السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا} (63)

ولما ذكر الله تعالى عباده الذين خذلهم بتسليط الشيطان عليهم فصاروا حزباً ولم يضفهم إلى اسم من أسمائه إيذاناً بإهانتهم لهوانهم عنده أشار إلى عباده الذين أخلصهم لنفسه قوله تعالى :

{ وعباد الرحمان } فأضافهم إليه رفعة لهم وإن كان الخلق كلهم عباده وأضافهم إلى وصف الرحمة الأبلغ الذي أنكره أولئك تبشيراً لهم ، ثم وصفهم بضد ما وصف به المتكبرين عن السجود إشارة إلى أنهم تخلقوا من هذه الصفة التي أضيفوا إليها بصفات كثيرة ؛ الصفة الأولى : قوله تعالى : { الذين يمشون } وقال تعالى : { على الأرض } تذكيراً بما يصيرون إليه وحثاً على السعي في معالي الأخلاق { هوناً } أي : هينين أو مشياً هيناً مصدر وصف به مبالغة والهون الرفق واللين ، ومنه الحديث : «أحبب حبيبك هوناً ما » ، وقوله : «المؤمنون هينون » ، والمثل : إذا عز أخوك فهن ، والمعنى إذا عاسر فياسر ، والمعنى أنهم يمشون بسكينة وتواضع ووقار لا يضربون لوقارهم بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق لقوله تعالى : { ويمشون في الأسواق } ( الفرقان ، 30 ) .

تنبيه : عباد مرفوع بالإبتداء وفي خبره وجهان ؛ أحدها : الجملة الأخيرة في آخر السورة أولئك يجزون وبه بدأ الزمخشري والذين يمشون وما بعده صفات للمبتدأ ، والثاني : أن الخبر الذين يمشون . الصفة الثانية { وإذا خاطبهم الجاهلون } أي : بما يكرهون { قالوا سلاماً } أي : تسلماً منكم لا نجاهلكم ومتاركة لا خير بيننا ولا شر أي : فنسلم منكم تسلماً فأقيم السلام مقام التسلم وقيل : قالوا : سداداً من القول أي : يسلمون فيه من الإثم والإيذاء وليس المراد التحية ؛ لأن المؤمنين لم يؤمروا بالسلام على المشركين ، وعن أبي العالية : نسختها آية القتال ولا حاجة إلى ادعاء النسخ بآية القتال ولا غيرها ؛ لأن الإغضاء عن السفهاء وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة أسلم للعرض والورع ، وأطلق الخطاب إعلاماً بأن أكثر خصال الجاهل وهو الذي يخالف العلم والحكمة الجهل وهو السفه وقلة الأدب من قوله :

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا