ثم يجيء الإيقاع الأخير ، في نداء الله للذين آمنوا ، وتلخيص أعباء المنهج ، وشرط الطريق :
( يا أيها الذين آمنوا اصبروا ، وصابروا ، ورابطوا ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ) . .
إنه النداء العلوي للذين آمنوا . نداؤهم بالصفة التي تربطهم بمصدر النداء . والتي تلقي عليهم هذه الأعباء . والتي تؤهلهم للنداء وتؤهلهم للأعباء ، وتكرمهم في الأرض كما تكرمهم في السماء :
النداء لهم . للصبر والمصابرة ، والمرابطة ، والتقوى . .
وسياق السورة حافل بذكر الصبر وبذكر التقوى . . يذكر إن مفردين ، ويذكر إن مجتمعين . . وسياق السورة حافل كذلك بالدعوة إلى الاحتمال والمجاهدة ودفع الكيد وعدم الاستماع لدعاة الهزيمة والبلبلة ، ومن ثم تختم السورة بالدعوة إلى الصبر والمصابرة ، وإلى المرابطة والتقوى ، فيكون هذا أنسب ختام .
والصبر هو زاد الطريق في هذه الدعوة . إنه طريق طويل شاق ، حافل بالعقبات والأشواك ، مفروش بالدماء والأشلاء ، وبالإيذاء والابتلاء . . الصبر على أشياء كثيرة : الصبر على شهوات النفس ورغائبها ، وأطماعها ومطامحها ، وضعفها ونقصها ، وعجلتها وملالها من قريب ! والصبر على شهوات الناس ونقصهم وضعفهم وجهلهم وسوء تصورهم ، وانحراف طباعهم ، وأثرتهم ، وغرورهم ، والتوائهم ، واستعجالهمللثمار ! والصبر على تنفج الباطل ، ووقاحة الطغيان ، وانتفاش الشر ، وغلبة الشهوة ، وتصعير الغرور والخيلاء ! والصبر على قلة الناصر ، وضعف المعين ، وطول الطريق ، ووساوس الشيطان في ساعات الكرب والضيق ! والصبر على مرارة الجهاد لهذا كله ، وما تثيره في النفس من انفعالات متنوعة . من الألم والغيظ ، والحنق ، والضيق ، وضعف الثقة أحيانا في الخير ، وقلة الرجاء أحيانا في الفطرة البشرية ؛ والملل والسأم واليأس أحيانا والقنوط ! والصبر بعد ذلك كله على ضبط النفس في ساعة القدرة والانتصار والغلبة ، واستقبال الرخاء في تواضع وشكر ، وبدون خيلاء وبدون اندفاع إلى الانتقام ، وتجاوز القصاص الحق إلى الاعتداء ! والبقاء في السراء والضراء على صلة بالله ، واستسلام لقدره ، ورد الأمر إليه كله في طمأنينة وثقة وخشوع . .
والصبر على هذا كله - وعلى مثله - مما يصادف السالك في هذا الطريق الطويل . . لا تصوره حقيقة الكلمات . فالكلمات لا تنقل المدلول الحقيقي لهذه المعاناة . إنما يدرك هذا المدلول من عانى مشقات الطريق ؛ وتذوقها انفعالات وتجارب ومرارات !
والذين آمنوا كانوا قد ذاقوا جوانب كثيرة من ذلك المدلول الحقيقي . فكانوا أعرف بمذاق هذا النداء . كانوا يعرفون معنى الصبر الذي يطلب الله إليهم أن يزاولوه . .
والمصابرة . . وهي مفاعلة من الصبر . . مصابرة هذه المشاعر كلها ، ومصابرة الأعداء الذين يحاولون جاهدين أن يفلوا من صبر المؤمنين . . مصابرتها ومصابرتهم ، فلا ينفد صبر المؤمنين على طول المجاهدة . بل يظلون أصبر من أعدائهم وأقوى : أعدائهم من كوامن الصدور ، وأعدائهم من شرار الناس سواء . فكأنما هو رهان وسباق بينهم وبين أعدائهم ، يدعون فيه إلى مقابلة الصبر بالصبر ، والدفع بالدفع ، والجهد بالجهد ، والإصرار بالإصرار . . ثم تكون لهم عاقبة الشوط بأن يكونوا أثبت وأصبر من الأعداء . وإذا كان الباطل يصر ويصبر ويمضي في الطريق ، فما أجدر الحق أن يكون أشد إصرارا وأعظم صبرا على المضي في الطريق !
