وعقب على الاستكبار والمشاقة ، بصفحة الهلاك والدمار لمن كان قبلهم ، ممن كذبوا مثلهم ، واستكبروا استكبارهم ، وشاقوا مشاقتهم . ومشهدهم وهم يستغيثون فلا يغاثون ، وقد تخلى عنهم الاستكبار وأدركتهم الذلة ، وتخلوا عن الشقاق ولجأوا إلى الاستعطاف . ولكن بعد فوات الأوان :
( كم أهلكنا من قبلهم من قرن ، فنادوا ، ولات حين مناص ) !
فلعلهم حين يتملون هذه الصفحة أن يطامنوا من كبريائهم ؛ وأن يرجعوا عن شقاقهم . وأن يتمثلوا أنفسهم في موقف أولئك القرون . ينادون ويستغيثون . وفي الوقت أمامهم فسحة ، قبل أن ينادوا ويستغيثوا ، ولات حين مناص . ولا موضع حينذاك للغوث ولا للخلاص !
ثم خوفهم ما أهلك به الأمم المكذبة قبلهم بسبب مخالفتهم للرسل وتكذيبهم الكتب المنزلة من
السماء فقال : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : من أمة مكذبة ، { فَنَادَوْا } أي : حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله . وليس ذلك بمجد عنهم شيئا . كما قال تعالى : { فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ } ] الأنبياء : 12 [ أي : يهربون ، { لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } ] الأنبياء : 13[
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق عن التميمي قال : سألت ابن عباس عن قول الله : { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } قال : ليس بحين نداء ، ولا نزو ولا فرار . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ليس بحين مغاث . وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس : نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد :
تَذَكَّر ليلى لاتَ حين تذَكّر . . . . . .
وقال محمد بن كعب في قوله : { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } يقول : نادوا بالتوحيد حين تولت الدنيا عنهم ، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم . وقال قتادة : لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء .
وقال مجاهد : { فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } ليس بحين فرار ولا إجابة . وقد روي نحو هذا عن عكرمة ، وسعيد بن جبير وأبي مالك والضحاك وزيد بن أسلم والحسن وقتادة . وعن مالك ، عن زيد بن أسلم : { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } ولا نداء في غير حين النداء .
وهذه الكلمة وهي " لات " هي " لا " التي للنفي ، زيدت معها " التاء " كما تزاد في " ثم " فيقولون : " ثمت " ، و " رب " فيقولون : " ربت " . وهي مفصولة والوقف عليها . ومنهم من حكى عن المصحف الإمام فيما ذكره ابن جرير أنها متصلة بحين : " ولا تحين مناص " . والمشهور الأول . ثم قرأ الجمهور بنصب " حين " تقديره : وليس الحين حين مناص . ومنهم من جوز النصب بها ، وأنشد :
تَذَكَّر حُب ليلى لاتَ حينا *** وأَضْحَى الشَّيْبُ قد قَطَع القَرينا
ومنهم من جوز الجر بها ، وأنشد :
طَلَبُوا صُلْحَنَا ولاتَ أوانٍ *** فأجَبْنَا أن ليس حينُ بقاءِ
بخفض الساعة ، وأهل اللغة يقولون : النوص : التأخر ، والبوص : التقدم . ولهذا قال تعالى : { وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي : ليس الحين حين فرار ولا ذهاب .
استئناف بياني لأن العزة عن الحق والشقاقَ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم مما يثير في خاطر السامع أن يسأل عن جزاء ذلك فوقع هذا بياناً له ، وهذه الجملة معترضة بين جملة { بل الذين كفروا في عزَّةٍ وشقاق } [ ص : 2 ] ، وبين جملة { وعجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم } [ ص : 4 ] .
وكان هذا البيان إخبَاراً مُرفَقاً بحجة من قبيل قياس تمثيل ، لأن قوله : { مِن قبلهم } يؤذن بأنهم مثلهم في العزة والشقاق ومتضمناً تحذيراً من التريث عن إجابة دعوة الحق ، أي ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم ندم ولا متاب كما لم ينفع القرون من قبلهم . فالتقدير : سيجازَوْن على عزتهم وشقاقهم بالهلاك كما جُوزِيَتْ أمم كثيرة من قبلهم في ذلك فليحذروا ذلك فإنهم إن حقت عليهم كلمة العذاب لم ينفعهم متاب كما لم ينفع الذين من قبلهم متاب عند رؤية العذاب .
و { كم } اسم دال على عدد كثير . و { مِن قَرنٍ } تمييز لإِبهام العدد ، أي عدداً كثيراً من القرون ، وهي في موضع نصب بالمفعولية ل { أهْلَكنا } .
والقرن : الأمة كما في قوله تعالى : { ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين } [ المؤمنون : 42 ] . و { من قبلهم } يجوز أن يكون ظرفاً مستقراً جعل صفة ل { قَرْنٍ } مقدمة عليه فوقعت حالاً ، وإنما قدم للاهتمام بمضمونه ليفيد الاهتمامُ إيماء إلى أنهم أسوة لهم في العِزّة والشقاق وأن ذلك سبب إهلاكهم . ويجوز أن يكون متعلقاً ب { أهلكنا } على أنه ظرف لغو ، وقدم على مفعول فعله مع أن المفعول أولى بالسبق من بقية معمولات الفعل ليكون تقديمه اهتماماً به إيماء إلى الإِهلاك كما في الوجه الأول .
وفرع على الإِهلاك أنهم نادوا فلم ينفعهم نداؤهم ، تحذيراً من أن يقع هؤلاء في مثل ما وقعت فيه القرون من قبلهم إذ أضاعوا الفرصة فنادوا بعد فواتها فلم يفدهم نداؤهم ولا دعاؤهم . والمراد بالنداء في { فنَادوا } نداؤهم الله تعالى تَضرعاً ، وهو الدعاء كما حكي عنهم في قوله تعالى : { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } [ الدخان : 12 ] . وقوله : { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون } [ المؤمنون : 64 ] .
وجملة { ولاَتَ حينَ منَاصٍ } في موضع الحال ، والواو واو الحال ، أي نادوا في حال لا حين مناص لهم .
و { لات } حرف نفي بمعنى ( لا ) المشبهة ب ( ليس ) و { لات } حرف مختص بنفي أسماء الأزمان وما يتضمن معنى الزمان من إشارة ونحوها . وهي مركبة من ( لا ) النافية وصُلت بها تاء زائدة لا تفيد تأنيثاً لأنها ليست هاء وإنما هي كزيادة التاء في قولهم : رُبَّت وثُمَّت . والنفي بها لغير الزمان ونحوه خطَأ في اللغة وقع فيه أبو الطيب إذ قال :
لقد تَصبرت حتى لاتَ مصطبَر *** والآن أقحم حتى لات مقتحم
وأغفل شارحو ديوانه كلُّهم وقد أدخل { لات على غير اسم زمان . وأيًّا مَّا كان فقد صارت ( لا ) بلزوم زيادة التاء في آخرها حرفاً مستقلاً خاصاً بنفي أسماء الزمان فخرجت عن نحو : رُبَّت وثَمَّتَ .
وزعم أبو عبيد القاسم بن سلام أن التاء في { ولاَتَ حينَ مناصٍ } متصلة ب { حِينَ } وأنه رآها في مصحف عثمان متصلة ب { حين } وزعم أن هذه التاء تدخل على : حين وأوان{[353]} وآن يريد أن التاء لاحقة لأول الاسم الذي بعد ( لا ) ولكنه لم يفسر لدخولها معنى . وقد اعتذر الأيمة عن وقوع التاء متصلة ب { حين } في بعض نسخ المصحف الإِمام بأن رسم المصحف قد يخالف القياس ، على أن ذلك لا يوجد في غير المصحف الذي رآه أبو عبيد من المصاحف المعاصرة لذلك المصحف والمرسومة بعده . والمناص : النجاء والفوت ، وهو مصدر ميمي ، يقال : ناصه ، إذا فاته .
والمعنى : فنادَوا مبتهلين في حال ليس وقت نجاء وفَوت ، أي قد حق عليهم الهلاك كما قال تعالى : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة اللَّه التي قد خلت في عباده } [ غافر : 85 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.