وفي ظل هذين المشهدين يحدثهم عما يصيبهم في هذه الحياة بما كسبت أيديهم . لا كله . فإن الله لا يؤاخذهم بكل ما يكسبون . ولكن يعفو منه عن كثير . ويصور لهم عجزهم ويذكرهم به ، وهم قطاع صغير في عالم الأحياء الكبير :
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ) .
وفي الآية الأولى يتجلى عدل الله ، وتتجلى رحمته بهذا الإنسان الضعيف . فكل مصيبة تصيبه لها سبب مما كسبت يداه ؛ ولكن الله لا يؤاخذه بكل ما يقترف ؛ وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان ، فيعفو عن كثير ، رحمة منه وسماحة .
وقوله : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو{[25882]} عن سيئات تقدمت لكم { وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } أي : من السيئات ، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] وفي الحديث الصحيح : " والذي نفسي بيده ، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وَصَب ولا هم ولا حَزَن ، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه ، حتى الشوكة{[25883]} يشاكها " {[25884]} .
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُليَّة ، حدثنا أيوب قال : قرأت في كتاب أبي قِلابَةَ قال : نزلت : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] وأبو بكر يأكل ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، إني لراء ما عملت من خير وشر ؟ فقال : " أرأيت ما رأيت مما تكره ، فهو من مثاقيل ذَرّ الشر ، وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة " قال : قال أبو إدريس : فإني أرى مصداقها في كتاب الله : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }{[25885]} .
ثم رواه من وجه آخر ، عن أبي قِلابَةَ ، عن أنس{[25886]} ، قال : والأول أصح .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ، حدثنا مروان بن معاوية الفَزَاري ، حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي ، عن الخَضْر بن القَوَّاس البجلي ، عن أبي سخيلة {[25887]} عن علي ، رضي الله عنه قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل ، وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } . وسأفسرها لك يا علي : " ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا ، فبما كسبت أيديكم{[25888]} والله تعالى أحلم من أن يُثَنِّى عليه العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله{[25889]} تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه "
وكذا رواه الإمام أحمد ، عن مروان بن معاوية وعَبْدة ، عن أبي سُخَيلة قال : قال علي . . . فذكر نحوه مرفوعا {[25890]} .
ثم روى ابن أبي حاتم [ نحوه ] {[25891]} من وجه آخر موقوفا فقال : حدثنا أبي ، حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح ، عن أبي الحسن ، عن أبي جُحَيفَة قال : دخلت على علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فقال : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يَعيَه{[25892]} ؟ قال : فسألناه فتلا{[25893]} هذه الآية : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال : ما عاقب الله به في الدنيا فالله أحلم من أن يُثَنِّي عليه العقوبة يوم القيامة ، وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة .
وقال{[25894]} الإمام أحمد : حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا طلحة - يعني ابن يحيى - عن أبي بُرْدَةَ ، عن معاوية - هو ابن أبي سفيان ، رضي الله عنهما ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كَفَّرَ الله عنه به من سيئاته " {[25895]} .
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، عن مجاهد{[25896]} ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحَزَنِ ليكفرها " {[25897]} .
وقال {[25898]} ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن - هو البصري - قال في قوله : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } قال : لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفس محمد بيده ، ما من خَدْش عود ، ولا اختلاج عرق ، ولا عَثْرة قدم ، إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر " {[25899]} .
وقال{[25900]} أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمر بن علي ، حدثنا هُشَيمْ ، عن منصور ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ، رضي الله عنه ، قال : دخل عليه بعض أصحابه وقد كان ابتلي في جسده ، فقال له بعضهم إنا لَنَبْتَئِسُ لك لما نرى فيك . قال : فلا تبتئس بما ترى ، فإن ما ترى بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، ثم تلا هذه الآية : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }
[ قال : ] {[25901]} وحدثنا أبي : حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني ، حدثنا جرير عن أبي البلاد{[25902]} قال : قلت للعلاء بن بدر : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } ، وقد ذهب بصري وأنا غلام ؟ قال : فبذنوب والديك .
