( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما ) . .
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن : أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة ، ليس فيها تكلف ولا تصنع ، وليس فيها خيلاء ولا تنفج ، ولا تصعير خذ ولا تخلع أو ترهل . فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية ، وعما يستكن فيها من مشاعر . والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة ، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها ، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة . فيها وقار وسكينة ، وفيها جد وقوة . وليس معنى : ( يمشون على الأرض هونا )أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس ، متداعي الأركان ، متهاوي البنيان ؛ كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح ! وهذا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان إذا مشى تكفأ تكفيا ، وكان أسرع الناس مشية ، وأحسنها وأسكنها ، قال أبو هريرة : ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كأنما الأرض تطوي له - وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث . وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب . وقال مرة إذا تقلع - قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب ، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة .
وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة ، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء ، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك ، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين : ( وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما )لا عن ضعف ولكن عن ترفع ؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء ، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع .
هذه صفات عباد الله المؤمنين { الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا } أي : بسكينة ووقار من غير جَبَرية ولا استكبار ، كما قال : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [ الإسراء : 37 ] . فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح ، ولا أشر ولا بطر ،
وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى من التصانع تصنعًا ورياء ، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب ، وكأنما الأرض تطوى له . وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع ، حتى روي عن عمر أنه رأى شابًا يمشي رُويدًا ، فقال : ما بالك ؟ أأنت مريض ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين . فعلاه بالدرة ، وأمره أن يمشي بقوة . وإنما{[21580]} المراد بالهَوْن هاهنا السكينة والوقار ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " {[21581]} .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مَعْمَر ، عن يحيى{[21582]} بن المختار ، عن الحسن البصري في قوله : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا } قال : إن المؤمنين قوم ذُلُل ، ذلت منهم - والله - الأسماعُ والأبصار والجوارح ، حتى تحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ، وإنهم لأصحاء ، ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم ، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة ، فقالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن . أما والله ما أحزنهم حزن الناس ، ولا تعاظم في نفوسهم شيء طلبوا به الجنة ، أبكاهم الخوف من النار ، وإنه من لم يتعز بعزاء الله تَقَطَّعُ نفسُه على الدنيا حسرات ، ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو في مشرب ، فقد قلَّ علمه{[21583]} وحضَر عذابهُ .
وقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } أي : إذا سَفه عليهم الجهال بالسّيئ ، لم يقابلوهم عليه بمثله ، بل يعفون ويصفحون ، ولا يقولون إلا خيرًا ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما ، وكما قال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا أبو بكر ، عن الأعمش ، عن أبي خالد الوالبي ، عن النعمان بن مُقَرّن المُزَني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ وسبّ رجلٌ رجلا عنده ، قال : فجعل الرجل المسبوب يقول : عليك السلام . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما ]{[21584]} إن ملكًا بينكما يذب عنك ، كلما شتمك هذا قال له : بل أنت وأنت أحق به . وإذا قال له : عليك السلام ، قال : لا بل عليك ، وأنت أحق به . " إسناده حسن ، ولم يخرجوه{[21585]} .
وقال مجاهد : { قَالُوا سَلامًا } يعني : قالوا : سدادًا .
وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفًا من القول .
وقال الحسن البصري : { قَالُوا [ سَلامًا } ، قال : حلماء لا يجهلون ]{[21586]} ، وإن جهل عليهم حلموا . يصاحبون عباد الله نهارهم بما تسمعون{[21587]} ، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل .
عطف جملة على جملة ، فالجملة المعطوفة هي { عباد الرحمن } إلخ ، فهو مبتدأ وخبره { الذين يمشون على الأرض هوناً } إلخ . وقيل : الخبر { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } [ الفرقان : 75 ] . والجملةُ المعطوف عليها جملة { وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة } [ الفرقان : 62 ] إلخ . فبمناسبة ذكر من أراد أن يذَّكَّر تُخلّص إلى خصال المؤمنين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستكمل السورة أغراض التنويه بالقرآن ومن جاء به ومن اتبعوه كما أشرنا إليه في الإلمام بأهم أغراضها في طالعة تفسيرها . وهذا من أبدع التخلص إذْ كان مفاجئاً للسامع مطمِعاً أنه استطراد عارض كسوابقه حتى يُفاجئه ما يؤذن بالختام وهو { قل ما يَعْؤا بكم ربّي } [ الفرقان : 77 ] الآية .
