ومرة أخرى نجدنا أمام المنهج الفريد ، وهو يواجه واقع النفس البشرية وملابسات الحياة البشرية ، بالواقعية المثالية ، أو المثالية الواقعية ، ويعترف بما هو كامن في تركيبها من ازدواج عجيب فريد :
( ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء - ولو حرصتم - فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة . وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما . وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيمًا ) .
إن الله الذي فطر النفس البشرية ، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها . ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما . خطاما لينظم حركتها فقط ، لا ليعدمها ويقتلها !
من هذه الميول أن يميل القلب البشري إلى إحدى الزوجات ويؤثرها على الأخريات . فيكون ميله إليها أكثر من الأخرى أو الأخريات . وهذا ميل لا حيلة له فيه ؛ ولا يملك محوه أو قتله . . فماذا ؟ إن الإسلام لا يحاسبه على أمر لا يملكه ؛ ولا يجعل هذا إثما يعاقبه عليه ؛ فيدعه موزعا بين ميل لا يملكه وأمر لا يطيقه ! بل إنه يصارح الناس بأنهم لن يستطيعوا أن يعدلوا بين النساء - ولو حرصوا - لأن الأمر خارج عن إرادتهم . . ولكن هنالك ما هو داخل في إرادتهم . هناك العدل في المعاملة . العدل في القسمة . العدل في النفقة . العدل في الحقوق الزوجية كلها ، حتى الابتسامة في الوجه ، والكلمة الطيبة باللسان . . وهذا ما هم مطالبون به . هذا هو الخطام الذي يقود ذلك الميل . لينظمه لا ليقتله !
( فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ) . .
فهذا هو المنهي عنه . الميل في المعاملة الظاهرة ، والميل الذي يحرم الأخرى حقوقها فلا تكون زوجة ولا تكون مطلقة . . ومعه الهتاف المؤثر العميق في النفوس المؤمنة ؛ والتجاوز عما ليس في طاقة الإنسان .
وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيمًا .
ولأن الإسلام يتعامل مع النفس البشرية بجملة ما فيها من مزاج فريد مؤلف من القبضة من الطين والنفخة من روح الله . وبجملة ما فيها من استعدادات وطاقات . وبواقعيتها المثالية ، أو مثاليتها الواقعية ، التي تضع قدميها على الأرض ، وترف بروحها إلى السماء ، دون تناقض ودون انفصام .
لأن الإسلام كذلك . . كان نبي الإسلام [ ص ] هو الصورة الكاملة للإنسانية حين تبلغ أوجها من الكمال ؛ فتنمو فيها جميع الخصائص والطاقات نموا متوازنا متكاملا في حدود فطرة الإنسان .
وكان هذا الرسول [ ص ] وهو يقسم بين نسائه فيما يملك ، ويعدل في هذه القسمة ، لا ينكر أنه يؤثر بعضهن على بعض . وأن هذا خارج عما يملك . فكان يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك . فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب " [ أخرجه أبو داود ] . .
وقوله تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي : لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه ، فإنه وإن حصل القسْم الصوري : ليلة وليلة ، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع ، كما قاله ابن عباس ، وعُبَيْدة السَّلْمَاني ، ومجاهد ، والحسن البصري ، والضحاك بن مزاحم .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا حسين الجُعَفِي ، عن زائدة ، عن عبد العزيز بن رُفَيع ، عن ابن أبي مُلَيكة قال : نزلت هذه الآية : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } في عائشة . يعني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث حمَّاد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : " اللهم هذا قَسْمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني : القلب .
لفظ أبي داود ، وهذا إسناد صحيح ، لكن قال الترمذي : رواه حماد بن زيد وغير واحد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة مرسلا قال : وهذا أصح{[8452]} .
وقوله { فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ } أي : فإذا ملتم إلى واحدة منهم{[8453]} فلا تبالغوا في الميل بالكلية { فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } أي : فتبقى هذه الأخرى مُعَلَّقة .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : معناه لا ذات زوج ولا مطلقة .