وحدثنا أبي : حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي ، حدثنا وكيع ، عن عبد العزيز بن أبي راود ، عن الضحاك{[25903]} قال : ما نعلم أحدا حفظ القرآن ثم نسيه{[25904]} إلا بذنب ، ثم قرأ الضحاك : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } . ثم يقول الضحاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن .
وقوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة } قرأ جمهور القراء : «فبما » بفاء ، وكذلك هي في جل المصاحف . وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة : «بما » دون فاء . وحكى الزجاج أن أبا جعفر وغيره{[10147]} من المدنيين أثبت الفاء . قال أبو علي الفارسي : «أصاب » ، من قوله : «وما أصاب » يحتمل أن يكون في موضع جزم ، وتكون { ما } شرطية ، وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه ، وجوز حذفها أبو الحسن الأخفش وبعض البغداديين على أنها مرادة في المعنى{[10148]} ، ويحتمل أن يكون «أصاب » صلة لما ، وتكون { ما } بمعنى الذي ، وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها ، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم ، أي لولا كسبكم ما أصابتكم مصيبة ، والمصيبة إنما هي بسبب كسب الأيدي ، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم ، ويجوز أن يعرى منه ، وأما في هذه الآية فالتلازم مطرد مع الثبوت والحذف .
وأما معنى الآية فاختلف الناس فيه ، فقالت فرقة : هي إخبار من الله تعالى بأن الرزايا والمصائب في الدنيا إنما هي مجازاة من الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه ، وأن الله تعالى يعفو عن كثير فلا يعاقب عليه بمصيبة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر »{[10149]} وقال عمران بن حصين وقد سئل عن مرضه إن أحبه إلي أحبه إلى الله ، وهذا بما كسبت يداي ، وعفو ربي كثير . وقال مرة الهمداني : رأيت على ظهر كف شريح قرحة فقلت ما هذا ؟ قال هذا بما كسبت يدي { ويعفو عن كثير } ، وقيل لأبي سليمان الداراني : ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء إليهم ؟ فقال لأنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم . وروي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الله أكرم من أن يثني على عبده العقوبة إذا أصابته في الدنيا بما كسبت يداه »{[10150]} . وقال الحسن بن أبي الحسن ، معنى الآية في الحدود : أي ما أصابكم من حد من حدود الله ، وتلك مصائب تنزل بشخص الإنسان ونفسه ، فإنما هي بكسب أيديكم { ويعفو عن كثير } ، فستره على العبد حتى لا يحد عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أصابكم من مصيبة} يعني المؤمنين من بلاء الدنيا وعقوبة من اختلاج عرق، أو خدش عود، أو نكبة حجر، أو عثرة قدم، فصاعدا إلا بذنب، فذلك قوله: {وما أصابكم من مصيبة} {فبما كسبت أيديكم} من المعاصي.
{ويعفوا عن كثير}، يعني ويتجاوز عن كثير من الذنوب، فلا يعاقب بها في الدنيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وما يصيبكم أيها الناس من مصيبة في الدنيا في أنفسكم وأهليكم وأموالكم.
"فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ": فإنما يصيبكم ذلك عقوبة من الله لكم بما اجترمتم من الآثام فيما بينكم وبين ربكم، ويعفو لكم ربكم عن كثير من إجرامكم، فلا يعاقبكم بها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل ما ذكر من المصيبة التي تُصيبهم: المصيبة التي تعمّ الخلق جميعا ممن كان منهم الزّلة، وما ذكر من كسب اليد وممن لم يكن منهم كسب اليد من الزّلة والمعصية، من نحو الجدب والقحط وغلبة الأعداء وغير ذلك من الأشياء التي تعمّ الخلائق ممن كان منهم الجناية وممن لم يكن من الصغار والدوابّ والأبرار والأخيار. ويكون ما أصاب ممن كان ذلك منه، واستوجبه تنبيها لهم وموعظة أو كفارة لما كان منهم من كسب اليد وما أصاب ذلك ممن لم يكن منهم ذلك من الصغار والأخيار، فذلك في الحكمة. وهو يخرّج على وجهين:
أحدهما: يصيب ذلك لهم ابتلاء بشيء سبق منهم؛ ليُعلم أن ما يعطيهم من السلامة والصحة والحسنات والخيرات كان فضلا منه، وهم عبيده وإماؤه ومُلكه، إن شاء أهلكهم، وإن شاء أبقاهم.
والثاني: يفعل بهم ما ذكر، وإن لم يسبق منهم ما ذكر من كسب اليد والزّلة لعِوض، يعوّضهم في الآخرة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا تحقَّق العبدُ بهذه الآية فإنه إذا أصابته شظيةٌ أو حالةٌ مما يسوءُه، وعلِمَ أن ذلك جزاءٌ له، وعقابٌ على ما بَدَرَ منه من سوءِ الأدب لاستحيى بخجلته مِنْ فِعْلِه، ولَشغَلَه ذلك عن رؤية الناس، فلا يحاول أن ينتقمَ منهم أو يكافئَهم أو يدعوَ عليهم وإنما يشغله تلافي ما بَدَرَ منه من سوءِ الفعلِ عن محاولة الانتصاف لنفسه ممن يتسلَّط عليه من الخَلْق.. تاركاً الأمرَ كلَّه لربِّه.
ويقال: إذا كَثُرَت الأسبابُ من البلايا على العبد، وتوالى عليه ذلك.. فَلْيُفَكِرْ في أفعاله المذمومة.. كم يحصل منه حتى يبلغَ جزاء ما يفعله -مع العفو الكثير- هذا المبلغ؟! فعند ذلك يزداد حُزْنُه وتأسُّفُه؛ لِعِلْمِه بكثرة ذنوبه ومعاصيه...
المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام والقحط والغرق والصواعق وأشباهها، واختلفوا في نحو الآلام أنها هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا؟ منهم من أنكر ذلك لوجوه:
الأول: قوله تعالى: {اليوم تجزى كل نفس بما كسبت} بين تعالى أن الجزاء إنما يحصل في يوم القيامة، وقال تعالى في سورة الفاتحة {مالك يوم الدين} أي يوم الجزاء، وأطبقوا على أن المراد منه يوم القيامة.
والثاني: أن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق، وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب، بل الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «خص البلاء بالأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل».
الثالث: أن الدنيا دار التكليف، فلو جعل الجزاء فيها لكانت الدنيا دار التكليف ودار الجزاء معا وهو محال.
وأما القائلون بأن هذه المصائب قد تكون أجزية على الذنوب المتقدمة، فقد تمسكوا أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: «لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ» هذا معناه وتمسكوا أيضا بهذه الآية، وتمسكوا أيضا بقوله تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات} وتمسكوا أيضا بقوله تعالى بعد هذه الآية {أو يوبقهن بما كسبوا} وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك كان بسبب كسبهم، وأجاب الأولون عن التمسك بهذه الآية، فقالوا إن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء، ويحمل قوله {فبما كسبت أيديكم} على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم، وكذا الجواب عن بقية الدلائل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما أصابكم} واجههم بالخطاب زيادة في تقريب الطائع وتبكيت العاصي، وعم بقوله: {من مصيبة} وأخبر عن المبتدأ بقوله: {فبما}... أي كائن بسبب الذي... ولما كانت النفوس مطبوعة على النقائض، فهي لا تنفك عنها إلا بمعونة من الله شديدة، كان عملها كله أو جله عليها، فعبر بالفعل المجرد إشارة إلى ذلك فقال:
ولما كان العمل غالباً باليد قال: {أيديكم} أي من الذنوب، فكل نكد لاحق إنما هو بسبب ذنب سابق أقله التقصير، روى ابن ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه -والحاكم واللفظ له- وقال: صحيح الإسناد -عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" فالآية داعية لكل أحد إلى المبادرة عند وقوع المصيبة إلى محاسبة النفس ليعرف من أين جاء تقصيره، فيبادر إلى التوبة عنه والإقبال على الله لينقذ نفسه من الهلكة...