والمرابطة . . الإقامة في مواقع الجهاد ، وفي الثغور المعرضة لهجوم الأعداء . . وقد كانت الجماعة المسلمة لا تغفل عيونها أبدا ، ولا تستسلم للرقاد ! فما هادنها أعداؤها قط ، منذ أن نوديت لحمل أعباء الدعوة ، والتعرض بها للناس . وما يهادنها أعداؤها قط في أي زمان أو في أي مكان وما تستغني عن المرابطة للجهاد ، حيثما كانت إلى آخر الزمان !
إن هذه الدعوة تواجه الناس بمنهج حياة واقعي . منهج يتحكم في ضمائرهم ، كما يتحكم في أموالهم ، كما يتحكم في نظام حياتهم ومعايشهم . منهج خير عادل مستقيم . ولكن الشر لا يستريح للمنهج الخير العادل المستقيم ؛ والباطل لا يحب الخير والعدل والاستقامة ؛ والطغيان لا يسلم للعدل والمساواة والكرامة . . ومن ثم ينهد لهذه الدعوة أعداء من أصحاب الشر والباطل والطغيان . ينهد لحربها المستنفعون المستغلون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الاستنفاع والاستغلال . وينهد لحربها الطغاة المستكبرون الذين لا يريدون أن يتخلوا عن الطغيان والاستكبار . وينهد لحربها المستهترون المنحلون ، لأنهم لا يريدون أن يتخلوا عن الانحلال والشهوات . . ولا بد من مجاهدتهم جميعا . ولا بد من الصبر والمصابرة . ولا بد من المرابطة والحراسة . كي لا تؤخذ الأمة المسلمة على غرة من أعدائها الطبيعيين ، الدائمين في كل أرض وفي كل جيل . .
هذه طبيعة هذه الدعوة ، وهذا طريقها . . إنها لا تريد أن تعتدي ؛ ولكن تريد أن تقيم في الأرض منهجها القويم ونظامها السليم . . وهي واجدة أبدا من يكره ذلك المنهج وهذا النظام . ومن يقف في طريقها بالقوة والكيد . ومن يتربص بها الدوائر . ومن يحاربها باليد والقلب واللسان . . ولا بد لها أن تقبل المعركة بكلتكاليفها ، ولا بد لها أن ترابط وتحرس ولا تغفل لحظة ولا تنام ! !
والتقوى . . التقوى تصاحب هذا كله . فهي الحارس اليقظ في الضمير يحرسه أن يغفل ؛ ويحرسه أن يضعف ؛ ويحرسه أن يعتدي ؛ ويحرسه أن يحيد عن الطريق من هنا ومن هناك .
ولا يدرك الحاجة إلى هذا الحارس اليقظ ، إلا من يعاني مشاق هذا الطريق ؛ ويعالج الانفعالات المتناقضة المتكاثرة المتواكبة في شتى الحالات وشتى اللحظات . .
إنه الإيقاع الأخير في السورة التي حوت ذلك الحشد من الإيقاعات . وهو جماعها كلها ، وجماع التكاليف التي تفرضها هذه الدعوة في عمومها . . ومن ثم يعلق الله بها عاقبة الشوط الطويل وينوط بها الفلاح في هذا المضمار :
وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال الحسن البصري ، رحمه الله : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم ، وهو الإسلام ، فلا يدعوه لسرّاء ولا لضرّاءَ ولا لشِدَّة ولا لرِخَاء ، حتى يموتوا مسلمين ، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون{[6425]} دينهم . وكذلك قال غير واحد من علماء السلف .
وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات . وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة ، قاله [ مجاهد و ]{[6426]} ابن عباس وسهل بن حُنَيف ، ومحمد بن كعب القُرَظي ، وغيرهم .
وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي ، من حديث مالك بن أنس ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، مولى الحُرَقَة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ؟ إسباغُ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخُطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرِّبَاط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " {[6427]} .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا أبو جُحَيْفة{[6428]} علي ابن يزيد الكوفي ، أنبأنا ابن أبي كريمة ، عن محمد بن يزيد{[6429]} عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليَّ أبو هريرة يوما فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت{[6430]} هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قلت : لا . قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ، يصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت : { اصْبِرُوا } أي : على الصلوات الخمس { وَصَابِرُوا } [ على ]{[6431]} أنفسكم وهواكم { وَرَابِطُوا } في مساجدكم { وَاتَّقُوا اللَّهَ } فيما عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }{[6432]} .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت ، عن داود بن صالح ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - بنحوه{[6433]} .
