( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ) . .
روي أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حينما أراد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحطم الفوارق الطبقية الموروثة في الجماعة المسلمة ؛ فيرد الناس سواسية كأسنان المشط . لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى . وكان الموالي - وهم الرقيق المحرر - طبقة أدنى من طبقة السادة . ومن هؤلاء كان زيد بن حارثة مولى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذي تبناه . فأراد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يحقق المساواة الكاملة بتزويجه من شريفة من بني هاشم ، قريبته [ صلى الله عليه وسلم ] زينب بنت جحش ؛ ليسقط تلك الفوارق الطبقية بنفسه ، في أسرته . وكانت هذه الفوارق من العمق والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تتخذ منه الجماعة المسلمة اسوة ، وتسير البشرية كلها على هداه في هذا الطريق .
روى ابن كثير في التفسير قال : قال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة ) . الآية . وذلك أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فدخل على زينب بنت جحش الأسدية - رضي الله عنها - فخطبها ، فقالت : لست بناكحته ! فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " بلى فانكحيه " . قالت : يا رسول الله . أؤامر في نفسي ? فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ) . . الآية . قالت : قد رضيته لي يا رسول الله منكحا ? قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " نعم " ! قالت : إذن لا أعصي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قد أنكحته نفسي !
وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : خطب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] زينب بنت جحش لزيد بن حارثة - رضي الله عنه - فاستنكفت منه ، وقالت : أنا خير منه حسبا - وكانت امرأة فيها حدة - فأنزل الله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة . . . )الآية كلها .
وهكذا قال مجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حين خطبها رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على مولاه زيد بن حارثة - رضي الله عنه - فامتنعت ثم أجابت .
وروى ابن كثير في التفسير كذلك رواية أخرى قال : وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله عنها - وكانت أول من هاجر من النساء - يعني بعد صلح الحديبية - فوهبت نفسها للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " قد قبلت " . فزوجها زيد بن حارثة - رضي الله عنه - [ يعني والله أعلم بعد فراقه زينب ] فسخطت هي وأخوها ، وقال : إنما أردنا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]فزوجنا عبده ! قال : فنزل القرآن : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا )إلى آخر الآية . قال : وجاء أمر أجمع من هذا : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )قال : فذاك خاص وهذا أجمع .
وفي رواية ثالثة : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ثابت البناني ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : خطب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على جليبيب امرأة من الأنصار إلى أبيها . فقال : حتى أستأمر أمها . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " فنعم إذن " . قال : فانطلق الرجل إلى امرأته ، فذكر ذلك لها ، فقالت : لاها الله ! إذن ما وجد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا جليبيبا ، وقد منعناها من فلان وفلان ? قال : والجارية في سترها تسمع . قال : فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بذلك . فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أمره ? إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه . قال : فكأنها جلت عن أبويها . وقالا : صدقت . فذهب أبوها إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : إن كنت قد رضيته فقد رضيناه . قال [ صلى الله عليه وسلم ] " فإني قد رضيته " . قال : فزوجها . . ثم فزع أهل المدينة ، فركب جليبيب ، فوجدوه قد قتل ، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم . قال أنس - رضي الله عنه - فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة . .
فهذه الروايات - إن صحت - تعلق هذه الآية بحادث زواج زينب من زيد - رضي الله عنهما - أو زواجه من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط .
وقد أثبتنا الرواية الثالثة عن جليبيب لأنها تدل على منطق البيئة الذي توكل الإسلام بتحطيمه ، وتولى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تغييره بفعله وسنته . وهو جزء من إعادة تنظيم الجماعة المسلمة على أساس منطق الإسلام الجديد ، وتصوره للقيم في هذه الأرض ، وانطلاق النزعة التحررية القائمة على منهج الإسلام ، المستمدة من روحه العظيم .
ولكن نص الآية أعم من أي حادث خاص . وقد تكون له علاقة كذلك بإبطال آثار التبني ، وإحلال مطلقات الأدعياء ، وحادث زواج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - بعد طلاقها من زيد . الأمر الذي كانت له ضجة عظيمة في حينه . والذي ما يزال يتخذه بعض أعداء الإسلام تكأة للطعن على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] حتى اليوم ، ويلفقون حوله الأساطير !
وسواء كان سبب نزول الآية ما جاء في تلك الروايات ، أو كانت بصدد زواج الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من زينب - رضي الله عنها - فإن القاعدة التي تقررها الآية أعم وأشمل ، وأعمق جدا في نفوس المسلمين وحياتهم وتصورهم الأصيل .
فهذا المقوم من مقومات العقيدة هو الذي استقر في قلوب تلك الجماعة الأولى من المسلمين استقرارا حقيقيا ؛ واستيقنته أنفسهم ، وتكيفت به مشاعرهم . . هذا المقوم يتلخص في أنه ليس لهم في أنفسهم شيء ؛ وليس لهم من أمرهم شيء . إنما هم وما ملكت أيديهم لله . يصرفهم كيف يشاء ، ويختار لهم ما يريد . وإن هم إلا بعض هذا الوجود الذي يسير وفق الناموس العام . وخالق هذا الوجود ومدبره يحركهم مع حركة الوجود العام ؛ ويقسم لهم دورهم في رواية الوجود الكبيرة ؛ ويقرر حركاتهم على مسرح الوجود العظيم . وليس لهم أن يختاروا الدور الذي يقومون به ، لأنهم لا يعرفون الرواية كاملة ؛ وليس لهم أن يختاروا الحركة التي يحبونها لأن ما يحبونه قد لا يستقيم مع الدور الذي خصص لهم ! وهم ليسوا أصحاب الرواية ولا المسرح ؛ وإن هم إلا أجراء ، لهم أجرهم على العمل ، وليس لهم ولا عليهم في النتيجة !
عندئذ أسلموا أنفسهم حقيقة لله . أسلموها بكل ما فيها ؛ فلم يعد لهم منها شيء . وعندئذ استقامت نفوسهم مع فطرة الكون كله ؛ واستقامت حركاتهم مع دورته العامة ؛ وساروا في فلكهم كما تسير تلك الكواكب والنجوم في أفلاكها ، لا تحاول أن تخرج عنها ، ولا أن تسرع أو تبطئ في دورتها المتناسقة مع حركة الوجود كله .
وعندئذ رضيت نفوسهم بكل ما يأتي به قدر الله ، لشعورهم الباطن الواصل بأن قدر الله هوالذي يصرف كل شيء ، وكل أحد ، وكل حادث ، وكل حالة . واستقبلوا قدر الله فيهم بالمعرفة المدركة المريحة الواثقة المطمئنة .
وشيئا فشيئا لم يعودوا يحسون بالمفاجأة لقدر الله حين يصيبهم ، ولا بالجزع الذي يعالج بالتجمل ؛ أو بالألم الذي يعالج بالصبر . إنما عادوا يستقبلون قدر الله استقبال العارف المنتظر المرتقب لأمر مألوف في حسه ، معروف في ضميره ، ولا يثير مفاجأة ولا رجفة ولا غرابة !
ومن ثم لم يعودوا يستعجلون دورة الفلك ليقضوا أمرا هم يريدون قضاءه ، ولم يعودوا يستبطئون الأحداث لأن لهم أربا يستعجلون تحقيقه ، ولو كان هذا الأرب هو نصر دعوتهم وتمكينها ! إنما ساروا في طريقهم مع قدر الله ، ينتهي بهم إلى حيث ينتهي ، وهم راضون مستروحون ، يبذلون ما يملكون من أرواح وجهود وأموال في غير عجلة ولا ضيق ، وفي غير من ولا غرور ، وفي غير حسرة ولا أسف . وهم على يقين أنهم يفعلون ما قدر الله لهم أن يفعلوه ؛ وأن ما يريده الله هو الذي يكون ، وأن كل أمر مرهون بوقته وأجله المرسوم .
إنه الاستسلام المطلق ليد الله تقود خطاهم ، وتصرف حركاتهم ؛ وهم مطمئنون لليد التي تقودهم ، شاعرون معها بالأمن والثقة واليقين ، سائرون معها في بساطة ويسر ولين .
وهم - مع هذا - يعملون ما يقدرون عليه ، ويبذلون ما يملكون كله ، ولا يضيعون وقتا ولاجهدا ، ولا يتركون حيلة ولا وسيلة . ثم لا يتكلفون ما لايطيقون ، ولا يحاولون الخروج عن بشريتهم وما فيها من خصائص ، ومن ضعف وقوة ؛ ولا يدعون ما لا يجدونه في أنفسهم من مشاعر وطاقات ، ولا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، ولا أن يقولوا غير ما يفعلون .
وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله ، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة ، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون . . هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها ؛ وهي التي أهلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال !
واستقرار ذلك المقوم الأول في أعماق الضمائر هو الذي كفل لتلك الجماعة الأولى تحقيق تلك الخوارق التي حققتها في حياتها الخاصة ، وفي حياة المجتمع الإنساني إذ ذاك . وهو الذي جعل خطواتها وحركاتها تتناسق مع دورة الأفلاك ، وخطوات الزمان ، ولا تحتك بها أو تصطدم ، فتتعوق أو تبطىء نتيجة الاحتكاك والاصطدام . وهو الذي بارك تلك الجهود ، فإذا هي تثمر ذلك الثمر الحلو الكثير العظيم في فترة قصيرة من الزمان .
ولقد كان ذلك التحول في نفوسهم بحيث تستقيم حركتها مع حركة الوجود ، وفق قدر الله المصرف لهذا الوجود . . كان هذا التحول في تلك النفوس هو المعجزة الكبرى التي لا يقدر عليها بشر ؛ إنما تتم بإرادة الله المباشرة التي أنشأت الأرض والسماوات ، والكواكب والأفلاك ؛ ونسقت بين خطاها ودوراتها ذلك التنسيق الإلهي الخاص .
وإلى هذه الحقيقة تشير هذه الآيات الكثيرة في القرآن . . حيث يقول الله تبارك وتعالى : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) . . أو يقول : ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) . . أو يقول : ( إن الهدى هدى الله ) . . فذلك هوالهدى بحقيقته الكبيرة ومعناه الواسع . هدى الإنسان إلى مكانه في هيكل هذا الوجود ؛ وتنسيق خطاه مع حركة هذا الوجود .
ولن يؤتي الجهد كامل ثماره إلا حين يستقيم القلب على هدى الله بمعناه ؛ وتستقيم حركة الفرد مع دورة الوجود ؛ ويطمئن الضمير إلى قدر الله الشامل الذي لا يكون في الوجود أمر إلا وفق مقتضاه .
ومن هذا البيان ينجلي أن هذا النص القرآني : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) . . أشمل وأوسع وأبعد مدى من أي حادث خاص يكون قد نزل فيه . وأنه يقرر كلية أساسية ، أو الكلية الأساسية ، في منهج الإسلام !
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } ما صح له . { إذا قضى الله ورسوله أمرا } أي قضى رسول الله ، وذكر الله لتعظيم أمره والإشعار بأن قضاءه قضاء الله ، لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة فأبت هي وأخوها عبد الله . وقيل في أم كلثوم بنت عقبة وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد . { أن تكون لهم الخيرة من أمرهم } أن يختاروا من أمرهم شيئا بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله ، والخيرة ما يتخير وجمع الضمير الأول لعموم مؤمن ومؤمنة من حيث أنهما في سياق النفي ، وجمع الثاني للتعظيم ، وقرأ الكوفيون وهشام " يكون " بالياء . { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } بين الانحراف عن الصواب .