فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا} (63)

{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } هذا كلام مستأنف مسوق لبيان أوصاف صالحي عباد الله سبحانه وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال المنافقين قيل : هذه الإضافة للتخصيص والتشريف والتفضيل وإلا فالخلق كلهم عباد الله . وهونا مصدر وهو السكينة والتواضع والوقار . وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق ب { يمشون } أي مشيا هونا ، قال ابن عطية : ويشبه أن يتأول هدأ على أن يكون أخلاق ذلك الماشي هونا مناسبة لمشيه . وأما ان يكون المراد صفة المشي وحده فباطل لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب ، قال ابن عباس في الآية : هم المؤمنون الذين يمشون على الأرض هونا . أي بالطاعة والعفاف والتواضع ، وقال أيضا : هونا ، أي : علما وحلما ، والمعنى : يمشون بالسكينة والوقار ، متواضعين غير أشرين ، ولا مرحين ولا متكبرين ، بل علماء حكماء ، أصحاب وقار وعفة ، ولذا كره بعض العلماء الركوب في الأسواق ، ولقوله : ويمشي في الأسواق .

{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه ، فلا يجهلون من يجهل ، ولا يشافهون أهل السفه . قال النحاس : ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم ، تقول العرب : سلاما ، أي تسلما منك ، أي : براءة منك ، يعني قالوا : سلمنا سلاما ، وهذا على قول سيبويه ، أو مفعول به ، أي قالوا : هذا اللفظ ورجحه ابن عطية ، وقال مجاهد معنى : سلاما سدادا ، أي يقولون للجاهل ، كلاما يدفعه به برفق ولين ، قال سيبويه : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ، لكنه على معنى قوله : تسلما منكم ومتاركة ، ولا خير ولا شر . بيننا وبينكم ، قال المبرد : كان ينبغي أن يقال لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم ، ثم أمروا بحربهم .

وقال محمد بن يزيد المبرد : أخطأ سيبويه في هذا ، وأساء العبارة . قال النحاس ولا نعلم لسيبويه كلاما في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية ، لأنه قال في آخر كلامه : فنسختها آية السيف : وأقول هكذا يكون كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه ، ومشى في غير طريقته ، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين ، ولا نهوا عنه ، بل أمروا بالصفح ، والهجر الجميل ، فلا حاجة إلى دعوى النسخ ، وفي الخطيب عن أبي العالية نسختها آية القتال . ولا حاجة إلى إدعاء النسخ بها ولا غيرها ، لأن الإغضاء عن السفهاء ، وترك المقابلة ، مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة ، وأسلم للعرض والورع .

وقال ابن العربي : لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين ، ولا نهوا عن ذلك بل أمروا بالصفح والهجر الجميل . وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحييهم ، ويدانيهم ولا يداهنهم . قال النضر بن شميل حدثني الخليل قال : أتيت أبا ربيعة الأعرابي ، وكان من اعلم من رأيت فإذا هو على سطح ، فسلمنا ، فرد علينا السلام ، وقال لنا ! استووا فبقينا متحيرين ، ولم ندر ما قال فقال لنا أعرابي إلى جنبه أمركم أن ترتفعوا . فقال الخليل : هو من قول الله ثم استوى إلى السماء فصعدنا إليه فقال : هل لكم في خبز فطير ، ولبن هجير ؟ فقلنا : الساعة فارقناه ، فقال : سلاما فلم ندر ما قال فقال الإعرابي : إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ، ولا شر . قال الخليل : هو من قول الله عز وجل { وإذا خاطبهم الجاهلون ، قالوا سلاما } . قال الحسن : هذا وصف نهارهم ،