ولما ذكر عدله، أتبعه فضله فقال: {ويعفو عن كثير} ولولا عفوه وتجاوزه لما ترك على ظهرها من دابة ويدخل في هذا ما يصيب الصالحين لإنالة درجات وفضائل وخصوصيات لا يصلون إليها إلا بها؛ لأن أعمالهم لم تبلغها فهي خير واصل من الله لهم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما تضمنت المنةُ بإنزال الغيث بعدَ القُنوط أن القوم أصابهم جهد من القحط بلغ بهم مبلغ القنوط من الغيث أعقبت ذلك بتنبيههم إلى أن ما أصابهم من ذلك البؤس هو جزاء على ما اقترفوه من الشرك تنبيهاً يبعثهم ويبعث الأمة على أن يلاحظوا أحوالهم نحو امتثال رضى خالقهم ومحاسبة أنفسهم حتى لا يحسبوا أن الجزاء الذي أُوعدوا به مقصور على الجزاء في الآخرة بل يعلموا أنه قد يصيبهم الله بما هو جزاء لهم في الدنيا، ولما كان ما أصاب قريشاً من القحط والجوع استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم كما تقدم، وكانت تلك الدعوة ناشئة على ما لاقوْه به من الأذى، لا جرم كان ما أصابهم مسبَّباً على ما كسبت أيديهم.
فالجملة عطف على جملة {وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا} [الشورى: 28]
وأطلق كسب الأيدي على الأفعال والأقوالِ المنكرة على وجه المجاز بعلاقة الإطلاق، أي بما صدر منكم من أقوال الشرك والأذَى للنبيء صلى الله عليه وسلم وفعلِ المُنكرات الناشئة عن دين الشرك.
والخطاب للمشركين ابتداء لأنهم المقصود من سياق الآيات كلها وهم أوْلى بهذه الموعظة لأنهم كانوا غير مؤمنين بوعيد الآخرة ويشمل المؤمنين بطريق القياس وبما دل على شمول هذا الحكم لهم من الأخبار الصحيحة ومن آيات أخرى...
وأيَّاً مَّا كان فهو دال على أن من المصائب التي تصيب الناس في الدنيا ما سلطه الله عليهم جزاء على سوء أعمالهم وإذا كان ذلك ثابتاً بالنسبة لأناس معيَّنين كان فيه نِذارة وتحذير لغيرهم ممن يفعل من جنس أفعالهم أن تحل بهم مصائب في الدنيا جزاء على أعمالهم زيادة في التنكيل بهم إلا أن هذا الجزاء لا يطّرد فقد يجازي الله قوماً على أعمالهم جزاء في الدنيا مع جزاء الآخرة، وقد يترك قوماً إلى جزاء الآخرة، فجزاء الآخِرةِ في الخير والشر هو المطَّرد الموعود به، والجزاء في الدنيا قد يحصل وقد لا يحصل كما قال تعالى: {ويعفو عن كثير} كما سنبينه. وهذا المعنى قد تكرر ذكره في آيات وأحاديث كثيرة بوجه الكلية وبوجه الجزئية، فَمِمّا جاء بطريق الكلية قوله تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربي أكرمَني وأما إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني كَلاَّ بل لا تكرمون اليتيم ولا تحضّون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لَمًّا} [الفجر: 15 19] الآية،... وأما ما جاء على وجه الجزئية فمنه قوله تعالى حكاية عن نوح {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويُمْدِدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} [نوح: 10 12] وقوله حكاية عنه {أن اعبُدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى} في سورة نوح (3، 4). والمعنى: أنه تعالى يعفو، أي يصفح فلا يصيب كثيراً من عباده الذين استحقّوا جزاء السوء بعقوبات دنيوية؛ لأنه يعلم أن ذلك أليق بهم. فالمراد هنا: العفو عن المؤاخذة في الدنيا ولا علاقة لها بجزاء الآخرة فإن فيه أدلة أخرى من الكتاب والسنة...