفتح الألف ، فأعمل { شهد } في «أن الدين » وجاء قوله : «إنه لا إله إلا هو » اعتراضاً جميلاً في نفس الكلام المتصل . وتأول السدي الآية على نحو قراءة ابن عباس فقال : الله وملائكته والعلماء يشهدون : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقرأ أبو المهلب{[3029]} عم محارب بن دثار{[3030]} ، «شهداء الله » على وزن فعلاء ، وبالإضافة إلى المكتوبة ، قال أبو الفتح{[3031]} ، هو نصب على الحال من الضمير في { المستغفرين } [ آل عمران : 17 ] وهو جمع شهيد أو جمع شاهد كعالم وعلماء ، وروي عن أبي المهلب هذا أنه قرأ «شهدُ الله » برفع الشهداء ، وروي عنه أنه قرأ «شُهُد الله » على وزن - فُعُل- بضم الفاء والعين ونصب شهداء على الحال ، وحكى النقاش أنه قرىء «شُهُد الله » بضم الشين والهاء ، والإضافة إلى المكتوبة قال : فمنهم من نصب الدال ومنهم من رفعها ، وأصوب هذه القراءات قراءة الجمهور ، وإيقاع الشهادة على التوحيد ، و { الملائكة وأولو العلم } عطف على اسم الله تعالى ، وعلى بعض ما ذكرناه من القراءات يجيء قوله : { والملائكة وأولو العلم }ابتداء وخبره مقدر ، كأنه قال : { والملائكة وأولو العلم } يشهدون و { قائماً } نصب على الحال من اسمه تعالى في قوله : { شهد الله } أو من قوله { إلا هو } وقرأ ابن مسعود «القائم بالقسط » والقسط العدل .