مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا} (63)

قوله تعالى : { وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما } .

اعلم أن قوله : { وعباد الرحمان } مبتدأ خبره في آخر السورة كأنه قيل وعباد الرحمان الذين هذه صفاتهم أولئك يجزون الغرفة ، ويجوز أن يكون خبره { الذين يمشون } ، واعلم أنه سبحانه خص اسم العبودية بالمشتغلين بالعبودية ، فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات ، وقرئ { وعباد الرحمان } واعلم أنه سبحانه وصفهم بتسعة أنواع من الصفات :

الصفة الأولى : قوله : { الذين يمشون على الأرض هونا } وهذا وصف سيرتهم بالنهار وقرئ { يمشون } { هونا } حال أو صفة للمشي بمعنى هينين أو بمعنى مشيا هينا ، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة مبالغة ، والهون الرفق واللين . ومنه الحديث «أحبب حبيبك هونا ما » وقوله : «المؤمنون هينون لينون » والمعنى أن مشيهم يكون في لين وسكينة ووقار وتواضع ، ولا يضربون بأقدامهم أشرا وبطرا ، ولا يتبخترون لأجل الخيلاء كما قال : { ولا تمش في الأرض مرحا } وعن زيد بن أسلم التمست تفسير { هونا } فلم أجد ، فرأيت في النوم فقيل لي هم الذين لا يريدون الفساد في الأرض ، وعن ابن زيد لا يتكبرون ولا يتجبرون ولا يريدون علوا في الأرض .

الصفة الثانية : قوله تعالى : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما } معناه لا نجاهلكم ولا خير بيننا ولا شر أي نسلم منكم تسليما ، فأقيم السلام مقام التسليم ، ثم يحتمل أن يكون مرادهم طلب السلامة والسكوت ، ويحتمل أن يكون المراد التنبيه على سوء طريقتهم لكي يمتنعوا ، ويحتمل أن يكون مرادهم العدول عن طريق المعاملة ، ويحتمل أن يكون المراد إظهار الحلم في مقابلة الجهل ، قال الأصم : { قالوا سلاما } أي سلام توديع لا تحية ، كقول إبراهيم لأبيه : { سلام عليك } ثم قال الكلبي وأبو العالية نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في العقل والشرع وسبب لسلامة العرض والورع .