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثني ابن فضيل{[6434]} عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جده ، عن شرحبيل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يُكَفِّر الذنوب والخطايا ؟ إسْباغُ الوُضُوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرِّباط " {[6435]} .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا موسى بن سَهْل الرملي ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا محمد بن مُهاجر ، حدثني يحيى بن يزيد ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، عن شُرَحْبيل ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدُلُّكم على ما يَمْحُو الله به الخطايا ويُكفّر به الذنوب ؟ " قلنا : بلى يا رسول الله . قال : " إسباغ الوُضوء في أماكنها ، وكثرة الخُطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرِّباط " {[6436]} .
وقال ابن مَرْدُويه : حدثني محمد بن علي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن{[6437]} السلام البيروتي ، أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي ، أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن ، أنبأنا الوازع بن نافع ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي أيوب ، رضي الله عنه ، قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هل لكم{[6438]} إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟ " قلنا : نعم ، يا رسول الله ، وما هو ؟ قال : " إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة " .
قال : " وهو قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فذلك هو الرباط في المساجد " وهذا حديث غريب من هذا الوجه جدًا{[6439]} .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مُصْعَب بن ثابت بن عبد الله بن الزُّبَيْر ، حدثني داود بن صالح قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قال : قلت : لا . قال : إنه - يا ابن أخي - لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غَزْو يُرَابَطُ فيه ، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة . رواه ابن جرير ، وقد تقدم سياقُ ابن مَرْدُويه ، وأنه من كلام أبي هريرة ، فالله أعلم .
وقيل : المراد بالمرابطة هاهنا مرابطة الغزو في نُحور العدو ، وحفظ ثُغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حَوْزَة بلاد المسلمين ، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك ، وذِكْر كثرة الثواب فيه ، فرَوَى البخاري في صحيحه عن سَهْل بن سَعْد الساعدي ، رضي الله عنه{[6440]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباطُ يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها " {[6441]} .
حديث آخر : روى مسلم ، عن سَلمان الفارسي ، عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وَإنْ مات جَرَى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجْرِيَ عليه رزْقُه ، وأمِنَ الفَتَّان " {[6442]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا ابن المبارك ، عن حَيْوة بن شُرَيح ، أخبرني أبو هانئ الخولاني ، أن عمرو بن مالك الجَنْبي{[6443]} أخبره : أنه سمع فُضالة بن عُبيد يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ميّت يُخْتَمُ على عمله ، إلا الذي مات مُرَابطًا في سبيل الله ، فإنه يَنْمى{[6444]} له عملُه إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر " .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي من حديث أبي هانئ الخولاني . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضًا{[6445]} .
حديث آخر : وروى الإمام أحمد أيضًا عن يحيى بن إسحاق وحسن بن موسى وأبي{[6446]} سعيد [ وعبد الله بن يزيد ]{[6447]} قالوا : حدثنا{[6448]} ابن لَهِيعة حدثنا مَشْرَح بن هاعان ، سمعت عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ميّت يُخْتَم له على عمله ، إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه يجري عليه{[6449]} عمله حتى يُبْعَثَ ويأمن من الفَتَّان " {[6450]} .
وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده ، عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد ، به إلى قوله : " حتى يبعث " دون ذكر " الفتان " {[6451]} . وابن لَهِيعة إذا صرح بالتحديث فهو حَسَن ، ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد .
حديث آخر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا عبد الله بن وَهْب ، أخبرني اللَّيْث ، عن زُهرة بن مَعْبَد{[6452]} عن أبيه ، عن أبي هُرَيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات مُرَابطًا في سبيل الله ، أجرى{[6453]} عليه عمله الصالح الذي كان يعمل وأجْري عليه رزقه ، وأمن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفَزَع " {[6454]} .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا موسى ، أنبأنا ابن لَهِيعة ، عن موسى بن وَرْدان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات مُرَابطا وقي فِتنة القبر ، وأمن{[6455]} من الفَزَع الأكبر ، وغَدَا عليه وريح برزقه من الجنة ، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة " {[6456]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش ، عن محمد بن عمرو بن حَلْحَلَة الدؤلي ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أم الدَّرْداء ترفع الحديث قالت{[6457]} من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام ، أجزأت عنه رباط سنة " {[6458]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا كَهْمَس ، حدثنا مُصْعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال : قال عثمان ، رضي الله عنه - وهو يخطب على منبره - : إني مُحدِّثكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضّن بكم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حَرْسُ ليلة في سبيل الله أفضل{[6459]} من ألف ليلة يقام ليلها ويُصَام نهارها " {[6460]} .
وهكذا رواه أحمد أيضا عن رَوْح عن كهمس عن مصعب بن ثابت ، عن عثمان{[6461]} . وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمَّار ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن مُصْعب بن ثابت ، عن عبد الله بن الزبير قال : خطب عثمان بن عفان الناس فقال : يأيها الناس ، إني سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضّنّ بكم وبصحابتكم ، فَليخْتَرْ مُخْتَار لنفسه أو ليَدَعْ . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رَابطَ لَيْلة في سَبِيل الله كانت كألْفِ ليلة صِيامها وقِيامها " {[6462]} .
طريق أخرى عن عثمان [ رضي الله عنه ]{[6463]} قال الترمذي : حدثنا الحسن بن علي الخلال ، حدثنا هشام بن عبد الملك ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا أبو{[6464]} عَقِيل زهْرَة بن مَعْبد ، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال : سمعت عثمان - وهو على المنبر - يقول : إني كَتَمْتُكُمْ حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كَرَاهية تفرقكم عني ، ثم بدا لي أن أحدثكُمُوه ، ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رباطُ يوم في سَبِيل الله خَير من ألف يوم فيما سِوَاه من المنازل " .
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، قال محمد - يعني البخاري - : أبو صالح مولى عثمان اسمه بُرْكان{[6465]} وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث ، فالله أعلم{[6466]} وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لَهِيعة وعنده زيادة في آخره فقال - يعني عثمان - : فليرابط امرؤ كيف شاء ، هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد{[6467]} .
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، حدثنا محمد بن المُنْكَدر قال : مر سَلْمان الفارسي بشُرَحْبِيل بن السِّمْط ، وهو في مُرَابَط له ، وقد شَق عليه وعلى أصحابه فقال : أفلا{[6468]} أحدثك - يا ابن السمط - بحديث سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى . قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رِبَاط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال : خير - من صيام شهر وقيامه ، ومن مات فيه وُقي فِتْنَة القبر ، ونَمَا له عمله إلى يوم القيامة " .
تفرد به الترمذي من هذا الوجه ، وقال : هذا حديث حسن{[6469]} . وفي بعض النسخ زيادة : وليس إسناده بمتصل ، وابن المنكدر لم يدرك سلمان .
قلت : الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السِّمط وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عُبيدة بنُ عقبة ، كلاهما عن شرحبيل بن السمط - وله صحبة - عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رِباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجرِي عليه رزقُه ، وأمن الفَتَّان " وقد تقدم{[6470]} سياق مسلم بمفرده{[6471]} .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سَمُرة ، حدثنا{[6472]} محمد بن يَعْلى السُّلَمي ، حدثنا عُمَر بن صُبَيْح ، عن عبد الرحمن بن عَمْرو ، عن مكحول ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لربَاط يوم في سبيل الله ، من وراء عَوْرَة المسلمين مُحْتَسبًا ، من غير شهر رمضان ، أعظمُ أجرًا من عبادة مائة سنة ، صيامها وقيامها . ورباطُ يوم في سبيل الله ، من وراء عورة المسلمين محتسبا ، من شهر رمضان ، أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال - : من عبادة ألف سنة صيامها ، وقيامها فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما ، لم تكتب{[6473]} عليه سيئة ألف سنة ، وتكتب له الحسنات ، ويُجْرَى له أجر الرباط إلى يوم القيامة " .
هذا حديث غريب ، بل منكر من هذا الوجه ، وعُمَر بن صُبَيْح مُتَّهم{[6474]} .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حَدثنا عيسى بن يونس الرمْلي ، حدثنا محمد بن شُعيب بن شابور ، عن سعيد بن خالد بن أبي طويل ، سمعتُ أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حَرْسُ ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رَجُل وقيامه في أهله ألف سنة : السنة ثلاثمائة وستون{[6475]} يوما ، واليوم{[6476]} كألف سنة " .
