البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا} (63)

الهون : الرفق واللين .

ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم جاء { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً } ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال : { وعباد الرحمن } وهذه إضافة تشريف وتفضل ، وهو جمع عبد .

وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب ، وتاجر وتجار ، وراجل ورجال ، أي الذين يعبدونه حق عبادته .

والظاهر أن { وعباد } مبتدأ و { الذين يمشون } الخبر .

وقيل : أولئك الخبر و { الذين } صفة ، وقوم من عبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب .

وقيل : لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله .

وقرأ اليماني : وعباد جمع عابد كضارب وضراب .

وقرأ الحسن : وعُبَدُ بضم العين والباء .

وقرأ السلمي واليماني { يُمشّون } مبنياً للمفعول مشدداً .

والهون : الرفق واللين .

وانتصب { هوناً } على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على الحال ، أي يشمون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً ، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق .

وقال مجاهد : بالحلم والوقار .

وقال ابن عباس : بالطاعة والعفاف والتواضع .

وقال الحسن : حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا .

وقال ابن عطية { هوناً } عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم ، فذكر من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال { هوناً } بمعنى أمره هون أي ليس بخشن ، وذهبت فرقة إلى أن { هوناً } مرتبط بقوله { يمشون على الأرض } أي إن المشي هو الهون ، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون أخلاق ذلك الماشي { هوناً } مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بينّا ، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل ، لأن رب ماش { هوناً } رويداً وهو ذنب أطلس .

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب .

وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية وقوله عليه السلام : « من مشى منكم في طمع فليمش رويداً » أراد في عمر نفسه ولم يرد المشي وحده ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر :

كلهم يمشي رويدا *** كلهم يطلب صيدا

وقال الزهري : سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه ، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط .

وقال زيد بن أسلم : أنه رأى في النوم من فسر له { الذين يمشون على الأرض هوناً } بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض .

وقال عياض بن موسى : كان عليه السلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعَدْوِ خطوة خلاف مشية المختال ، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال : « إنما ينحط من صبب » وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفاً .

{ وإذا خاطبهم الجاهلون } أي مما لا يسوغ الخطاب به { قالوا سلاماً } أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه { سلام عليك } قاله الأصم .

وقال مجاهد : قولاً سديداً فهو منصوب بقالوا .

وقيل : هو على إضمار فعل تقديره سلمنا { سلاماً } فهو جزء من متعلق الجملة المحكية .

قال ابن عطية : والذي أقوله أن { قالوا } هو العامل في { سلاماً } لأن المعنى قالوا هذا اللفظ .

وقال الزمخشري : تسلماً منكم فأقيم السلام مقام التسليم .

وقيل : قالوا سداداً من القول يسلمون فيه من الأذى والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب وسوء الرغبة من قوله :

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

انتهى .

وقال الكلبي : وأبو العالية نسختها آية القتال .

وقال ابن عطية : وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلى يوم القيامة ، وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه .

ورجح به أنه المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة ، والآية مكية فنسختها آية السيف .

وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة ، فقال له : إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك ، وكان حكى ذلك للمأمون قال : فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون : فما أجابك به ؟ قال : كان يقول لي سلاماً سلاماً ، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال : يا عم قد أجابك بأبلغ جواب .

فخزي إبراهيم واستحيا ، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية .