في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

121

ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم . من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق ، الضارب في جذور الزمان . . من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم ، وقاتلوا مع أنبيائهم ، فلم يجزعوا عند الابتلاء ؛ وتأدبوا - وهم مقدمون على الموت - بالأدب الإيماني في هذا المقام . . مقام الجهاد . . فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم ؛ وأن يجسموا أخطاءهم فيروها " إسرافا " في أمرهم . وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار . . وبذلك نالوا ثواب الدارين ، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء ، وإحسانهم في موقف الجهاد . وكانوا مثلا يضربه الله للمسلمين :

( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما ضعفوا وما استكانوا . والله يحب الصابرين . وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، وإسرافنا في أمرنا ؛ وثبت أقدامنا ؛ وانصرنا على القوم الكافرين . فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة . والله يحب المحسنين ) . .

لقد كانت الهزيمة في " أحد " ، هي أول هزيمة تصدم المسلمين ، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل ؛ فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية . فلما أن صدمتهم أحد ، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه !

ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم . واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة ، وبالاستنكار تارة ، وبالتقرير تارة ، وبالمثل تارة ، تربية لنفوسهم ، وتصحيحا لتصورهم ، وإعدادا لهم . فالطريق أمامهم طويل ، والتجارب أمامهم شاقة ، والتكاليف عليهم باهظة ، والأمر الذي يندبون له عظيم .

والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام ، لا يحدد فيه نبيا ، ولا يحدد فيه قوما . إنما يربطهم بموكب الإيمان ؛ ويعلمهم أدب المؤمنين ؛ ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين ؛ ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء ؛ ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين ؛ ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد . وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير :

( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير . فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ) . .

. . وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة . فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح . وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح ، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء . . فهذا هو شأن المؤمنين ، المنافحين عن عقيدة ودين . .

( والله يحب الصابرين ) . .

الذين لا تضعف نفوسهم ، ولا تتضعضع قواهم ، ولا تلين عزائمهم ، ولا يستكينون أو يستسلمون . . والتعبير بالحب من الله للصابرين . له وقعه . وله إيحاؤه . فهو الحب الذي يأسو الجراح ، ويمسح على القرح ، ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير !

/خ179

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

ثم قال تعالى - مسليًا للمسلمين{[5800]} عما كان وقع في نفوسهم يوم أُحُد - : { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قيل : معناه : كم من نبي قُتِل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير . وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، فإنه قال : وأما الذين قرؤوا : { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } فإنهم قالوا : إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم ، وإنما نفي الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل .

قال : ومن قرأ { قَاتَلَ } فإنه اختار ذلك لأنه قال : لو قتلوا{[5801]} لم يكن لقوله : { فَمَا وَهَنُوا } وجه معروف ؛ لأنهم يستحيل أن يُوصَفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا .

ثم اختار قراءة من قرأ { قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } ؛ لأن الله [ تعالى ] {[5802]} عاتب بهذه الآيات والتي{[5803]} قبلها من انهزم يوم أحد ، وتركوا القتال أو سمعوا الصائح يصيح : " إن{[5804]} محمدا قد قتل " . فعذلهم الله على فرارهم وترْكِهم القتال فقال لهم : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ } أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم وانقلبتم على أعقابكم ؟ .

وقيل : وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير{[5805]} .

وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولا آخر ، [ فإنه ]{[5806]} قال : أي وكأين من نبي أصابه القتل ، ومعه ربيون ، أي : جماعات فما وهنوا بعد نبيهم ، وما ضعفوا عن عدوهم ، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم ، وذلك الصبر ، { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } .

فجعل قوله : { مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } حالا وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه ، وله اتجاه لقوله : { فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ } الآية ، وكذلك حكاه الأموي في مغازيه ، عن كتاب محمد بن إبراهيم ، ولم يقل {[5807]} غيره .

وقرأ بعضهم : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زرّ ، عن ابن

مسعود { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : ألوف .

وقال ابن عباس ، ومجاهد وسعيد بن جُبَير ، وعِكْرِمة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والرَّبِيع ، وعطاء الخراساني : الربيون : الجموع الكثيرة .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن الحسن : { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي : علماء كثير ، وعنه أيضًا : علماء صبر أبرار أتقياء .

وحكى ابن جرير ، عن بعض نحاة البصرة : أن الربيين هم الذين يعبدون الرب ، عز وجل ، قال : ورد بعضهم عليه قال : لو كان كذلك لقيل رَبيون ، بفتح الراء .

وقال ابن زيد : " الربيون : الأتباع ، والرعية ، والربابيون :{[5808]} الولاة .

{ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا } قال قتادة والربيع بن أنس : { وَمَا ضَعُفُوا } بقتل نبيهم { وَمَا اسْتَكَانُوا } يقول : فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم ، أنْ قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله .

وقال ابن عباس { وَمَا اسْتَكَانُوا } تَخَشَّعوا . وقال السُّدِّي وابن زيد : وما ذلوا لعدوهم .

وقال محمد بن إسحاق ، وقتادة والسدي : أي ما أصابهم ذلك حين قُتِل نبيهم . { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }


[5800]:في جـ، ر، أ، و: "للمؤمنين".
[5801]:في جـ: "لأنه لو قتلوا"، وفي ر: "فإنه قال لو قتلوا".
[5802]:زيادة من و.
[5803]:في و: "الذي".
[5804]:في ر: "بأن".
[5805]:في و: "وقيل: وكم من نبي قتل معه ربيون كثير".
[5806]:زيادة من جـ.
[5807]:في جـ، أ، و: "ولم يحك".
[5808]:في جـ، ر: "الربانيون".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

ثم ضرب تعالى المثل للمؤمنين بمن سلف من صالحي الأمم الذين لم يثنهم عن دينهم قتل الكفار لأنبيائهم فقال : { وكأين من نبي } الآية ، وفي { كأين } أربع لغات{[3586]} : «كأين » على وزن كعين يفتح العين ، و «كاين » ، على وزن كاعن و «كأين » على وزن كعين بسكون العين وكان على وزن كعن بكسر العين ، وأكثر ما استعملت العرب في أشعارها التي على وزن كاعن ، فمن ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]

وَكَائِنْ رَدَدْنا عَنْكُمُ مِنْ مُدْجَّجٍ . . . يجيءُ أمامَ القومِ يَرْدِي مُقَنَّعَا{[3587]}

وقال جرير : [ الطويل ]

وَكَائِنْ بِالأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ . . . يَرَاني لَوْ أُصِبْتُ هُوَ المُصَابَا{[3588]}

وقال آخر : [ زهير ] : [ الطويل ] :

وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِب . . . زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ في التَّكَلُّمِ{[3589]}

وقد جاء في اللغة التي ذكرتها أولاً قول الشاعر : [ الوافر ]

كَأَيِّنْ في المَعَاشِرِ مِنْ أُنَاسٍ . . . أَخْوهُمْ فَوْقَهُمْ وَهُمُ كِرَامُ{[3590]}

وهذه اللغة هي أصل هذه اللفظة ، لأنها كاف التشبيه دخلت على «أي » كما دخلت على «ذا » في قولك لفلان كذا وكذا ، وكما دخلت على «أن » في قولك كأن زيداً أسد ، لكن بقي لها معنى التشبيه في كأن وزال عنها ذلك في كذا وكذا ، وفي { كأين } ، وصرفت العرب { كأين } في معنى «كم » التي هي للتكثير ، وكثر استعمالهم للفظة حتى لعب فيها لسان العرب على اللغات الأربع التي ذكرت ، وهذا كما لعب في قولهم : لعمري حتى قالوا : وعملي ، وكما قالوا : أطيب وأيطب ، وكما قالوا : طبيخ في بطيخ ، فعوملت الكاف «وأي » معاملة ما هو شيء واحد ، فأما اعتلال لغة من قال : «كأين » على وزن فاعل ، فإنهم أخذوا الأصل الذي هو «كاين » فقلبوا الياء قبل الهمزة ونقلت حركة كل واحد منهما إلى أختها ، فجاء «كيا » على وزن كيع ، فحذفوا الياء الثانية المفتوحة تخفيفاً ، كما حذفوا الياء من ميت وهين ولين فقالوا : ميت وهين ولين ، وكما حذفوا الياء الثانية من «أي » تخفيفاً ومنه قول الفرزدق بن غالب التميمي :

تنظرت نصراً والسماكين أيهما . . . عليَّ من الغيث استهلت مواطره ؟

فجاء «كيا » على وزن كيع ، فأبدلت هذه الياء الساكنة ألفاً مراعاة للفتحة التي قبلها ، كما قالوا : في يوجل يأجل ، وكما أبدلوا الياء ألفاً في «طاى » وكما أبدلت في آية عند سيبويه ، إذا أصلها عنده أية على وزن فعلة بسكون العين ، فجاء «كاء » ثم كتب هذا التنوين نوناً في المصحف ، فأما قياس اللغة فحذفه في الوقف ، فكما يقولون : مررت بزيد فكذلك يقولون كأي ، ووقف عليه أبو عمرو بياء دون نون ، وكذلك روى سورة بن المبارك{[3591]} عن الكسائي ، ووقف سائر القراء بإثبات النون مراعاة لخط المصحف ، قال أبو علي : ولو قيل إنه لما تصرف في الكلمة بالقلب صارت بمنزلة النون التي من نفس الكلمة وصارت بمنزلة لام فاعل فأقرت في الوقف ، لكان قولاً ، ويقوي ذلك أنهم لما حذفوا الكلام من قولهم أما لا ، جعلوها بالحذف ككلمة واحدة ، فأجازوا الإمالة في ألف «لا » كما تجوز في التي من نفس الكلمة في الأسماء والأفعال ، فيوقف على «كأين » بالنون ولا يتوقف على النون إذا لم تقلب ، كما لا تميل الألف من «لا » إذا لم يحذف فعلها .

قال الفقيه أبو محمد : وبهذه اللغة التي فيها هذا القلب قرأ ابن كثير وحده ، وقرأ سائر السبعة باللغة التي هي الأصل «كأين » ، وذهب يونس بن حبيب في «كأين » إلى أنه فاعل من الكون ، وقوله مردود ، إذ يلزم عنه إعراب الكلمة ولم يعربها أحد من العرب ، وأما اللغة التي هي «كأين » على وزن كعين فهي قراءة ابن محيصن والأشهب العقيلي ، وتعليل هذه اللغة أنه علل الأصل الذي هو «كأين » بالتعليل المتقدم ، فلما جاء «كيا » على وزن كيعن ، ترك هؤلاء إبدال الياء الساكنة ألفاً كما تقدم في التعليل الأول ، وقلبوا الكلمة فجعلوها «كأين » على وزن كعين ، وحسن هذا من وجهين : أحدهما أن التلعب والتصرف في هذه الكلمة مهيع ، والثاني أنهم راجعوا الأصل الذي هو تقديم الهمزة على الياء ، وأما اللغة التي هي كان على وزن كع فهي قراءة ابن محيصن أيضاً ، حكاها عنه أبو عمرو الداني ، وقرأها الحسن بن أبي الحسن ، إلا أنه سهل الهمزة ياء فقرأ كي في جميع القرآن ، وتعليل هذه اللغة أنهم حذفوا الألف من «كاء » الممدودة على وزن كاعن بعد ذلك التصرف كله تخفيفاً ، وهذا كما قالوا : أم والله ، يريدون : أما ، وكما قالوا على لسان الضب{[3592]} [ المجتث ] :

لا أشتهي أنْ أردّا . . . إلاّ عراداً عردّا

وصلياناً بردّا . . . وعنكثا ملتبدّا

أرادوا : عارداً وبادراً ، فحذفوا تخفيفاً ، وهذا كثير في كلامهم ، { وكأين } في هذه الآية في موضع رفع بالابتداء ، وهي بمنزلة «كم » وبمعناها تعطي في الأغلب التكثير ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «قُتِل » ، بضم القاف وكسر التاء مخففة ، وقرأ الباقون «قاتل معه » بألف بين القاف والتاء ، وقرأ قتادة «قُتل » بضم القاف وكسر التاء مشددة على التكثير ، وقوله تعالى : { قتل } قال فيه جماعة من المفسرين منهم الطبري : إنه مستند إلى ضمير { نبي } ، والمعنى عندهم أن النبي قتل ، قال ابن عباس في قوله : { وما كان لنبي أن يغل } [ آل عمران : 161 ] النبي يقتل ، فكيف لا يخان ، وإذا كان هذا ف { ربيون } مرتفع بالظرف بلا خلاف ، وقوله : { معه ربيون } على هذا التأويل يجوز أن يكون صفة ل { نبي } ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير الذي أسند إليه { قتل } فإن جعلته صفة أضمرت للمبتدأ الذي هو { كأين } خبراً تقديره في آخر الكلام : مضى أو ذهب أو فقد : { فما وهنوا } وإن جعلت { معه ربيون } حالاً من الضمير فخبر المبتدأ في قوله : { قتل } وإذا جعلته صفة فالضمير في { معه } عائد على { النبي } ، وإذا جعلته حالاً فالضمير في { معه } عائد على الضمير ذي الحال ، وعلى كلا الوجهين من الصفة أو الحال ف «معه ربيون » متعلق في الأصل بمحذوف ، وليس متعلقاً ب { قتل } وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة معه : إن { قتل } إنما هو مستند إلى قوله : { ربيون } وهم المقتولون قال الحسن وسعيد بن جبير : لم يقتل نبي في حرب قط .

قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا القول يتعلق قوله : { معه } ب { قتل } - وهذه الجملة- { قتل معه ربيون } ، هي الابتداء ويتصور في قراءة من قرأ «قاتل » جميع ما ذكرته من التقديرات في قراءة «قتل » وأما قراءة قتادة «قتل » فقال أبو الفتح{[3593]} : لا يحسن أن يسند الفعل إلا الربيين ، لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد ، فإن قيل : يستند إلى نبي مراعاة لمعنى «كم » فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله { من نبي } ودل الضمير المفرد في { معه } على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، فخرج الكلام على معنى «كم » قال أبو الفتح : وهذه القراءة تقوي قول من قال من السبعة : إن «قتل » - بتخفيف التاء أو «قاتل » إنما يستند إلى الربيين ، ورجح الطبري استناد «قتل » إلى «النبي » بدلالة نازلة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا لما قيل قتل محمد - فضرب بالمثل بنبي قتل .

قال القاضي أبو محمد : وإذا لم يسند الفعل إلى «نبي » فإنما يجيء معنى الآية : تثبيت المؤمنين بعد من قتل منهم فقط ، وترجيح الطبري حسن ، ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله تعالى : { أفإن مات أو قتل } [ آل عمران : 144 ] وحجة من قرا «قاتل » أنها أعم في المدح لأنه يدخلها فيها من قتل ومن بقي{[3594]} .

قال الفقيه أبو محمد : ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة «قتل » إسناده إلى نبي . وأجمع السبعة وجماعة من الناس على كسر الراء من «رِبيون » وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس وعكرمة والحسن وأبو رجاء وعمرو بن عبيد وعطاء بن السائب{[3595]} : «رُبيون » بضم الراء ، وروى قتادة عن ابن عباس «رَبيون » بفتح الراء ، قال ابن جني : الفتح في الراء لغة تميم{[3596]} وكلها لغات ، واختلف الناس في معنى { ربيون } فقال ابن مسعود : الربيون الألوف من الناس والجمع الكثير ، وقال ابن عباس : { ربيون } جموع كثيرة ، وقاله الحسن وقتادة وعكرمة ولقول عبد الله بن مسعود وابن عباس : إنهم الألوف ، قال بعض المفسرين : هم عشرة آلاف فصاعداً ، أخذ ذلك من بناء الجمع الكثير في قولهما : هم الألوف وهذا في الربيين أنهم الجماعات الكثيرة هو من الرِبة بكسر الراء وهي الجماعة الكثيرة ، قاله يونس بن حبيب ، وقال : إن قوله تعالى : { قتل معه ربيون } منسوبون إليها ، قال قطرب : جماعة العلماء على قول يونس ، وقال الزجّاج : يقال : إن الربة عشرة آلاف ، وروي عن ابن عباس وعن الحسن بن أبي الحسن وغيرهما أنهم قالوا : { ربيون } معناه علماء ، وقال الحسن : فقهاء علماء قال أيضاً : علماء صبر{[3597]} ، وهذا القول هو على النسبة إلى الرب ، إما لأنهم مطيعون له ، أو من حيث هم علماء بما شرع ، ويقوي هذا القول في قراءة من قرأ «رَبيون » بفتح الراء وأما في ضم الراء وكسرها فيجيء على تغيير النسب ، كما قالوا في النسبة إلى الحرم : حِرمي بكسر الحاء ، وإلى البصرة ، بصري بكسر الباء ، وفي هذا نظر ، وقال ابن زيد : «الربانيون » : الولاة ، والربيون الرعية الأتباع للولاة .

قال الفقيه أبو محمد : كان هذا من حيث هم مربوبون ، وقال النقاش : اشتقاق ربي من ربا الشي يربو إذا كثر ، فسمي بذلك الكثير العلم .

قال الفقيه أبو محمد : وهذا ضعيف ، وقال مكي : رِبي بكسر الراء منسوب إلى الرب لكن كسرت راؤه إتباعاً للكسرة والياء اللتين بعد الراء ، وروي بضم الراء كذلك لكنهم ضموها كما قيل : دُهري بضم الدال في النسب إلى الدهر ، وقرأ جمهور الناس «فما وهَنوا » بفتح الهاء ، وقرأ الأعمش والحسن وأبو السمال «وهِنوا » بكسر الهاء ، وهما لغتان بمعنى ، يقال : وهن بكسر الهاء يوهن ووهن بفتح الهاء يهن ، وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضاً «وهْنوا » بإسكان الهاء ، وهذا الوهن في قوله آنفاً { ولا تهنوا } [ آل عمران : 139 ] والضمير في قوله : { فما وهنوا } عائد على جميع الربيين في قول من أسند قتل إلى نبي ، ومن أسنده إلى الربيين قال في الضمير إنه يعود على من بقي منهم ، إذا المعنى يفهم نفسه ، وقوله تعالى : { وما ضعفوا } معناه لم يكتسبوا من العجز والإلقاء باليد ما ينبيء عن ضعفهم ، وقوله تعالى : { وما استكانوا } ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون فوزنه افتعلوا استكنوا ، فمطلت فتحة الكاف فحدث من مطلها ألف{[3598]} ، وذهب طائفة إلى أنه مأخوذ من كان يكون فوزنه على هذا الاشتقاق استفعلوا أصله استكونوا ، نقلت حركة الواو إلى الكاف ، وقلبت ألفاً ، كما فعلوا في قولك : استعانوا واستقاموا ، والمعنى : أنهم لم يضعفوا ولا كانوا قريباً من ذلك ، كما تقول : ما فعلت كذا ولا كدت ، فتحذف لأن الكلام يدل على أن المراد ، وما كدت أن أفعل ، ومحبة الله تعالى للصابرين ما يظهر عليهم من نصره وتنعيمه{[3599]} .


[3586]:- قارن بما أورده ابن جني في المحتسب1/ 170-173 ففيه كثير مما أورده المؤلف حول "كأين".
[3587]:- لم نعثر على قائله. والمدجج: الشاك في السلاح. يردي بفتح الياء: يمشي مشيا فيه تبختر. ورجل مقنع: عليه بيضة الحديد.
[3588]:- البيت من قصيدة له يمدح بها الحجاج بن يوسف مطلعها: سئمت من المواصلة العتابا ... وأمسى الشيب قد ورث الشبابا والأباطح جمع أبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى، أصابه الدهر بنفسه وماله: جاحه ففجعه، والمصيبة: ما أصاب من الدهر.
[3589]:- البيت لزهير بن أبي سلمى. الصمت والصمات: السكوت، يقول: وكم صامت يعجبك صمته فتستحسنه، وإنما تظهر زيادته على غيره ونقصانه عن غيره عند تكلمه، وقد نسب الجاحظ هذا البيت في (البيان والتبيين ج1/170) للأعور الشني. وهذا وقد أنشد الكسائي أيضا: وكائن ترى يسعى من الناس جاهدا على ابن غدا منه شجاع وعقرب وقال آخر: وكائن أصابت مؤمنا من مصيبة على الله عقباها ومنه ثوابــها والمتأمل يرى ابن عطية قد روى الأبيات التي استشهد بها (كاين) بالياء تسهيلا للهمزة كما هي عادة أهل المغرب العربي.
[3590]:- لم نعثر على قائله. والمعاشر جمع معشر: الجماعة متخالطين أو غير ذلك
[3591]:- هو سورة بن المبارك الخراساني الدينوري، روى القراءة عن الكسائي، وهو من المكثرين عنه، وروى عنه محمد بن سمعان بن أبي مسعود، ومحمد بن الجهم، وأحمد بن زكرياء السوسي. (طبقات القراء لابن الجزري 1/321).
[3592]:- قال أبو الهيثم: تقول العرب: قيل للضب: "وردا وردا"، فقال. أصبح قلبي صردا لا يشتهي أن يردا الأبيات. "اللسان" في مادة: (عرد) وصرد بالكسر صردا، والصرد: البرد، والعراد: حشيش طيب الريح، وقيل: حمض تأكله الإبل، والعارد من النبات: المنتصب الشديد أو عراد عرد على المبالغة. والصليان: نبت، والعنكث نبت. والتبد الورق: تلبد بعضه على بعض، والتبدت الشجرة: كثرت أوراقها. وفي "حياة الحيوان" للدميري: ومن كلامهم الذي وضعوه على ألسنة البهائم: ثم قالت السمكة: رد يا ضب فقال: أصبح قلبي...إلخ.
[3593]:- انظر المحتسب 1/173.
[3594]:- نقل أبو حيان في البحر المحيط هذا الكلام ثم قال: "قتل – يظهر أنها مدح، وهي أبلغ في مقصود الخطاب لأنها نص في وقوع القتل، ويستلزم المقاتلة- وقاتل لا تدل على القتل إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل- فما ذكر من أنه يحسن عنده- لا يظهر حسنه، بل القراءتان تحتملان الوجهين".
[3595]:- هو عطاء بن السائب أبو زيد الثقفي، الكوفي، أحد الأعلام، أخذ القراءة عرضا عن أبي عبد الرحمان السلمي، وأدرك عليا، روى عنه شعبة بن الحجاج، وأبو بكر بن عياش، وجعفر بن سليمان، ومسح على رأسه ودعا له بالبركة، توفي سنة: 136. "طبقات القراء" لابن الجزري، 1/513.
[3596]:- كذا ورد هنا، وجاء في المحتسب (1/173) الضم في (ربيون) تميمية.
[3597]:- الصُّبُر: بضم الصاء والباء جمع صبير، وهو الكفيل ومقدم القوم.
[3598]:- هذا هو قول الفراء وجماعة من النحاة، وقد مرت نماذج من المطل آنفا.
[3599]:- قال العلماء: الله يحب الصابرين على قتال عدوهم، أو على دينهم وقتال الكفار، والظاهر العموم، وكثيرا ما تمدحت العرب بالصبر، وحثت عليه، قال طرفة: وتشتكي النفس ما صاب بها فاصبري إنك من قوم صبر
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيّٖ قَٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّيُّونَ كَثِيرٞ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسۡتَكَانُواْۗ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (146)

عطف على قوله : { ومن ينقلب على عقبيه } [ آل عمران : 144 ] الآية وما بينهما اعتراض ، وهو عطف العبرة على الموعظة فإنّ قوله : { ومن ينقلب عقبيه } موعظة لمن يَهِمّ بالانقلاب ، وقولَه : { وكأين من نبي قاتل } عبرة بما سلف من صبر أتباع الرسل والأنبياء عند إصابة أنبيائهم أو قتلهم ، في حرب أو غيره ، لمماثلة الحالين . فالكلام تعريض بتشبيه حال أصحاب أحُد بحال أصحاب الأنبياء السالفين لأنّ مَحَلّ المثل ليس هو خصوص الانهزام في الحرب بل ذلك هو الممثل . وأمَّا التَّشبيه فهو بصير الأتباع عند حلول المصائب أو موت المتبوع .

« وكأيّن » كلمة بمعنى التكثير ، قيل : هي بسيطة موضوعة للتكثير ، وقيل : هي مركّبة من كاف التَّشبيه وأي الاستفهامية وهو قول الخليل وسيبويه ، وليست ( أيّ ) هذه استفهاماً حقيقيّاً ، ولكنّ المراد منها تذكير المستفهم بالتكثير ، فاستفهامها مجازي ، ونونها في الأصل تنوين ، فلمّا ركّبت وصارت كلمة واحدة جعل تنوينها نوناً وبُنيت . والأظهر أنَّها بسيطة وفيها لغات أرْبع ، أشهرها في النثر كأيِّن بوزن كعَيِّن ( هكذا جرت عادة اللغويين والنحاة إذا وزنوا الكلمات المهموزة أن يعوّضوا عن حرف الهمزة بحرف العين لئلا تلتبس الهمزة بالألف أو الياء الَّتي تكتب في صورة إحداهما ) ، وأشهرها في الشِعْر كائن بوزن اسم فاعل كان ، وليست باسم فاعل خلافاً للمبرّد ، بل هي مخفّف كأيِّن .

ولهم في كيفية تخفيفها توجيهات أصلها قول الخليل لمّا كثر استعمالها تصرّف فيها العرب بالقلب والحذف في بعض الأحوال . قلت : وتفصيله يطول . وأنا أرى أنَّهم لمّا راموا التَّخفيف جعلوا الهمزة ألفاً ، ثمّ التقى ساكنان على غير حدّه ، فحذفوا الياء الساكنة فبقيت الياء المكسورة فشابهت اسم فاعل ( كان ) فجعلوها همزة كالياء الَّتي تقع بعد ألف زائدة ، وأكثر ما وقع في كلام العرب هو كاين لأنَّها أخف في النظم وأسعد بأكثر الموازين في أوائل الأبيات وأواسطها بخلاف كائن ، قال الزجاج : اللغتان الجيّدتان كايِّن وكائن . وحكى الشَّيخ ابن عرفة في تفسيره عن شيخه ابن الحباب قال : أخبرنا شيخنا أحمد بن يوسف السلمي الكناني ، قال : قلت لشيخنا ابن عصفور : لِم أكثرت في شرحك للإيضاح من الشواهد على كائن ؟ فقال : لأنِّي دخلت على السلطان الأمير المستنصر ( يعني محمد المستنصر ابن أبي زكرياء الحفصي والظاهر أنَّه حينئذ ولّي العهد ) فوجدت ابن هشام ( يعني محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي نزيل تونس ودفينها المتوفّى سنة 646 ) فأخبرني أنَّه سأله عمَّا يحفظ من الشواهد على قراءة كايِّن فلم يستحضر غير بيت الإيضاح :

وكائن بالأباطح من صديق *** يراني لو أُصِبت هو المصابا

قال ابن عصفور : فلمَّا سألني أنا قلت : أحفظ فيها خمسين بيتاً فلمَّا أنشدته نحو عشرة قال : حسبك ، وأعطاني خمسين ديناراً ، فخرجت فوجدت ابن هشام جالساً بالباب فأعطيته نصفها .

وقرأ الجمهور { وكأيِّن } بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء تحتية مشدّدة بعد الهمزة ، على وزن كلمة { كصَيِّب } وقرأه ابن كثير { كَائن } بألف بعد الكاف وهمزة مكسورة بعد الألف بوزن كَاهِن .

والتكثير المستفاد من { كأيّن } واقع على تمييزها وهو لفظ ( نبيء ) فيحتمل أن يكون تكثيراً بمعنى مطلق العدد ، فلا يتجاوز جمع القلّة ، ويحتمل أن يكون تكثيراً في معنى جمع الكثرة ، فمنهم من علمناه ومنهم من لم نعلمه ، كما قال تعالى : { ومنهم من لم نقصص عليك } ، ويحضرني أسماء ستة مِمَّن قتل من الأنبياء : أرمياء قتلته بنو إسرائيل ، وحزقيال قتلوه أيضاً لأنَّه وبّخهم على سوء أعمالهم ، وأشعياء قتله منسا بن حزقيال ملك إسرائيل لأنَّه وبّخه ووعظه على سوء فعله فنشره بمنشار ، وزكرياء ، ويحيى ، قتلتهما بنو إسرائيل لإيمانهما بالمسيح ، وقتل أهلُ الرسّ من العرب نبيئهم حنظلة بن صفوان في مدّة عدنان ، والحواريّون اعتقدوا أنّ المسيح قُتل ولم يهنوا في إقامة دينه بعده ، وليس مراداً هنا وإنَّما العبرة بثبات أتباعه على دينه مع مفارقته لهم إذ العبرة في خلوّ الرسول وبقاء أتباعه ، سواء كان بقتل أو غيره . وليس في هؤلاء رسول إلاّ حنظلة بن صفوان ، وليس فيهم أيضاً من قُتِل في جِهادٍ ، قال سعيد بن جبير : ما سمعنا بنبيء قتل في القتال .

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو بكر عن عاصم : ( قُتل ) بصيغة المبنى للمجهول ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف ، وأبو جعفر : ( قَاتَلَ ) بصيغة المفاعلة فعلى قراءة ( قُتل ) بالبناء للمجهول فمرفوع الفعل هو ضمير نبيء ، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن يكون مرفوع الفعلين ضميرَ نبيء فيكون قوله : { معه ربيون } جملة حاليَّة من ( نبيء ) ويجوز أن يكون مرفوع الفعلين لفظ ( ربّيّون ) فيكون قوله ( معه ) حالاً من ( ربّيّون ) مقدّماً .

وجاءت هذه الآية على هذا النظم البديع الصالح لحمل الكلام على تثبيت المسلمين في حال الهزيمة وفي حال الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الوجهين في موقع جملة { ومعه ربّيّون } يختلف حُسن الوقف على كلمة ( قتل ) أو على كلمة ( كثير ) .

و ( الرّبيُّون ) جمع ربيّ وهو المتّبع لشريعة الرّب مثل الربّاني ، والمراد بهم هنا أتباع الرسل وتلامذة الأنبياء . ويجوز في رَائه الفتح ، على القياس ، والكسر ، على أنَّه من تغييرات النسب وهو الذي قرىء به في المتواتر .

ومحلّ العبرة هو ثبات الربّانيّين على الدّين مع موت أنبيائهم ودعاتهم .

وقوله : { كثير } صفة { ربّيّون } وجيء به على صيغة الإفراد ، مع أنّ الموصوف جمع ، لأنّ لفظ كثير وقليل يعامل موصوفهما معاملة لفظ شيءٍ أو عدد ، قال تعالى : { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] وقال : { ود كثير من أهل الكتاب } [ البقرة : 109 ] وقال : { اذكروا إذ أنتم قليل } [ الأنفال : 26 ] وقال : { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً } [ الأنفال : 43 ] .

وقوله : { فما وهنوا } أي الربّيّون إذ من المعلوم أنّ الأنبياء لا يهنون فالقدوة المقصودة هنا ، هي الاقتداء بأتباع الأنبياء ، أي لا ينبغي أن يكون أتباع من مضى من الأنبياء ، أجدر بالعزم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم

وجمع بين الوهن والضّعف ، وهما متقاربان تقارباً قريباً من الترادف ؛ فالوهن قلَّة القدرة على العمل ، وعلى النُّهوض في الأمر ، وفعله كوعَد وورِث وكرُم . والضّعف بضم الضّاد وفتحها ضدّ القوّة في البدن ، وهما هنا مجازان ، فالأوّل أقرب إلى خور العزيمة ، ودبيب اليأس في النُّفوس والفكر ، والثَّاني أقرب إلى الاستسلام والفشل في المقاومة . وأمّا الاستكانة فهي الخضوع والمذلّة للعدوّ . ومن اللطائف ترتيبها في الذّكر على حسب ترتيبها في الحصول : فإنَّه إذا خارت العزيمة فَشِلت الأعضاء ، وجاء الاستسلام ، فتبعته المذلّة والخضوع للعدوّ .

واعلموا أنَّه إذا كان هذا شأن أتباع الأنبياء ، وكانت النُّبوءة هدياً وتعليماً ، فلا بدع أن يكون هذا شأن أهل العلم ، وأتباع الحقّ ، أن لا يوهنهم ، ولا يضعفهم ، ولا يخضعهم ، مقاومة مقاوم ، ولا أذى حاسد ، أو جاهل ، وفي الحديث الصّحيح ، في « البخاري » : أن خَبَّاباً قال للنَّبيء صلى الله عليه وسلم " لقد لقينا من المشركين شدّة ألاَ تدعُو الله " فقعد وهو محمّر وجهه فقال : " لقد كان مَن قبلكم لَيُمشَط بِمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضَع المنشار على مَفْرِق رأسه فيُشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه " الحديث .