وهذا حديث غريب أيضا{[6477]} وسعيد بن خالد هذا ضَعَّفَه أبو زُرْعَة وغير واحد من الأئمة ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه . وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به . وقال الحاكم : روى عن أنس أحاديث موضوعة .
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا محمد بن الصَّبَّاح ، أنبأنا عبد العزيز بن محمد ، عن صالح بن مُحَمَّد بن زائدَةَ ، عن عُمَرَ بن عبد العزيز ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله حارس الحرس " {[6478]} .
فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر ، فإنه لم يدركه ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا أبو تَوْبَةَ ، حدثنا معاوية - يعني ابن سلام عن زيد - يعني ابن سلام - أنه سمع أبا سلام قال : حدثني السلولي : أنه حدثه سهل ابن الحنظلية{[6479]} أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين ، فأطنبوا السير حتى كانت عَشِيّة ، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله ، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهُوازن على بَكْرَة أبيهم بظُعنهم ونَعَمِهم وشَائِهم{[6480]} اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " تلك غَنِيمَة المسلمين غدًا إن شاء الله [ تعالى{[6481]} ] " . ثم قال : " من يحرسنا الليلة ؟ " قال أنس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله . فقال{[6482]} فاركب " فركب فرسًا له ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسْتَقْبِل هذا الشِّعْب حتى تكون في أعلاه ولا يَغَرَّن{[6483]} من قِبَلِك الليلة " فلما أصبحنا خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مُصَلاه فركع ركعتين ثم قال : " هل أحسستم فارسكم ؟ " قال رجل : يا رسول الله ، ما أحسسناه ، فثُوِّب بالصلاة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي يلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضى صلاته قال : " أبْشِرُوا فقد جاءكم فارسكم " فجعلنا ننظر إلى خِلال الشجر في الشعب ، فإذا هو قد جاء ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث رسول الله{[6484]} صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما ، فنظرت فلم أر أحدًا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل نزلت الليلة ؟ " قال : لا إلا مصليًا أو قاضيًا حاجة ، فقال له : " أوْجَبْتَ ، فلا عليك ألا تعمل بعدها " .
ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني ، عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به{[6485]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحُبَاب : حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيح ، سمعت محمد بن شُمَير{[6486]} الرُّعَيْني يقول : سمعت أبا عامر التَّجِيبي . قال الإمام أحمد : وقال غير زيد : أبا علي الجَنْبِي{[6487]} يقول : سمعت أبا ريحانة يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، فأتينا ذات ليلة إلى شَرَف فَبتْنَا عليه ، فأصابنا برد شديد ، حتى رأيتُ مَنْ يحفر في الأرض حفرة ، يدخل فيها ويلقى عليه الجَحْفَة - يَعني التِّرس - فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الناس نادى : " من يَحْرُسُنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟ " فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله . فقال : " ادْنُ " فدنا ، فقال : " من أنت ؟ " فتسمى له الأنصاري ، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء ، فأكثر منه . فقال{[6488]} أبو ريحانة : فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت{[6489]} أنا رجل آخر . فقال : " ادن " . فدنوت . فقال : من أنت ؟ قال : فقلت : أنا أبو ريحانة . فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري ، ثم قال : " حُرِّمَت النار على عَيْنٍ دَمِعَت - أو بَكَتْ - من خَشْيَةِ الله ، وحرمت النار على عين سَهِرَتْ في سَبِيل الله " .
وروى النسائي منه : " حرمت النار . . . " إلى آخره عن عِصْمَة بن الفضل ، عن زيد بن الحباب به ، وعن الحارث بن مسكين ، عن ابن وَهْب ، عن عبد الرحمن بن شُرَيح ، به ، وأتم ، وقال في الروايتين : عن أبي علي الجنبي{[6490]} {[6491]} .
حديث آخر : قال الترمذي : حدثنا نصر بن علي الجَهْضَمِيّ ، حدثنا بِشْر بن عُمَر ، حدثنا شعيب بن رزَيق أبو شَيْبة ، حدثنا عطَاء الخراساني ، عن عطاء بن أبي رَبَاح ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عَيْنان لا تَمَسُّهما النار : عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ الله ، وعين باتت تَحْرُسُ في سبيل الله " .
ثم قال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شُعَيب بن رُزَيق{[6492]} قال : وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة{[6493]} قلت : وقد تقدما ، ولله الحمد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدين ، عن زَبّان{[6494]} عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن أنس ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حَرَس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجرة سلطان ، لم ير النار بعينيه إلا تَحِلَّة القَسَم ، فإن الله يقول : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] .
تفرد به أحمد{[6495]} رحمه الله [ تعالى ]{[6496]} .
حديث آخر : روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَعِسَ عبد الدينار وعبد الدِّرْهَم وعبد الخَميصة ، إن أُعْطِيَ رضي ، وإن لم يُعْطَ سَخِط ، تَعس وانتكَسَ ، وإذا شيك فلا انْتَقَش{[6497]} طُوبَى لعَبدٍ آخذٍ بعنان فَرَسه في سبيل الله ، أشعثَ رأسُهُ ، مُغَبَّرةٍ قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في السَّاقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شَفَع لم يُشفَّعْ " {[6498]} .
فهذا ما تَيَسَّر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ، ولله الحمدُ على جزيل الإنعام ، على تعاقب الأعوام والأيام .
وقال ابن جرير : حدثني المُثَنَّى ، حدثنا مُطَرِّف بن عبد الله المدني{[6499]} حدثنا مالك ، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة ، رضي الله عنه ، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد فإنه مهما يَنزلْ بعبد مؤمن من مَنزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عُسْر يسرين ، وإن الله تعالى يقول في كتابه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }{[6500]} .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك{[6501]} من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية : سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابدَ الحرمين لَوْ أبْصَرْتَنا *** لَعَلمْتَ أنكَ في العبادِة تلعبُ
من كان يخضب خدَّه بدموعِه *** فَنُحورنا بدمائنا تَتَخضَّب
أو كان يُتْعِبُ خَيْلَه في باطلٍ *** فخُيولنا يومَ الصبِيحة تَتْعبُ
ريحُ العبيرِ لكم ونحنُ عبيرُنا *** وَهجُ السنابِك والغبارُ الأطيبُ
ولَقَد أتانا من مَقَالِ نبينا *** قول صَحيح صادق لا يَكْذبُ
لا يستوي وَغُبَارَ خيل الله في *** أنف امرئ ودخانَ نار تَلْهَبُ
هذا كتاب الله يَنْطق بيننا *** ليس الشهيدُ بمَيِّت لا يَكْذبُ
قال : فلقيت الفُضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذَرِفَتْ عَيْنَاهُ وقال : صَدَق أبو عبد الرحمن ، ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم قال : فاكتب هذا الحديث كرَاءَ حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا . وأملى عَلَيّ الفُضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رجلا قال : يا رسول الله عَلمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال : " هل تستطيع أن تُصَلِّي فلا تَفْتُر وتصومَ فلا تُفْطِر ؟ " فقال : يا رسول الله ، أنا أضْعَفُ من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فَوالَّذي نَفْسِي بِيَدِه لو طُوقْتَ ذلك ما بلغتَ المجاهدين في سبيل الله أوما عَلمتَ أن الفرس المجاهد ليَسْتَنُّ في طِوَله فيكتب له بذلك الحسنات " {[6502]} .
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أموركم وأحوالكم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ [ بن جبل ]{[6503]} [ رضي الله عنه ]{[6504]} حين بعثه إلى اليمن : " اتَّق الله حَيْثُما كُنْتَ وأتْبع السيئَة الحسنة تَمْحُها وخالق الناس بخُلق حَسَنٍ " .
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو{[6505]} صخر ، عن محمد بن كعب القُرَظي : أنه كان يقول في قول الله عز وجل : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } واتقوا الله فيما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني .
آخر تفسير سورة آل عمران ، ولله الحمد والمنة ، نسأله الموت على الكتاب والسنة .
ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء ، والفوز بنعيم الآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات ، وأمر بالمصابرة فقيل : معناه مصابرة الأعداء ، قاله زيد بن أسلم ، وقيل معناه : مصابرة وعد الله في النصر ، قاله محمد بن كعب القرظي : أي لا تسأموا وانتظروا الفرج ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «انتظار الفرج بالصبر عبادة »{[3817]} ، وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله { ورابطوا } فقال جمهور الأمة معناه : رابطوا أعداءكم الخيل ، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ، ومنه قوله عز وجل : { ومن رباط الخيل }{[3818]} ، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة{[3819]} ، وقد كتب إليه يذكر جموع الروم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة ، جعل الله بعدها فرجاً ، ولن يغلب عسر يسرين{[3820]} ، وأن الله تعالى يقول في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } الآية ، وقد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن{[3821]} : هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، واحتج بحديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ){[3822]} .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل ، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً ، فارساً كان أو راجلاً ، واللفظة مأخوذة من الربط ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول ، وهذا كقوله : ( ليس الشديد بالصرعة ){[3823]} : كقوله : ( ليس المسكين بهذا الطواف ) {[3824]} إلى غير ذلك من الأمثلة ، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء : هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما ، قاله ابن المواز ورواه ، فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذي يعتمرون ويكتسبون هنالك ، وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين{[3825]} .
ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدّد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدوّ كي لا يثبّطهم ما حصل من الهزيمة ، فأمَرَهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال ، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر ، وهذا أشدّ الصبر ثباتاً في النفس وأقربه إلى التزلزل ، ذلك أنّ الصبر في وجه صابرٍ آخر شديد على نفس الصابر لما يلاقيه من مقاومة قِرن له في الصبر قد يساويه أو يفوقه ، ثم إنّ هذا المصابر إن لم يثبت على صبره حتّى يملّ قرنه فإنّه لا يجتني من صبره شيئاً ، لأنّ نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبراً ، كما قال زُفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام :
سَقَيْنَاهُم كَأساً سقَوْنا بِمِثْلِها *** ولكنَّهم كانوا على الموت أَصْبَرا
فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه :
لا أنت معتادُ في الهيجا مُصابَرةٍ *** يَصْلى بها كلّ من عاداك نيراناً
وقوله : { ورابطوا } أمر لهم بالمرابطة ، وهي مفاعلة من الرّبْط ، وهو ربط الخيل للحراسة في غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدوّ ، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائماً على حذر من عدوّهم تنبيهاً لهم على ما يكيد به المشركون من مفاجأتهم على غِرّة بعد وقعة أُحُد كما قدّمناه آنفاً ، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلمّا أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظاً من عدوّهم . وفي كتاب الجهاد من « البخاري » : بابُ فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } إلخ . وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدوّ الوصول منها إلى الحيّ مثل الشعاب بين الجبال . وما رأيت مَن وصف ذلك مثل لبيد في معلّقته إذ قال :
ولَقد حَمَيْتُ الحَيّ تَحْمِل شِكَّتي *** فُرُط وِشَاحِي إذْ غَدَوْتُ لجامُها
فَعَلَوْتُ مُرْتَقَبَا على ذي هَبْوَةٍ *** حَرِج إلى إعلامهن قَتَامُـــها
حَتَّى إذا ألْقَتْ يداً في كافــر *** وأجَنّ عَوْرَاتِ الثُّغورِ ظلامُها
فذكر أنّه حرس الحيّ على مكان مرتقَب ، أي عال بربط فرسه في الثغر . وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس والشام والأندلس في البَرّ ، ثم لمّا اتّسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البخار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدوّ منها : مثل رباط المنستير بتونس بإفريقية ، ورباط سلا بالمغرب ، ورُبط تونس ومحارسها : مثل مَحْرس علي بن سالم قرب صفاقس . فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى وقد خفي على بعض المفسّرين فقال بعضهم : أراد بقوله : { ورابطوا } إعداد الخيل مربوطة للجهاد ، قال : ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو في الثغور . وقال بعضهم : أراد بقوله : { ورابطوا } انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها ، لما روى مالك في « الموطأ » ، عن أبي هريرة : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ، وقال : " فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " ونُسب هذا لأبي سلمة بن عبد الرحمن . قال ابن عطية : والحقّ أن معنى هذا الحديث على التشبيه ، كقوله : " ليس الشديد بالصرعة " وقوله : " ليس المسكين بهذا الطّواف الذي تردّه اللقمة واللقمتان " ، أي وكقوله صلى الله عليه وسلم " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " .
وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنّها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح .