فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا} (63)

{ وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه ، و{ عباد الرحمن } مبتدأ وخبره الموصول مع صلته ، والهون مصدر ، وهو السكينة والوقار . وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق ب { يمشون } أي يمشون على الأرض مشياً هوناً .

قال ابن عطية : ويشبه أن يتأوّل هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هوناً مناسبة لمشيه ، وأما أن يكون المراد صفة المشيء وحده فباطل ، لأنه ربّ ماش هوناً رويداً ، وهو ذئب أطلس ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب . { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً } ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه ، فلا يجهلون مع من يجهل ، ولا يسافهون أهل السفه . قال النحاس : ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم ، تقول العرب سلاماً : أي تسلماً منك : أي براءة منك ، منصوب على أحد أمرين : إما على أنه مصدر لفعل محذوف : أي قالوا سلمنا سلاماً ، وهذا على قول سيبويه ، أو على أنه مفعول به : أي قالوا هذا اللفظ ، ورجحه ابن عطية . وقال مجاهد : معنى { سلاماً } سداداً ، أي يقول للجاهل كلاماً يدفعه برفق ولين . قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يسلموا على المشركين لكنه على قوله تسليماً منكم ، ولا خير ولا شرّ بيننا وبينكم . قال المبرد : كان ينبغي أن يقال : لم يؤمر المسلمون يومئذٍ بحربهم ، ثم أمروا بحربهم . وقال محمد بن يزيد : أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة . قال النحاس : ولا نعلم لسيبويه كلاماً في معنى الناسخ ، والمنسوخ إلاّ في هذه الآية ، لأنه قال في آخر كلامه : فنسختها آية السيف . وأقول : هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه ، ومشى في غير طريقته ، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين ، ولا نهوا عنه . بل أمروا بالصفح ، والهجر الجميل ، فلا حاجة إلى دعوى النسخ . قال النضر بن شميل : حدّثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي ، وكان من أعلم من رأيت . فإذا هو على سطح ، فسلمنا فردّ علينا السلام ، وقال لنا : استووا ، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال ، فقال لنا أعرابيّ إلى جنبه : أمركم أن ترتفعوا . قال الخليل : هو من قول الله { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } [ البقرة : 29 ] قال : فصعدنا إليه ، فقال : هل لكم في خبز فطير ولبن هجير ؟ فقلنا : الساعة فارقناه ، فقال : سلاماً ، فلم ندر ما قال ، فقال الأعرابيّ : إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شرّ . قال الخليل : هو من قول الله { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً } .

/خ67