وقد قال أبو داود الطيالسي : أنبأنا هَمَّام ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نَهِيك ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وأحد شِقَّيْهِ ساقط " .
وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث همَّام بن يحيى ، عن قتادة ، به . وقال الترمذي : إنما أسنده همَّام ، ورواه هشام الدستوائي عن قتادة - قال : " كان يقال " . ولا نعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همَّام{[8454]} .
وقوله : { وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : وإن أصلحتم في أموركم ، وقسمتم بالعدل فيما تملكون ، واتقيتم الله في جميع الأحوال ، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض .
ثم عذر الناس في شأن النساء فقال : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء } أي تمامَ العدل . وجاء ب ( لن ) للمبالغة في النفي ، لأنّ أمر النساء يغالب النفس ، لأنّ الله جعل حُسن المرأة وخُلقها مؤثّراً أشدّ التأثير ، فربّ امرأة لبيبة خفيفة الروح ، وأخرى ثقيلة حمقاء ، فتفاوتهنّ في ذلك وخلوّ بعضهنّ منه يؤثّر لا محالة تفاوتاً في محبّة الزوج بعض أزواجه ، ولو كان حريصاً على إظهار العدل بينهنّ ، فلذلك قال { ولو حرصتم } ، وأقام الله ميزان العدل بقوله : { فلا تميلوا كلّ الميل } ، أي لا يُفْرط أحدكم بإظهار الميل إلى أحداهنّ أشدّ الميل حتّى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلّقة . فظهر أنّ متعلّق { تميلوا } مقدّر بإحداهنّ ، وأنّ ضمير { تذروها } المنصوب عائد إلى غير المتعلّق المحذوف بالقرينة ، وهو إيجاز بديع .
والمعلّقة : هي المرأة التي يهجرها زوجها هجراً طويلاً ، فلا هي مطلّقة ولا هي زوجة ، وفي حديث أمّ زرع « زوجي العَشَنَّق إنْ أنطِقْ أطَلَّقْ وإن أسكُتْ أعَلَّقْ » ، وقالت ابنة الحُمَارس :
إنّ هي إلاّ حِظَةٌ أو تَطليق *** أو صلَف أو بينَ ذاك تَعْليق
قد دلّ قوله : { ولن تستطيعوا إلى قوله : فلا تميلوا كلّ الميل } على أنّ المحبّة أمر قهري ، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسباباً توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء ، فلا يُكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان ، ولكنّ من الحبّ حظّاً هو اختياري ، وهو أن يَرُوض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته ، وتحمُّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع ، وحسن المعاشرة لها ، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختياراً بطول التكرّر والتعوّد .
ما يقوم مقام الميل الطبيعي . فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله : { فلا تميلوا كلّ الميل } ، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} في الحب أن يستوي حبهن في قلوبكم، {ولو حرصتم}، فلا تقدرون على ذلك، {فلا تميلوا كل الميل} إلى التي تحب، وهي الشابة، {فتذروها كالمعلقة}، أي فتأتيها وتذر الأخرى، يعني الكبيرة كالمعلقة، لا أيم ولا ذات بعل، ولكن اعدلوا في القسمة، {وإن تصلحوا} أمرهن {وتتقوا} الميل والجور، {فإن الله كان غفورا} حين ملت إلى الشابة برضى الكبيرة، {رحيما} بك حين رخص لك في الصلح، فإن أبت الكبيرة الصلح إلا أن تسوي بينها وبين الشابة أو تطلقها كان ذلك لها...
لن تستطيعوا أن تعدلوا بما في القلوب لأن الله تعالى يجاوزه {فَلا تَمِيلُواْ} لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم، فإذا كان الفعل والقول مع الهواء فذلك كل الميل. وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم فيقول: « اللهم هذا قسْمي فيما أملك وأنت أعلم فيما لا أملك». يعني ـ والله أعلم ـ فيما لا أملك: قلبه. قال: وبلغنا أنه كان يطاف به محمولا في مرضه على نسائه حتى حَلَلْنَهُ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بينَ النّساءِ}: لن تطيقوا أيها الرجال أن تسوّوا بين نسائكم وأزواجكم في حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن في ذلك، مما لا تملكونه. وليس إليكم {وَلَوْ حَرَصْتُمْ}: ولو حرصتم في تسويتكم بينهنّ في ذلك.
{فَلاَ تَمِيلُوا كُلّ المَيْلِ}: فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهنّ كلّ الميل، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهنّ عليكم من حقّ في القسم لهنّ، والنفقة عليهن، والعشرة بالمعروف. {فَتَذَرُها كالمُعَلّقَةِ}: فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها كالمعلقة، يعني: كالتي لا هي ذات زوج، ولا هي أيم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: «اللّهُمّ هَذَا قَسْمِي فِيما أمْلِكُ، فَلا تَلُمْنِي فِيما تَمْلِكُ وَلا أمْلِكُ».
{فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ}: أي كالمحبوسة أو كالمسجونة.
وإنما أمر الله جلّ ثناؤه بقوله: {فَلا تَميلُوا كُلّ المَيْلِ فَتَذَرُوها كالمُعَلّقَةِ} الرجال بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهنّ من القسمة بينهنّ والنفقة، وترك الجور في ذلك بإيثار أحداهنّ على الأخرى فيما فرض عليهم العدل بينهن فيه، إذ كان قد صفح لهم عما لا يطيقون العدل فيه بينهن، مما في القلوب من المحبة والهوى.
{وَإنْ تُصْلِحُوا وَتَتّقُوا فإنّ اللّهَ كانَ غَفُورا رَحِيما}: وإن تصلحوا أعمالكم أيها الناس، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم وما فرض الله لهنّ عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف، فلا تجوروا في ذلك. {وتَتّقُوا}: وتتقوا الله في الميل الذي نهاكم عنه، بأن تميلوا لإحداهنّ على الأخرى، فتظلموها حقها مما أوجبها الله له عليكم. {فإنّ اللّهَ كانَ غَفُورا}: فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهنّ قبل ذلك بتركه عقوبتكم عليه، ويغطي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل. {رَحِيما} يقول: وكان رحيما بكم إذا تاب عليكم، فقبل توبتكم من الذي سلف منكم من جورتكم في ذلك عليهنّ، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن، بصفحهن عن حقوقهنّ لكم من القسم على أن يطلقن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
العدل ههنا: التسوية... وأصل ذلك أن في كل ما كان المرء مدفوعا مضطرا فإنه غير مكلف في ذلك، وفي كل ما كان باختيار منه وإيثار غير مدفوع إليه فإنه مكلف في ذلك، والحب مما يدفع المرء إليه، ويضطره، ولا صنع له فيه...
قد رَوَى قتادةُ عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كَانَتْ له امْرَأَتَانِ يَمِيلُ مَعَ إِحْدَاهِمَا على الأُخْرَى جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ"؛ وهذا الخبر يدلّ أيضاً على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أوْلى، لقوله تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]...
آراء ابن حزم الظاهري في التفسير 456 هـ :
والعدل بين الزوجات فرض، وأكثر ذلك في قسمة الليالي، ولا يجوز أن يفضل في قسمة الليالي حرة على أمة متزوجة، ولا مسلمة على ذمية...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} لن تقدروا على التسوية بينهن في المحبة ولو اجتهدتم {فلا تميلوا كل الميل} إلى التي تحبون في النفقة والقسمة {فتذروها كالمعلقة} فتدعوا الأخرى كأنها معلقة لا أيما ولا ذات بعل {وإن تصلحوا} بالعدل في القسم {وتتقوا} الجور {فإن الله كان غفورا رحيما} لما ملت إلى التي تحبها بقلبك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَن تَسْتَطِيعُواْ} ومحال أن تستطيعوا العدل {بَيْنَ النساء ِ} والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن، فرفع لذلك عنكم تمام العدل وغايته، وما كلفتم منه إلا ما تستطيعون بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم، لأنّ تكليف ما لا يستطاع داخل في حدّ الظلم. {وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]... وقيل: إن العدل بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة حداً يوهم أنه غير مستطاع، لأنه يجب أن يسوّي بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه، فهو كالخارج من حدّ الاستطاعة. هذا إذا كن محبوبات كلهن؛ فكيف إذا مال القلب مع بعضهن {فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل} فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها من غير رضاً منها، يعني: أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة؛ فلا تفرطوا فيه إن وقع منكم التفريط في العدل كله. وفيه ضرب من التوبيخ {فَتَذَرُوهَا كالمعلقة} وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة... وروي أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال، فقالت عائشة رضي الله عنها: أإلى كل أزواج رسول الله بعث عمر مثل هذا؟ قالوا: لا، بعث إلى القرشيات بمثل هذا وإلى غيرهنّ بغيره، فقالت: ارفع رأسك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه. فرجع الرسول فأخبره، فأتم لهن جميعاً، وكان لمعاذ امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد. {وَإِن تُصْلِحُواْ} ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة {وَتَتَّقُواْ} فيما يستقبل، غفر الله لكم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى {فتذروها كالمعلقة} أي لا هي أيم ولا ذات زوج، وهذا تشبيه بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر، ولا على ما علق منه انحمل،...
لا تستطيعون التسوية بينهن في الأقوال والأفعال لأن التفاوت في الحب يوجب التفاوت في نتائج الحب، لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ذكر سبحانه وتعالى أن الوقوف على الحق فضلاً عن الإحسان -وإن كانت المرأة واحدة- متعسر، أتبعه أن ذلك عند الجمع أعسر، فقال تعالى معبراً بأداة التأكيد: {ولن تستطيعوا} أي توجدوا من أنفسكم طواعية بالغة دائمة {أن تعدلوا} أي من غير حيف أصلاً {بين النساء} في جميع ما يجب لكل واحدة منهن عليكم من الحقوق {ولو حرصتم} أي على فعل ذلك،... ولما أخبر سبحانه وتعالى بأن لا يخلو نكاح العدد عن ميل، سبب عنه قوله: {فلا} أي فإن كان لا بد لكم من العدد، أو فإن وقع الميل والزوجة واحدة فلا {تميلوا} ولما كان مطلق الميل غير مقدور على تركه فلم يكلف به، بين المراد بقوله: {كل الميل}... ولما كان الميل الكثير مقدوراً على تركه، فكان التقدير: فإن ملتم كل الميل مع إبقاء العصمة فإن الله كان منتقماً حسيباً، عطف عليه قوله: {وإن تصلحوا وتتقوا} أي بأن توجدوا الإصلاح بالعدل في القسم والتقوى في ترك الجور على تجدد الأوقات {فإن الله} أي الذي له الكمال كله {كان غفوراً رحيماً} أي محّاء للذنوب بليغ الإكرام فهو جدير بأن يغفر لكم مطلق الميل، ويسبغ عليكم ملابس الإنعام...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} هذه الآية فتوى أخرى غير الفتاوى المبينة في الآيتين قبلها والمستفتون عنها هم الذين كان عندهم زوجتان أو أكثر من قبل نزول {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} [النساء:3] ومثلهم من عدد بعد ذلك ناويا العدل حريصا عليه ثم ظهر له وعورة مسلكه، واشتباه أعلامه، والتحديد بين ما يملكه وما لا يملكه اختياره منه، فالورع من هؤلاء يحاول أن يعدل بين امرأتيه حتى في إقبال النفس، والبشاشة والأنس، وسائر الأعمال والأقوال، فيرى أنه يتعذر عليه ذلك لأن الباعث على الكثير منه الوجدان النفسي، والميل القلبي، وهو مما لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره، ولا يملك آثاره الطبيعية، ولوازمه الفطرية، فخفف الله برحمته على هؤلاء المتقين المتورعين، وبين لهم أن العدل الكامل بين النساء غير مستطاع ولا يتعلق به التكليف، كأنه يقول: مهما حرصتم على أن تجعلوا المرأتين كالغرارتين المتساويتين في الوزن، وهو حقيقة معنى العدل فلن تستطيعوا ذلك بحرصكم عليه، ولو قدرتم عليه لما قدرتم على إرضائهما به، وإذا كان الأمر كذلك في الواقع...
يظن بعض الميالين إلى منع تعدد الزوجات أنه يمكن أن يستنبط من هذه الآية وآية: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} [النساء:3] أن التعدد غير جائز لأن من خاف عدم العدل لا يجوز له أن يزيد على الواحدة وقد أخبر الله تعالى أن العدل غير مستطاع، وخبره حق لا يمكن لأحد بعده أن يعتقده أنه يمكنه العدل بين النساء، فعدم العدل صار أمرا يقينيا ويكفي في تحريم التعدد أن يخاف عدم العدل بأن يظنه ظنا، فكيف إذا اعتقده يقينيا؟.
كان يكون هذا الدليل صحيحا لو قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ولم يزد على ذلك، ولكنه لما قال: {فلا تميلوا كل الميل...} علم أن المراد بغير المستطاع من العدل هو العدل الكامل الذي يحرص عليه أهل الدين والورع كما بيناه في تفسير الآية وهو ظاهر من قوله: {ولو حرصتم} فإن العدل من المعاني الدقيقة التي يشتبه الحد الأوسط منها بما يقاربه من طرفي الإفراط والتفريط ولا يسهل الوقوف على حده والإحاطة بجزئياته ولا سيما الجزئيات المتعلقة بوجدانات النفس كالحب والكره وما يترتب عليهما من الأعمال، فلما أطلق في اشتراط العدل اقتضى ذلك الإطلاق أن يفكر أهل الدين والورع والحرص على إقامة حدود الله وأحكامه في ماهية هذا العدل وجزئياته ويتبينوها كما تقدم آنفا، فبين لهم سبحانه في هذه الآية ما هو المراد من العدل وأنه ليس هو الفرد الكامل الذي يعم أعمال القلوب والجوارح لأن هذا غير مستطاع ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
نعم إن في الآية موعظة وعبرة لمن يتأملها من غير أولئك الورعين الحريصين على إقامة حدود الله وأحكامه بقدر الطاقة لمن يتأملها ويعتبر بها من عباد الشهوات والأهواء الذين لا يقصدون من الزوجية إلا تمتيع النفس باللذة الحيوانية الموقتة من غير مراعاة أركان الحياة الزوجية التي بينها الله تعالى في قوله: {ومن آياته أن جعل لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21] ولا مراعاة أمر النسل وصلاح الذرية، أولئك السفهاء الذين يكثرون من الزواج ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، يتزوجون الثانية لمحض الملل من الأولى وحب التنقل، ثم الثالثة والرابعة لأجل ذلك، لا يخطر في بال واحد منهم أمر العدل، ولا أنه يجب لإحداهن عليه شيء، وقد ينوي من أول الأمر أن يظلم الأولى ويهضم حقها، ولا يشعر بأنه ارتكب في ذلك إثما، ولا أغضب الله واستهان بأحكامه، وبين هؤلاء وأولئك قوم يزعمون أنهم على شيء من الدين ومراعاة أحكامه يظنون أن العدل بين المرأتين أمر سهل فيقدمون على التزوج بالثانية والثالثة والرابعة قبل أن يتفكروا في حقيقة العدل الواجب وماهيته. ألا فليتق الله الذواقون! ألا فليتق الله المترفون! ألا فليتفكروا في ميثاق الزوجية الغليظ! وفي حقوقها المؤكدة! ألا فليتفكروا في عاقبة نسلهم ومستقبل ذريتهم! ألا فليتفكروا في حال أمتهم التي تتألف من هذه البيوت المبنية على دعائم الشهوات والأهواء وفساد الأخلاق والذرية التي تنشأ بين أمهات متعاديات وزوج شهواني ظالم! ألا فليتفكروا في قوله تعالى: {وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما} [النساء:129]! وليحاسبوا أنفسهم ليعلموا هل هم من المصلحين لأمر نسائهم ونظام بيوتهم أم من المفسدين، وهل هم من المتقين الله في هذا الأمر أم من المتساهلين أو الفاسقين؟؟.