والمراد ب { عباد الرحمن } بادىء ذي بدء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصلات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها .
وإذ قد أُجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة عُلم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاءِ وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عبادَه ، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسمَ الرحمن لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم : { اسجُدوا للرحمان . قالوا : وما الرحمن } [ الفرقان : 60 ] . فإذا جعل المراد من { عباد الرحمن } أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الخبرُ في قوله { الذين يمشون على الأرض هوناً } إلى آخر المعطوفات وكان قوله الآتي { أولئك يُجْزَوْن الغرفة بما صبروا } [ الفرقان : 75 ] استئنافاً لبيان كونهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة .
وإذا كان المراد من { عباد الرحمن } جميع المؤمنين المتصفين بمضمون تلك الصلات كانت تلك الموصولات وصلاتها نعوتاً ل { عباد الرحمن } وكان الخبر اسمَ الإشارة في قوله { أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] إلخ .
وفي الإطناب بصفاتهم الطيبة تعريض بأن الذين أبوا السجود للرحمان وزادهم نفوراً هم على الضد من تلك المحامد ، تعريضاً تشعر به إضافةُ { عباد } إلى { الرحمن } .
واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على { عباد الرحمن } جاءت على أربعة أقسام :
قسم هو من التحلّي بالكمالات الدينية وهي التي ابتدىء بها من قوله تعالى { الذين يمشون على الأرض هوناً } إلى قوله { سلاماً } [ الفرقان : 75 ] .
وقسم هو من التخلّي عن ضلالات أهل الشرك وهو الذي من قوله : { والذين لا يَدْعُون مع الله إلهاً آخر } [ الفرقان : 68 ] .
وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام وهو قوله : { والذين يَبِيتُون لربهم سُجَّداً وقياماً } [ الفرقان : 64 ] ، وقولُه { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا } [ الفرقان : 67 ] الآية ، وقوله : { ولا يقتلون النفس } إلى قوله { لا يشهدون الزور } [ الفرقان : 68 72 ] إلخ .
وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله : { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا إلى قوله : { للمتقين إماماً } [ الفرقان : 74 ] .
وظاهر قوله { يمشون على الأرض هوناً } أنه مدح لمِشيةٍ بالأرْجُل وهو الذي حمل عليه جمهورُ المفسرين .
وجوز الزجاج أن يكون قوله { يمشون } عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعُبّر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد ابن أسلم كما سيأتي . فعلى الوجه الأول يكون تقييدُ المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهَوْن ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختياراً وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل .
والهَوْن : اللين والرفق . ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره ( مَشْياً ) فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق .
والمشي الهَوْن : هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفقُ النعال فهو مخالف لمشْي المتجبرين المعجَبين بنفوسهم وقوتهم . وهذا الهَوْن ناشىء عن التواضع لله تعالى والتخلُّق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية . وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاماً يتبختر في مِشيته فقال له « إن البخترة مِشية تُكْره إلا في سبيل الله » . وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله سبحانه { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً } فاقْصِدْ في مِشيتِك ، وحكى الله تعالى عن لقمان قولَه لابنه { ولا تَمْششِ في الأرض مرَحاً } [ الإسراء : 37 ] .
والتخلّق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمان لأن الرحمة ضد الشدة ، فالهوْن يناسب ماهيتَها وفيه سلامة من صدم المارين .
وعن زيد بن أسلم قال : كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى : { الذين يمشون على الأرض هوناً } فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي : « هُم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض » . فهذا رأي لزيد بن أسلم أُلهمه يجعل معنى { يمشون على الأرض } أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى { وإذا تولّى سعى في الأرض لِيُفْسِد فيها } [ البقرة : 205 ] وأن الهوْن مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف .
وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هوْناً بوصف آخر يناسب التواضع وكراهيةَ التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء ، فالجهل هنا ضد الحلم ، وذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر .
وانتصب { سلاماً } على المفعولية المطلقة . وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمّةً مثل الكافرين لأن هذا الوصف يُشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة .
و ( السلام ) يجوز أن يكون مصدراً بمعنى السلامة ، أي لا خير بيننا ولا شرّ فنحن مُسلمون منكم . ويجوز أن يكون مراداً به لفظ التحية فيكون مستعملاً في لازمه وهو المتارَكة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحيةِ أنه يؤذن بالتأمين ، أي عدم لإهاجة ، والتأمين : أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامَه ، فتكون الآية في معنى قوله : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين } [ القصص : 55 ] .
قال ابن عطية : وأريت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال يوماً بحضرة المأمون وعنده جماعة : كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له : من أنت ؟ فكان يقول : عليٌّ بن أبي طالب ، فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عُبورها فكنت أقول : إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأةٍ ونحن أحق به منك ، فما رأيت له في الجواب بلاغةً كما يُذكر عنه ، قال المأمون : وبماذا جاوبك ؟ قال : فكان يقول لي : سَلاماً . قال الراوي : فكأنَّ إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبتْ عنه في ذلك الوقت ، فنبه المأمونُ على الآية من حضره وقال : هو والله يا عمّ عليّ بن أبي طالب وقد جاوبك بأبلغ جواب ، فخُزي إبراهيم واستحيا . ولأجل المناسبة بين الصيغتين عطفت هذه على الصلة الأولى . ولم يكرر اسم الموصول كما كرر في الصفات بعدها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} يعني: حلما في اقتصاد {وإذا خاطبهم الجاهلون} يعني: السفهاء {قالوا سلاما} يقول: إذا سمعوا الشتم والأذى من كفار مكة من أجل الإسلام ردوا معروفا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَعِبادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنا" بالحلم والسكينة والوقار غير مستكبرين، ولا متجبّرين، ولا ساعين فيها بالفساد ومعاصي الله...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالطاعة والتواضع... عن أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: لا يفسدون في الأرض...
قال ابن زيد، في قوله "وَعِبادُ الرّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنا "قال: لا يتكبرون على الناس، ولا يتجبرون، ولا يفسدون...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنهم يمشون عليها بالحلم، لا يجهلون على من جهل عليهم...
وقوله: "وَإذَا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلاما" يقول: وإذا خاطبهم الجاهلون بالله بما يكرهونه من القول، أجابوهم بالمعروف من القول، والسداد من الخطاب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} وصف عز وجل أهل الصفوة والإخلاص من عباده أنهم يمشون على الأرض هونا إلى آخر ما ذكر، وإلا كانوا كلهم عباد الرحمن لكن وصف أهل الصفوة منهم والإخلاص والتقى.
{يمشون على الأرض هونا} قال بعضهم: حلماء أتقياء بغير مرح ولا بطر. وقال بعضهم: هونا أي متواضعين، لا خيلاء، ولا كبرياء، ولا مرحا...
وأصله أنهم يمشون هونا من غير أن يتأذى بهم أحد أو يلحق بأحد منهم ضرر أو ضنى، والله أعلم.
{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} قال بعضهم: إذا جاهلهم الجاهلون، وسافههم السفهاء، لا يجاهلون أهل الجهل والسفه، ولكن يقولون: السلام عليكم. وقال بعضهم: وإذا سمعوا الشتم والأذى قالوا: سلاما، أي سدادا وصوابا من القول وردا معروفا؛ أعرضوا عن سفههم وجهلهم بهم، ولم يكافئوهم كقوله: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} الآية [القصص: 55] يخبر الله تعالى عن صحبتهم أهل السفه والجهل وحسن معاشرتهم إياهم ورفقهم. فكيف يعاملون أهل الخير والعقل منهم ويصاحبونهم؟ فهذه معاملتهم الخلائق على الوصف الذي وصفه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الذين استوجبوا رحمة الرحمن هم الذين وفِّقُوا للطاعات، فبرحمتِه وصلوا إلى التوفيق للطاعة. وعِبادُ الرحمن الذين يستحقون غداً رحمته هم القائمون برحمته؛ فبرحمته وصلوا إلى طاعته... هكذا بيان الحقيقة، وبطاعتهم وصلوا إلى جَنَّتِه... هكذا لسان الشريعة. ومعنى {هَوْناً} متواضعين متخاشعين. ويقال شرْطُ التواضع وحَدُّه ألا يستَحْسِنَ شيئاً من أحواله، حتى قالوا: إذا نَظَرَ إلى رِجْلِه لا يستحسن شِسْعَ نَعْلِهِ، وعلى هذا القياس لا يُساكِنُ أعماله، ولا يلاحظ أحواله.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمَاً}: قيل سداد المنطق؛ ويقال مَنْ خاطَبَهم بالقَدْح فهم يجاوبونه بالمدح له. ويقال إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم، والطاعنون فيهم، العائبون لهم قابلوا ذلك بالرِّفق، وحُسْنِ الخُلقِ، والقولِ الحَسَنِ والكلام الطيب. ويقال يخبرون مَنْ جفاهم أنهم في أمانٍ من المجافاة.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"الذين يمشون على الأرض هونا" أي: بالسكينة والوقار. قال الحسن: علماء حكماء، لا يجهلون إذا جهل عليهم. وقال ثعلب: هونا رفقا.
"وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" قال الضحاك: إذا أوذوا صفحوا، وقال بعضهم: قالوا قولا يسلمون منه، وعن بعضهم: قالوا سلاما أي: متاركة لا خير ولا شر، وليس المراد من السلام هو السلام المعروف، وإنما معناه ما بينا. والآية مكية، وكان المسلمون قد أمروا قبل الهجرة بالصفح والإعراض، وألا يقابلوا أذى المشركين بالمجازاة.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{وعباد الرحمن} يعني: أفاضل العباد. وقيل: هذه الإضافة للتخصيص والتفضيل، وإلا فالخلق كلهم عباد الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... «يمشون» {هَوْناً} حال، أو صفة للمشي، بمعنى: هينين. أو: مشياً هيناً؛ إلا أنّ في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة. والهون: الرفق واللين. ومنه الحديث:"أحبب حبيبك هوناً مّا" وقوله: "المؤمنون هينون لينون"... والمعنى: أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً... {سَلاَماً} تسلماً منكم لا نجاهلكم، ومتاركة لا خير بيننا ولا شرّ، أي: نتسلم منكم تسلماً، فأقيم السلام مقام التسلم. وقيل: قالوا: سداداً من القول يسلمون فيه من الإيذاء والإثم. والمراد بالجهل: السفه وقلة الأدب وسوء الرعة...
وعن أبي العالية: نسختها آية القتال، ولا حاجة إلى ذلك، لأنّ الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وصف الكفار في هذه السورة بما وصفهم به من الفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم، وعداوتهم له، ومظاهرتهم على خالقهم، ونحو ذلك من جلافتهم، وختم بالتذكر والشكر، وكان التقدير: فعباد الشيطان لا يتذكرون ولا يشكرون، لما لهم من القسوة، عطف على هذا المقدر أضدادهم، واصفاً لهم بأضداد أوصافهم، مبشراً لهم بضد جزائهم، فقال: وعباد {الرحمن} فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان كل الخلق عباده، وأضافهم إلى صفة وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيراً لهم؛ ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود، إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بأمر كبير، فقال: {الذين يمشون} وقال: {على الأرض} تذكيراً بما هم منه وما يصيرون إليه، وحثاً على السعي في معالي الأخلاق للترقي عنه، وعبر عن حالهم بالمصدر مبالغة في اتصافهم بمدلوله حتى كانوا إياه، فقال: {هوناً} أي ذوي هون، أي لين ورفق وسكينة ووقار وإخبات وتواضع، لا يؤذون أحداً ولا يفخرون، رحمة لأنفسهم وغيرهم، غير متابعين ما هم فيه من الحرارة الشيطانية، فبرئوا من حظوظ الشيطان، لأن من كان من الأرض وإليها يعود لا يليق به إلا ذلك، والأحسن أن يجعل هذا خبر "العباد"، ويكون (أولئك يجزون الغرفة} [الفرقان: 75] استئنافاً متشوفاً إليه تشوف المستنتج إلى النتيجة. ولما ذكر ما أثمره العلم من الفعل في أنفسهم، أتبعه ما أنتجه الحلم من القول لغيرهم فقال: {وإذا} دون "إن "لقضاء العادة بتحقق مدخولها، ولم يقل: والذين كبقية المعطوفات، لأن الخصلتين كشيء واحد من حيث رجوعهما إلى التواضع {خاطبهم} خطاباً ما، بجهل أو غيره وفي وقت ما {الجاهلون} أي الذين يفعلون ما يخالف العلم والحكمة {قالوا سلاماً} أي ما فيه سلامة من كل سوء، وليس المراد التحية -نقل ذلك سيبويه عن أبي الخطاب، قال: لأن الآية فيما زعم مكية، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، ولكنه على قولك: تسليماً لا خير بيننا وبينكم ولا شراً- انتهى. فلا حاجة إلى ادعاء نسخها بآية القتال ولا غيرها، لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة، وأسلم للعرض والورع، وكأنه أطلق الخطاب إعلاماً بأن أكثر قول الجاهل الجهل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الشوط الأخير في السورة يبرز فيه "عباد الرحمن "بصفاتهم المميزة، ومقوماتهم الخاصة؛ وكأنما هم خلاصة البشرية في نهاية المعركة الطويلة بين الهدى والضلال. بين البشرية الجاحدة المشاقة والرسل الذين يحملون الهدى لهذه البشرية. وكأنما هم الثمرة الجنية لذلك الجهاد الشاق الطويل، والعزاء المريح لحملة الهدى فيما لا قوه من جحود وصلاة وإعراض!.
وقد سبق في الدرس الماضي تجاهل المشركين واستنكارهم لاسم "الرحمن" فهاهم أولاء عباد الرحمن، الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده. ها هم أولاء بصفاتهم المميزة ومقومات نفوسهم وسلوكهم وحياتهم. ها هم أولاء مثلا حية واقعية للجماعة التي يريدها الإسلام، وللنفوس التي ينشئها بمنهجه التربوي القويم. وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ بهم الله في الأرض، ويوجه إليهم عنايته؛ فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم، لولا أن هؤلاء فيهم، ولولا أن هؤلاء يتوجهون إليه بالتضرع والدعاء.
(وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما)..
ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن: أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خذ ولا تخلع أو ترهل. فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر. والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة. فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة. وليس معنى: (يمشون على الأرض هونا) أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان؛ كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! وهذا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان إذا مشى تكفأ تكفيا، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كأنما الأرض تطوي له -وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه -كان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا مشى تكفأ تكفيا كأنما ينحط من صبب. وقال مرة إذا تقلع- قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة.
وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاما) لا عن ضعف ولكن عن ترفع؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف جملة على جملة، فالجملة المعطوفة هي {عباد الرحمن} إلخ، فهو مبتدأ وخبره {الذين يمشون على الأرض هوناً} إلخ. وقيل: الخبر {أولئك يجزون الغرفة بما صبروا} [الفرقان: 75]. والجملةُ المعطوف عليها جملة {وهو الذي جعل الليل والنهار خِلفة} [الفرقان: 62] إلخ. فبمناسبة ذكر من أراد أن يذَّكَّر تُخلّص إلى خصال المؤمنين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تستكمل السورة أغراض التنويه بالقرآن ومن جاء به ومن اتبعوه كما أشرنا إليه في الإلمام بأهم أغراضها في طالعة تفسيرها. وهذا من أبدع التخلص إذْ كان مفاجئاً للسامع مطمِعاً أنه استطراد عارض كسوابقه حتى يُفاجئه ما يؤذن بالختام وهو {قل ما يَعْؤا بكم ربّي} [الفرقان: 77] الآية.
