الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا} (63)

قوله تعالى : " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا " لما ذكر جهالات المشركين وطعنهم في القرآن والنبوة ذكر عباده المؤمنين أيضا وذكر صفاتهم ، وأضافهم إلى عبوديته تشريفا لهم ، كما قال : " سبحان الذي أسرى بعبده " [ الإسراء : 1 ] وقد تقدم{[12163]} . فمن أطاع الله وعبده وشغل سمعه وبصره ولسانه وقلبه بما أمره فهو الذي يستحق اسم العبودية ، ومن كان بعكس هذا شمله قوله تعالى : " أولئك كالأنعام بل هم أضل " [ الأعراف : 179 ] يعني في عدم الاعتبار ؛ كما تقدم في " الأعراف " {[12164]} . وكأنه قال : وعباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض ، فحذف هم ، كقولك : زيد الأمير ، أي زيد هو الأمير . ف " الذين " خبر مبتدأ محذوف ، قاله الأخفش . وقيل : الخبر قوله في آخر السورة : " أولئك يجزون الغرفة بما صبروا " [ الفرقان : 75 ] وما بين المبتدأ والخبر أوصاف لهم وما تعلق بها ، قاله الزجاج . قال : ويجوز أن يكون الخبر " الذين يمشون على الأرض " . و " يمشون " عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك العظم ، لا سيما وفي ذلك الانتقال في الأرض ، وهو معاشرة الناس وخلطتهم .

قوله تعالى : " هونا " الهون مصدر الهين وهو من السكينة والوقار . وفي التفسير : يمشون على الأرض حلماء متواضعين ، يمشون في اقتصاد . والقصد والتؤدة وحسن السمت من أخلاق النبوة . وقال صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس في الإيضاع{[12165]} ) وروي في صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا زال زال تقلعا ، ويخطو تكفؤا ، ويمشي هونا ، ذريع المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب . التقلع : رفع الرجل بقوة . والتكفؤ : الميل إلى سنن المشي وقصده . والهون الرفق والوقار . والذريع : الواسع الخطى ، أي أن مشيه كان يرفع فيه رجله بسرعة ويمد خطوه ، خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته ، وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة . كما قال : كأنما ينحط مكن صبب ، قاله القاضي عياض . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسرع جبلة لا تكلفا . قال الزهري : سرعة المشي تذهب بهاء الوجه . قال ابن عطية : يريد الإسراع الحثيث لأنه يخل بالوقار ، والخير في التوسط . وقال زيد بن أسلم : كنت أسأل عن تفسير قوله تعالى : " الذين يمشون على الأرض هونا " فما وجدت من ذلك شفاء ، فرأيت في المنام من جاءني فقال لى : هم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض . قال القشيري : وقيل : لا يمشون لإفساد ومعصية ، بل في طاعة الله والأمور المباحة من غير هوك . وقد قال الله تعالى : " ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور " [ لقمان : 18 ] . وقال ابن عباس : بالطاعة والمعروف والتواضع . الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا . وقيل : لا يتكبرون على الناس .

قلت : وهذه كلها معان متقاربة ، ويجمعها العلم بالله والخوف منه ، والمعرفة بأحكامه والخشية من عذابه وعقابه ، جعلنا الله منهم بفضله ومنه . وذهبت فرقة إلى أن " هونا " مرتبط بقوله : " يمشون على الأرض " ، أن المشي هو هون . قال ابن عطية : ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه ، فيرجع القول إلى نحو ما بيناه . وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ؛ لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس{[12166]} . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما ينحط في صبب . وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الأمة . وقوله عليه الصلاة والسلام : ( من مشى منكم في طمع فليمش رويدا ) إنما أراد في عقد نفسه ، ولم يرد المشي وحده . ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط ، حتى قال فيهم الشاعر ذما لهم :

كلهم يمشي رُوَيْدْ *** كلهم يطلب صَيْدْ

قلت : وفي عكسه أنشد ابن العربي لنفسه .

تواضعتُ في العلياء والأصل كابر***وحزتُ قصاب السبق بالهَوْن في الأمر

سكونٌ فلا خبث السريرة أصله *** وجلُّ سكون الناس من عظم الكبر

قوله تعالى : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " قال النحاس : ليس " سلاما " من التسليم إنما هو من التسلم ، تقول العرب : سلاما ، أي تسلما منك ، أي براءة منك . منصوب على أحد أمرين : يجوز أن يكون منصوبا ب " قالوا " ، ويجوز أن يكون مصدرا ، وهذا قول سيبويه . قال ابن عطية : والذي أقوله : إن " قالوا " هو العامل في " سلاما " لأن المعنى قالوا هذا اللفظ . وقال مجاهد : معنى " سلاما " سدادا . أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين . ف " قالوا " على هذا التأويل عامل في قوله : " سلاما " على طريقة النحويين ، وذلك أنه بمعنى قولا . وقالت فرقة : ينبغي للمخاطب أن يقول للجاهل سلاما ، بهذا اللفظ . أي سلمنا سلاما أو تسليما ، ونحو هذا ، فيكون العامل فيه فعلا من لفظه على طريقة النحويين .

مسألة : هذه الآية كانت قبل آية السيف ، نسخ منها ما يخص الكفرة وبقي أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة . وذكر سيبويه النسخ في هذه الآية في كتابه ، وما تكلم فيه على نسخ سواه ، رجح به أن المراد السلامة لا التسليم ؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة . والآية مكية فنسختها آية السيف . قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية . قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه على معنى قوله : تسلما منكم ، ولا خير ولا شر بيننا وبينكم . المبرد : كان ينبغي أن يقال : لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ثم أمروا بحربهم . محمد بن يزيد . أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة . ابن العربي : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ولا نهوا عن ذلك ، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ويدانيهم ولا يداهنهم . وقد أتفق الناس على أن السفيه من المؤمنين إذا جفاك يجوز أن تقول له سلام عليك .

قلت : هذا القول أشبه بدلائل السنة . وقد بينا في سورة " مريم " {[12167]} اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفار ، فلا حاجة إلى دعوى النسخ ؛ والله أعلم . وقد ذكر النضر بن شميل قال حدثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت ، فإذا هو على سطح ، فلما سلمنا رد علينا السلام وقال لنا : استووا . وبقينا متحيرين ولم ندر ما قال . فقال لنا أعرابي إلى جنبه : أمركم أن ترتفعوا . قال الخليل : هو من قول الله عز وجل : " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " [ فصلت : 11 ] فصعدنا إليه فقال : هل لكم في خبز فطير ، ولبن هجير ، وماء نمير{[12168]} ؟ فقلنا : الساعة فارقنا . فقال : سلاما . فلم ندر ما قال . قال . قال : الأعرابي : إنه سألكم متاركة لا خير فيها ولا شر . فقال الخليل : هو من قول الله عز وجل : " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " . قال ابن عطية : ورأيت في بعض التواريخ أن إبراهيم بن المهدي - وكان من المائلين على علي بن أبي طالب رضي الله عنه - قال يوما بحضرة المأمون وعنده جماعة : كنت أرى علي بن أبي طالب في النوم فكنت أقول له من أنت ؟ فكان يقول : علي بن أبي طالب . فكنت أجيء معه إلى قنطرة فيذهب فيتقدمني في عبورها . فكنت أقول : إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك . فما رأيت له في الجواب بلاغة كما يذكر عنه . قال المأمون : وبماذا جاوبك ؟ قال : فكان يقول لي سلاما . قال الراوي : فكأن إبراهيم بن المهدي لا يحفظ الآية أو ذهبت عنه في ذلك الوقت . فنبه المأمون على الآية من حضره وقال : هو والله يا عم علي بن أبي طالب ، وقد جاوبك بأبلغ جواب ، فخزي إبراهيم واستحيا . وكانت رؤيا لا محالة صحيحة .


[12163]:راجع ج 10 ص 205 طبعة أولى أو ثانية.
[12164]:راجع ج 7 ص 324 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[12165]:الإيضاع: سير مثل الخبب.
[12166]:الأطلس من الذئاب: هو الذي تساقط شعره، وهو أخبث ما يكون. وقيل: هو الذي في لونه غبرة إلى السواد.
[12167]:راجع ج 11 ص 111 وما بعدها طبعة أولى أو ثانية.
[12168]:الفطير: خلاف الخمير، وهو العجين الذي لم يختمر. والهجير: الفائق الفاضل. والنمير: الناجع في الري.