في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

33

( فتقبلها ربها بقبول حسن ، وأنبتها نباتا حسنا ) . .

جزاء هذا الإخلاص الذي يعمر قلب الأم ، وهذا التجرد الكامل في النذر . . وإعدادا لها أن تستقبل نفخة الروح ، وكلمة الله ، وأن تلد عيسى - عليه السلام - على غير مثال من ولادة البشر .

( وكفلها زكريا ) . .

أي جعل كفالتها له ، وجعله أمينا عليها . . وكان زكريا رئيس الهيكل اليهودي . من ذرية هارون الذين صارت إليهم سدانة الهيكل .

ونشأت مباركة مجدودة . يهيىء لها الله من رزقه فيضا من فيوضاته :

( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا . قال : يا مريم أنى لك هذا ؟ قالت : هو من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) . .

ولا نخوض نحن في صفة هذا الرزق كما خاضت الروايات الكثيرة . فيكفي أن نعرف أنها كانت مباركة يفيض من حولها الخير ويفيض الرزق من كل ما يسمى رزقا . حتى ليعجب كافلها - وهو نبي - من فيض الرزق . فيسألها : كيف ومن أين هذا كله ؟ فلا تزيد على أن تقول في خشوع المؤمن وتواضعه واعترافه بنعمة الله وفضله ، وتفويض الأمر إليه كله :

و من عند الله . إن الله يرزق من يشاء بغير حساب . .

وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه ، واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر ، لا التنفج به والمباهاة ! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٖ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنٗا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيۡهَا زَكَرِيَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقٗاۖ قَالَ يَٰمَرۡيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٍ} (37)

{ فتقبلها ربها } فرضي بها في النذر مكان الذكر . { بقبول حسن } أي بوجه حسن يقبل به النذائر ، وهو إقامتها مقام الذكر ، أو تسلمها عقيب ولادتها قبل أن تكبر وتصلح للسدانة . روي أن حنة لما ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة ، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم فقال زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها فأبوا إلا القرعة ، وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا . ويجوز أن يكون مصدرا على تقدير مضاف أي بذي قبول حسن ، وأن يكون تقبل بمعنى استقبل كتقضي وتعجل أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن . { وأنبتها نباتا حسنا } مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها { وكفلها زكريا } شدد الفاء حمزة والكسائي وعاصم ، وقصروا زكريا غير عاصم في رواية ابن عياش على أن الفاعل هو الله تعالى وزكريا مفعول أي جعله كافلا لها وضامنا لمصالحها ، وخفف الباقون . ومدوا " زكرياء " مرفوعا . { كلما دخل عليها زكريا المحراب } أي الغرفة التي بنيت لها ، أو المسجد ، أو أشرف مواضعه ومقدمها ، سمي به لأنه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس . { وجد عندها رزقا } جواب { كلما } وناصبه . روي : أنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب ، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس . { قال يا مريم أنى لك هذا } من أين لك هذا الرزق الآتي في غير أوانه والأبواب مغلقة عليك ، وهو دليل جواز الكرامة للأولياء . جعل ذلك معجزة زكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه . { قالت هو من عند الله } فلا تستبعده . قيل تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام ولم ترضع ثديا قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة . { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } بغير تقدير لكثرته ، أو بغير استحقاق تفضلا به . وهو يحتمل أن يكون من كلامهما وأن يكون من كلام الله تعالى . روي ( أن فاطمة رضي الله تعالى عنها أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها إليها وقال : هلمي يا بنية ، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فقال لها : أنى لك هذا ! فقالت : { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } ، فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل ، ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها ) .