والنفس البشرية قد تستغرقها اللحظة الحاضرة ، وما فيها من أوضاع وملابسات ، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل ، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة ، وتشعر أنها سرمد ، وأنها باقية ، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويطاردها . . وهذا سجن نفسي مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان .
وليست هذه هي الحقيقة . فقدر الله دائما يعمل ، ودائما يغير ، ودائما يبدل ، ودائما ينشئ ما لا يجول في حسبان البشر من الأحوال والأوضاع . فرج بعد ضيق . وعسر بعد يسر . وبسط بعد قبض . والله كل يوم هو في شأن ، يبديه للخلق بعد أن كان عنهم في حجاب .
ويريد الله أن تستقر هذه الحقيقة في نفوس البشر ، ليظل تطلعهم إلى ما يحدثه الله من الأمر متجددا ودائما . ولتظل أبواب الأمل في تغيير الأوضاع مفتوحة دائمة . ولتظل نفوسهم متحركة بالأمل ، ندية بالرجاء ، لا تغلق المنافذ ولا تعيش في سجن الحاضر . واللحظة التالية قد تحمل ما ليس في الحسبان . . ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . .
( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ، وأشهدوا ذوي عدل منكم ، وأقيموا الشهادة لله . ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر . ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب . ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره . قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . .
وهذه هي المرحلة الثانية وهذا هو حكمها . وبلوغ الأجل آخر فترة العدة . وللزوج ما دامت المطلقة لم تخرج من العدة - على آجالها المختلفة التي سبق بيانها - أن يراجعها فتعود إلى عصمته بمجرد مراجعتها - وهذا هو إمساكها - أو أن يدع العدة تمضي فتبين منه ولا تحل له إلا بعقد جديد كالزوجة الجديدة . وسواء راجع أم فارق فهو مأمور بالمعروف فيهما . منهي عن المضارة بالرجعة ، كأن يراجعها قبيل انتهاء العدة ثم يعود فيطلقها الثانية ثم الثالثة ليطيل مدة بقائها بلا زواج ! أو أن يراجعها ليبقيها كالمعلقة ، ويكايدها لتفتدي منه نفسها - وكان كلاهما يقع عند نزول هذه السورة ، وهو ما يزال يقع كلما انحرفت النفوس عن تقوى الله . وهي الضمان الأول لأحكامه في المعاشرة والفراق . كذلك هو منهي عن المضارة في الفراق بالسب والشتم والغلظة في القول والغضب ، فهذه الصلة تقوم بالمعروف وتنتهي بالمعروف استبقاء لمودات القلوب ؛ فقد تعود إلى العشرة ، فلا تنطوي على ذكرى رديئة ، لكلمة نابية ، أو غمزة شائكة ، أو شائبة تعكر صفائها عندما تعود . ثم هو الأدب الإسلامي المحض الذي يأخذ الإسلام به الألسنة والقلوب .
وفي حالتي الفراق أو الرجعة تطلب الشهادة على هذه وذاك . شهادة اثنين من العدول . قطعا للريبة . فقد يعلم الناس بالطلاق ولا يعلمون بالرجعة ، فتثور شكوك وتقال أقاويل . والإسلام يريد النصاعة والطهارة في هذه العلاقات وفي ضمائر الناس وألسنتهم على السواء . والرجعة تتم وكذلك الفرقة بدون الشهادة عند بعض الفقهاء ولا تتم عند بعضهم إلا بها . ولكن الإجماع أن لا بد من الشهادة بعد أو مع الفرقة أو الرجعة على القولين .
وعقب بيان الحكم تجيء اللمسات والتوجيهات تترى :
فالقضية قضية الله ، والشهادة فيها لله ، هو يأمر بها ، وهو يراقب استقامتها ، وهو يجزي عليها . والتعامل فيها معه لا مع الزوج ولا الزوجة ولا الناس !
( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) .
والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر . فهو يقول لهم : إنه يعظهم بما هو من شأنهم . فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون . وهذا هو محك إيمانهم ، وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان !
{ فإذا بلغن أجلهن } : أي قاربن انقضاء عدتهن .
{ فأمسكوهن بمعروف } : أي بأن تراجعوهن بمعروف من غير ضرر .
{ أو فارقوهن بمعروف } : أي أتركوهن حتى تنقضي عدتهن ولا تضاروهن بالمرجعة .
{ وأشهدوا ذوى عدل منكم } : أي اشهدوا على الطلاق وعلى الرجعة رجلين عدلين منكم أي من المسلمين فلا يشهد كافر .
{ وأقيموا الشهادة لله } : أي لا للمشهود عليه أوله بل لله تعالى وجده .
{ ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الأخر } : أي ذلكم المذكور من أول السورة من أحكام يؤمر به وينفذه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر .
{ ومن يتق الله } : أي في أمره ونهيه فلا يعصه فيهما .
{ يجعل له مخرجاً } : أي من كرب الدنيا والآخرة .
ما زال السياق الكريم في بيان العِدَدِ وأحكام الطلاق والرجعة . قال تعالى : { فإذا بلغن } أي المطلقات أجلهن أي قاربن انقضاء العدة فأمسكوهن بمعروف أي راجعوهن على أساس حسن العشرة والمصاحبة الكريمة لا للإِضرار بهن كأن يراجعها ثم يطلقها يطول عليها العدة فهذا لا يجوز لحرمة الإِضرار بالناس وفي الحديث : " لا ضرر ولا ضرار " . وقوله { أو فارقوهن بمعروف } وذلك بأن يعطيها ما بقى لها من مهرها ويُمتّعها بحسب حاله غنىّ وفقراً . وقوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } أي أشهدوا على النكاح والطلاق والرجعة أما الإِشهاد على النكاح فركن ولا يصح النكاح بدونه ، وأما في الطلاق والرجعة فهو مندوب ، وقد يضح الطلاق والرجعة بدونه ، ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولاً ، وأن يكونوا مسلمين لا كافرين . وقوله : { وأقيموا الشهادة لله } أي أدوها على وجهها ولا تراعوا فيها إلا وجه الله عز وجل ، وقوله : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } أي ذلكم المأمور به من أول السورة كالطلاق في طهر لم يجامعها فيه وكإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها والإِمساك بالمعروف والفراق بالمعروف والإِشهاد في النكاح والطلاق والرجعة الإِقساط في الشهادة كل ذلك يوعظ به أي يؤمر به وينفذه المؤمن بالله واليوم الآخر إذ هو الذي يخاف عقوبة الله وعذابه فلا يقدم علي معصيته .
1- لا تصح الرجعة إلا في العدة فإن انقضت العدة فلا رجعة للمطلقة أن تتزوج من شاءت هو أو غيره من ساعة انقضاء عدتها .
2- لا تحل المراجعة للإِضرار ، ولكن للفضل والإِحسان وطيب العشرة .
3- مشروعية الإِشهاد على الطلاق والرجعة معاً .
4- يشترط في الشهود العدالة ، فإذا خفت العدالة في الناس استُكْثِرَ من الشهود .
{ فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } يريد آخر العدة والإمساك بمعروف هو تحسين العشرة وتوفية النفقة ، والفراق بالمعروف هو أداء الصداق والإمتاع حين الطلاق والوفاء بالشروط ونحو ذلك .
{ وأشهدوا ذوي عدل منكم } هذا خطاب للأزواج والمأمور به هو الإشهاد على الرجعة عند الجمهور ، وقد اختلف فيه هل هو واجب أو مستحب على قولين في المذهب وقال ابن عباس هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة ، وهذا أظهر لأن الإشهاد به يرفع الإشكال والنزاع ولا فرق في هذا بين الرجعة والطلاق ، وقد ذكرنا العدالة في البقرة وقوله : { ذوي عدل } يدل على أنه إنما يشهد في الطلاق والنكاح الرجال دون النساء وهو مذهب مالك خلافا لمن أجاز شهادة النساء في ذلك وقوله : { منكم } يريد من المسلمين وقيل : من الأحرار فيؤخذ من ذلك رد شهادة العبيد ، وهو مذهب مالك .
{ وأقيموا الشهادة لله } هذا خطاب للشهود وإقامة الشهادة يحتمل أن يريد بها القيام فإذا استشهد وجب عليه أن يشهد وهو فرض كفاية ، وإلى هذا المعنى أشار ابن الفرس ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون ميل ولا غرض ، وبهذا فسره الزمخشري وهو أظهر لقوله : { لله } وهو كقوله : { كونوا قوامين بالقسط } [ النساء : 135 ] شهداء لله { ذلكم } إشارة إلى ما تقدم من الأحكام . { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } قيل : إنها في الطلاق ومعناها : من يتق الله فيطلق طلقة واحدة ، حسبما تقتضيه السنة ، يجعل له مخرجا بجواز الرجعة متى قدم على الطلاق وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال : لمن طلق ثلاثا إنك لم تتق الله فبانت منك امرأتك ولا أرى لك مخرجا أي : لا رجعة لك وقيل : إنها على العموم أي : من يتق الله في أقواله وأفعاله يجعل له مخرجا من كرب الدنيا والآخرة ، وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس وهذا أرجح لخمسة أوجه : أحدها : حمل اللفظ على عمومه فيدخل في ذلك الطلاق وغيره .
الثاني : أنه روي أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي وذلك أنه أسر ولده وضيق عليه رزقه فشكى ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالتقوى فلم يلبث إلا يسيرا وانطلق ولده ووسع الله رزقه .
والثالث : أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال : " مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة " .
والرابع : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم " : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } الآية : فما زال يقرؤها ويعيدها .
الخامس : قوله { ويرزقه من حيث لا يحتسب } ، فإن هذا لا يناسب الطلاق وإنما يناسب التقوى على العموم .