والمراد ب {عباد الرحمن} بادئ ذي بدء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فالصلات الثمان التي وصفوا بها في هذه الآية حكاية لأوصافهم التي اختصوا بها.
وإذ قد أُجريت عليهم تلك الصفات في مقام الثناء والوعد بجزاء الجنة عُلم أن من اتصف بتلك الصفات موعود بمثل ذلك الجزاءِ وقد شرفهم الله بأن جعل عنوانهم عبادَه، واختار لهم من الإضافة إلى اسمه اسمَ الرحمن لوقوع ذكرهم بعد ذكر الفريق الذين قيل لهم: {اسجُدوا للرحمان. قالوا: وما الرحمن} [الفرقان: 60]. فإذا جعل المراد من {عباد الرحمن} أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الخبرُ في قوله {الذين يمشون على الأرض هوناً} إلى آخر المعطوفات وكان قوله الآتي {أولئك يُجْزَوْن الغرفة بما صبروا} [الفرقان: 75] استئنافاً لبيان كونهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة.
وإذا كان المراد من {عباد الرحمن} جميع المؤمنين المتصفين بمضمون تلك الصلات كانت تلك الموصولات وصلاتها نعوتاً ل {عباد الرحمن} وكان الخبر اسمَ الإشارة في قوله {أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة} [الفرقان: 75] إلخ.
وفي الإطناب بصفاتهم الطيبة تعريض بأن الذين أبوا السجود للرحمان وزادهم نفوراً هم على الضد من تلك المحامد، تعريضاً تشعر به إضافةُ {عباد} إلى {الرحمن}.
واعلم أن هذه الصلات التي أجريت على {عباد الرحمن} جاءت على أربعة أقسام:
قسم هو من التحلّي بالكمالات الدينية وهي التي ابتدىء بها من قوله تعالى {الذين يمشون على الأرض هوناً} إلى قوله {سلاماً} [الفرقان: 75].
وقسم هو من التخلّي عن ضلالات أهل الشرك وهو الذي من قوله: {والذين لا يَدْعُون مع الله إلهاً آخر} [الفرقان: 68].
وقسم هو من الاستقامة على شرائع الإسلام وهو قوله: {والذين يَبِيتُون لربهم سُجَّداً وقياماً} [الفرقان: 64]، وقولُه {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا} [الفرقان: 67] الآية، وقوله: {ولا يقتلون النفس} إلى قوله {لا يشهدون الزور} [الفرقان: 68 72] إلخ.
وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال في هذه الحياة وهو قوله: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا إلى قوله: {للمتقين إماماً} [الفرقان: 74].
وظاهر قوله {يمشون على الأرض هوناً} أنه مدح لمِشيةٍ بالأرْجُل وهو الذي حمل عليه جمهورُ المفسرين.
وجوز الزجاج أن يكون قوله {يمشون} عبارة عن تصرفاتهم في معاشرة الناس فعُبّر عن ذلك بالانتقال في الأرض وتبعه ابن عطية وهذا الذي ذكره مأخوذ مما روي عن زيد ابن أسلم كما سيأتي. فعلى الوجه الأول يكون تقييدُ المشي بأنه على الأرض ليكون في وصفه بالهَوْن ما يقتضي أنهم يمشون كذلك اختياراً وليس ذلك عند المشي في الصعدات أو على الجنادل.
والهَوْن: اللين والرفق. ووقع هنا صفة لمصدر المشي محذوف تقديره (مَشْياً) فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق.
والمشي الهَوْن: هو الذي ليس فيه ضرب بالأقدام وخفقُ النعال فهو مخالف لمشْي المتجبرين المعجَبين بنفوسهم وقوتهم. وهذا الهَوْن ناشىء عن التواضع لله تعالى والتخلُّق بآداب النفس العالية وزوال بطر أهل الجاهلية فكانت هذه المشية من خلال الذين آمنوا على الضد من مشي أهل الجاهلية. وعن عمر بن الخطاب أنه رأى غلاماً يتبختر في مِشيته فقال له « إن البخترة مِشية تُكْره إلا في سبيل الله». وقد مدح الله تعالى أقواماً بقوله سبحانه {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} فاقْصِدْ في مِشيتِك، وحكى الله تعالى عن لقمان قولَه لابنه {ولا تَمْششِ في الأرض مرَحاً} [الإسراء: 37].
والتخلّق بهذا الخلق مظهر من مظاهر التخلق بالرحمة المناسب لعباد الرحمان لأن الرحمة ضد الشدة، فالهوْن يناسب ماهيتَها وفيه سلامة من صدم المارين.
وعن زيد بن أسلم قال: كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى: {الذين يمشون على الأرض هوناً} فما وجدت في ذلك شفاء فرأيت في المنام من جاءني فقال لي: « هُم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض». فهذا رأي لزيد بن أسلم أُلهمه يجعل معنى {يمشون على الأرض} أنه استعارة للعمل في الأرض كقوله تعالى {وإذا تولّى سعى في الأرض لِيُفْسِد فيها} [البقرة: 205] وأن الهوْن مستعار لفعل الخير لأنه هون على الناس كما يسمى بالمعروف.
وقُرن وصفهم بالتواضع في سمتهم وهو المشي على الأرض هوْناً بوصف آخر يناسب التواضع وكراهيةَ التطاول وهو متاركة الذين يجهلون عليهم في الخطاب بالأذى والشتم وهؤلاء الجاهلون يومئذ هم المشركون إذ كانوا يتعرضون للمسلمين بالأذى والشتم فعلمهم الله متاركة السفهاء، فالجهل هنا ضد الحلم، وذلك أشهر إطلاقاته عند العرب قبل الإسلام وذلك معلوم في كثير من الشعر والنثر.
وانتصب {سلاماً} على المفعولية المطلقة. وذكرهم بصفة الجاهلين دون غيرها مما هو أشد مذمّةً مثل الكافرين لأن هذا الوصف يُشعر بأن الخطاب الصادر منهم خطاب الجهالة والجفوة.
و (السلام) يجوز أن يكون مصدراً بمعنى السلامة، أي لا خير بيننا ولا شرّ فنحن مُسلمون منكم. ويجوز أن يكون مراداً به لفظ التحية فيكون مستعملاً في لازمه وهو المتارَكة لأن أصل استعمال لفظ السلام في التحيةِ أنه يؤذن بالتأمين، أي عدم لإهاجة، والتأمين: أول ما يلقى به المرء من يريد إكرامَه، فتكون الآية في معنى قوله: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
صفات المؤمنين المتذكرين هذه الآيات الكريمات تصور صفات المؤمنين التي يتكون منها المؤمن الصادق، وهي تجمع بين أمور ثلاثة من الصفات: أولها الصفات الموجبة المكونة معنى الإيمان، والتي هي خلال أهل الإيمان الذين تعلو الإنسانية بهم، ولا يستعلون عليها، وهي من أول الآيات إلى قوله تعالى: {لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}.
وثانيها صفات سلبية، وهي التي تبتدئ من هذه الآية الأخيرة. وثالثها الذين يبتغون الحياة الزوجية بالطهر والعفاف، وختم سبحانه الآية ببيان الجزاء الأوفى. الصفات الإيجابية: قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)}. وصفهم الله تعالى بأنهم عباد الرحمن، وهذا الوصف يشعر بأنهم رحماء فيما بينهم، لا يجافون، ولا يتناحرون، بل هم في اطمئنان وسلام، وروحانية، لا يجعلون للمادة من حياتهم إلا أن تكون غذاء طيبا يأخذون منه القوة للقيام بواجبهم، وهم في أوصافهم الظاهرة والباطنة يتطامنون، ولا يستكبرون، والهون مصدر هان يهون هونا، وهو المشي في غير عنف، ولا تجبر، وهو وصف محمود، وهو ضد الهوان الذي يذل صاحبه للقوي أو المتغطرس، ويهون عليه، وهو من عذاب، ومعنى هونا أي يمشي في سكينة ووقار وفي قصد وتؤدة، وتلك أخلاق الأنبياء والذين يقتدون بهم، فالمؤمن يسير في رفق، وقد وصف الله مشي النبي بأنه كان يمشي في هون ورفق، تبدو في مشيته قوة الماشي غير المصطنع المتخاذل، وغير المختال المرح المتعالي، وكما قال تعالى: {ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (37)} [الإسراء]، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} والجاهلون هم الحمقى الذين لا يعرفون ما أحله الشرع، {قَالُوا سَلَامًا} أي سلما وأمنا، فهم لا يعلون على الناس، ولكن يسالمونهم، وإذا رأوا حمقى لا يحاورونهم، ولا يخاطبونهم على مقتضى قولهم، وإن ذلك دأب الحكماء المتقين، يهدون، ولا يجهلون، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل إلا حلما.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وحرصا من كتاب الله على هداية الخلق وإن ضلوا، وتمكينهم بكل الوسائل من معرفة الحق وإن زلوا، تصدى كتاب الله في ختام هذا الربع للكشف عن صفات المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول فلم يكفروا بالرحمن، بل آمنوا به وأقبلوا على طاعته وعبادته عن اقتناع وإذعان، وتشرفوا بالانتساب إليه حتى وصفهم القرآن بأنهم {عباد الرحمن} وذلك ليقتدي بهم من لا يزال سابحا في بحر التردد والعناد، من بقية العباد، فقال تعالى واصفا لهم ومعرفا بهم: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} وهذا الوصف الأول يتضمن أمرين، الأمر الأول أنهم لا يعتزلون الناس، بل يعاشرونهم ويخالطونهم، إذ {الذين يمشون على الأرض} للقيام بواجباتهم وتحمل مسؤولياتهم، والتعاون مع غيرهم على البر والتقوى، والأمر الثاني أنهم إذا مشوا مشوا برفق وتثبت، دون عجلة بالغة، ولم يظهر عليهم أثر التبختر والاستكبار، بل علتهم السكينة والوقار، ولم تبدر منهم بادرة ازدراء للغير أو احتقار، وذلك هو معنى المشي {هونا} مصداقا لقوله تعالى في آية ثانية: {ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور، واقصد في مشيك}، [لقمان: 18]، وقوله تعالى في آية ثالثة: {ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} [الإسراء: 37]، وليس المراد بالمشي هونا، التثاقل والتماوت تصنعا ورياء، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، ومناط المدح في الوصف ب (المشي هونا) ليس المشي في حد ذاته، وإنما مناط المدح ما يدل عليه (المشي هونا) من أخلاق الماشي وسلوكه الحميد، إذ يكون مشيه هونا دليلا على أنه هين لين. روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"حرم الله على النار كل هين لين سهل قريب من الناس".
والوصف الثاني من أوصاف "عباد الرحمن "يشير إليه قوله تعالى: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، بمعنى أنه إذا تجرأ عليهم السفهاء بالقول السيء أغضوا عنهم، وكظموا غيظهم، وردوا عليهم ردا هادئا يوقف أذاهم عند حده، دون أن يقابلوهم بالمثل، أو يشتبكوا معهم في خصام، تجنبا لتوسيع دائرة الشقاق، وحرصا على السداد والمسالمة والسلام، على حد قوله تعالى في آية أخرى: {وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [القصص: 55]، وهذا الوصف لا ينافي ما شرعه الله من الجهاد، دفاعا عن الإسلام، عند توفر الأسباب، كما لا ينافي الدفاع عن عرض المسلم، متى تعرض لقذف الأوباش والأوشاب.