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَإِنْ تُصْلِحُوا} ما بينكم وبين زوجاتكم، بإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس، احتسابا وقياما بحق الزوجة، وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين الناس، وتصلحوا أيضا بين الناس فيما تنازعوا فيه، وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم. {وَتَتَّقُوا} الله بفعل المأمور وترك المحظور، والصبر على المقدور. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير في الحق الواجب، ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الله الذي فطر النفس البشرية، يعلم من فطرتها أنها ذات ميول لا تملكها. ومن ثم أعطاها لهذه الميول خطاما. خطاما لينظم حركتها فقط، لا ليعدمها ويقتلها!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قد دلّ قوله: {ولن تستطيعوا إلى قوله: فلا تميلوا كلّ الميل} على أنّ المحبّة أمر قهري، وأنّ للتعلّق بالمرأة أسباباً توجبه قد لا تتوفّر في بعض النساء، فلا يُكلّف الزوج بما ليس في وسعه من الحبّ والاستحسان، ولكنّ من الحبّ حظّاً هو اختياري، وهو أن يَرُوض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته، وتحمُّل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها، حتّى يحصّل من الألف بها والحنوّ عليها اختياراً بطول التكرّر والتعوّد. ما يقوم مقام الميل الطبيعي. فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله: {فلا تميلوا كلّ الميل}، أي إلى إحداهنّ أو عن إحداهنّ...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الله سبحانه وتعالى نفى استطاعة العدالة بين النساء نفيا مؤكدا، لأن حرف (لن) لتأكيد النفي، فالعدالة بمعنى تنفيذ كل الحقوق المقررة والواجبات النفسية أمر غير ممكن مهما يكن حرص الإنسان على العدالة...
المعلقة هي التي تهمل نفسيا ومعنويا وحبا ومودة...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
في سياق هذه الآيات وردت مادة (الصلح) و (الإصلاح) أربع مرات متتالية، مما يوضح بشكل قوي وصريح حرص الشارع الأكيد على سلامة الأسرة المسلمة، وحثه على ضمان استقرارها، ووجوب اتخاذ كل الوسائل، واستنفاد جميع المساعي للحيلولة دون الفراق بين الزوج والزوجة، ودون تعريض الأسرة بكافة أفرادها للتسكع والضياع والشتات، وذلك قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) -(وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (129)}...
أحب أيها العبد المؤمن من شئت وأبغض من شئت، لكن لا تجعل هذا الحب يقود قالبك لتعطي من تحب خير غيره ظلما، وأبغض أيها العبد من شئت فلا يستطيع مقنن أن يقنن للقلب أن يبغض أو يحب، لكن بغضك لا تعديه عن قلبك إلى جوارحك لتظلم من تبغض...
وقوله:"تصلحوا" دليل على أنه كان هناك إفساد موجود والمطلوب أن تقوم بالبحث عن الأسباب التي جعلت الرجل يفسد في علاقته الزوجية ليقضي عليها، وبعد ذلك على المسلم أن يستأنف تقوى جديدة في المعاملة على ضوء ما شرع الله...