والنفس البشرية قد تستغرقها اللحظة الحاضرة ، وما فيها من أوضاع وملابسات ، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل ، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة ، وتشعر أنها سرمد ، وأنها باقية ، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويطاردها . . وهذا سجن نفسي مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان .
وليست هذه هي الحقيقة . فقدر الله دائما يعمل ، ودائما يغير ، ودائما يبدل ، ودائما ينشئ ما لا يجول في حسبان البشر من الأحوال والأوضاع . فرج بعد ضيق . وعسر بعد يسر . وبسط بعد قبض . والله كل يوم هو في شأن ، يبديه للخلق بعد أن كان عنهم في حجاب .
ويريد الله أن تستقر هذه الحقيقة في نفوس البشر ، ليظل تطلعهم إلى ما يحدثه الله من الأمر متجددا ودائما . ولتظل أبواب الأمل في تغيير الأوضاع مفتوحة دائمة . ولتظل نفوسهم متحركة بالأمل ، ندية بالرجاء ، لا تغلق المنافذ ولا تعيش في سجن الحاضر . واللحظة التالية قد تحمل ما ليس في الحسبان . . ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . .
( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ، وأشهدوا ذوي عدل منكم ، وأقيموا الشهادة لله . ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر . ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب . ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره . قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . .
وهذه هي المرحلة الثانية وهذا هو حكمها . وبلوغ الأجل آخر فترة العدة . وللزوج ما دامت المطلقة لم تخرج من العدة - على آجالها المختلفة التي سبق بيانها - أن يراجعها فتعود إلى عصمته بمجرد مراجعتها - وهذا هو إمساكها - أو أن يدع العدة تمضي فتبين منه ولا تحل له إلا بعقد جديد كالزوجة الجديدة . وسواء راجع أم فارق فهو مأمور بالمعروف فيهما . منهي عن المضارة بالرجعة ، كأن يراجعها قبيل انتهاء العدة ثم يعود فيطلقها الثانية ثم الثالثة ليطيل مدة بقائها بلا زواج ! أو أن يراجعها ليبقيها كالمعلقة ، ويكايدها لتفتدي منه نفسها - وكان كلاهما يقع عند نزول هذه السورة ، وهو ما يزال يقع كلما انحرفت النفوس عن تقوى الله . وهي الضمان الأول لأحكامه في المعاشرة والفراق . كذلك هو منهي عن المضارة في الفراق بالسب والشتم والغلظة في القول والغضب ، فهذه الصلة تقوم بالمعروف وتنتهي بالمعروف استبقاء لمودات القلوب ؛ فقد تعود إلى العشرة ، فلا تنطوي على ذكرى رديئة ، لكلمة نابية ، أو غمزة شائكة ، أو شائبة تعكر صفائها عندما تعود . ثم هو الأدب الإسلامي المحض الذي يأخذ الإسلام به الألسنة والقلوب .
وفي حالتي الفراق أو الرجعة تطلب الشهادة على هذه وذاك . شهادة اثنين من العدول . قطعا للريبة . فقد يعلم الناس بالطلاق ولا يعلمون بالرجعة ، فتثور شكوك وتقال أقاويل . والإسلام يريد النصاعة والطهارة في هذه العلاقات وفي ضمائر الناس وألسنتهم على السواء . والرجعة تتم وكذلك الفرقة بدون الشهادة عند بعض الفقهاء ولا تتم عند بعضهم إلا بها . ولكن الإجماع أن لا بد من الشهادة بعد أو مع الفرقة أو الرجعة على القولين .
وعقب بيان الحكم تجيء اللمسات والتوجيهات تترى :
فالقضية قضية الله ، والشهادة فيها لله ، هو يأمر بها ، وهو يراقب استقامتها ، وهو يجزي عليها . والتعامل فيها معه لا مع الزوج ولا الزوجة ولا الناس !
( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) .
والمخاطبون بهذه الأحكام هم المؤمنون المعتقدون باليوم الآخر . فهو يقول لهم : إنه يعظهم بما هو من شأنهم . فإذا صدقوا الإيمان به وباليوم الآخر فهم إذن سيتعظون ويعتبرون . وهذا هو محك إيمانهم ، وهذا هو مقياس دعواهم في الإيمان !
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن ، أي : شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية ، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده . { بِمَعْرُوفٍ } أي : محسنًا إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها { بِمَعْرُوفٍ } أي : من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف ، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن .
وقوله : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : على الرجعة إذا عَزَمتم عليها ، كما رواه أبو داود وابن ماجة ، عن عمران {[28956]} بن حُصَين : أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال : طَلَّقتَ لغير سنة ، ورجعت لغير سنة ، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ، ولا تَعُدْ{[28957]} {[28958]}
وقال ابن جريج : كان عطاء يقول : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل ، كما قال الله ، عز وجل ، إلا أن يكون من عذر .
وقوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا ، ومن يخاف عقاب{[28959]} الله في الدار الآخرة .
ومن ها هنا ذهب الشافعي - في أحد قوليه - إلى وجوب الإشهاد في الرجعة ، كما يجب عنده في ابتداء النكاح . وقد قال بهذا طائفة من العلماء ، ومن قال بهذا يقول : إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها .
وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي : ومن يتق الله فيما أمره به ، وتَرَك ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجًا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي : من جهة لا تخطر بباله .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا كَهمس بن الحسن ، حدثنا أبو السليل ، عن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عَلَيَّ هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } حتى فرغ من الآية ، ثم قال : " يا أبا ذر ، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم " . وقال : فجعل يتلوها ويُرددها علي حتى نَعَست ، ثم قال : " يا أبا ذر ، كيف تصنع إن{[28960]} أخرجت من المدينة ؟ . " قلت : إلى السعة والدّعة{[28961]} أنطلق ، فأكون حمامة من حمام مكة . قال : " كيف تصنع إن أخرجت من مكة ؟ " . قال : قلت : إلى السعة والدّعة ، وإلى الشام والأرض المقدسة . قال : " وكيف تصنع إن أخرجتَ من الشام ؟ " . قلت : إذا - والذي بعثك بالحق{[28962]} - أضع سيفي على عاتقي . قال : " أو خير من ذلك ؟ " . قلت : أو خير من ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع ، وإن كان عبدًا حبشيًّا " {[28963]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا زكريا ، عن عامر ، عن شُتَير{[28964]} بن شكَل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] وإن أكثر آية في القرآن فرجًا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }
وفي المسند : حدثني مهدي بن جعفر ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الحكم بن مصعب ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا ، ومن كل ضيق مخرجًا ، ورزقه من حيث لا يحتسب " {[28965]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
وقال الربيع بن خثيم : { يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من كل شيء ضاق على الناس .
وقال عكرمة : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا . وكذا روي عن ابن عباس ، والضحاك .
وقال ابن مسعود ، ومسروق : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يعلم أن الله إن شاء منع ، وإن شاء أعطى { مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي{[28966]} من حيث لا يدري .
وقال قتادة : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من شبهات الأمور والكرب{[28967]} عند الموت ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل .
وقال السدي : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : " عوف بن مالك الأشجعي " كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ، ويقول له : " إن الله سيجعل لك فرجًا " {[28968]} فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنى{[28969]} قد أصابه من الغنم ، فنزلت فيه هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
رواه ابن جرير ، {[28970]} وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه{[28971]}
وقال الإمام أحمد ، حدثنا وكَيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد لَيُحْرَمُ الرزق بالذنب يُصيبُه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " .
ورواه النسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان - وهو الثوري - به{[28972]}
وقال محمد بن إسحاق : جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : له أسر ابني عوف . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " . وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه ، فخرج ، فإذا هو بناقة لهم فركبها ، وأقبل فإذا بسَرْح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها ، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه : عوف ورب الكعبة . فقالت أمه : واسوأتاه . وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد - فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعًا بمالك " . ونزل : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض ، عن هشام بن حسان{[28973]} عن عمران بن حُصَين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من انقطع إلى الله كفاه الله كل مَئُونة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها " {[28974]}
وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } قال الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، حدثنا قيس بن الحجاج ، عن حَنَش الصنعاني ، عن عبد الله بن عباس : أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام ، إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك ، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " .
وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد ، وابن لَهِيعة ، به{[28975]} وقال : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا بشير بن سلمان ، عن سيار أبي الحكم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا أن لا تُسَهَّل حاجته ، ومن أنزلها بالله أتاه الله برزق عاجل ، أو بموت آجل " .
ثم رواه عن عبد الرزاق ، عن سفيان ، عن بشير ، عن سيار أبي حمزة ، ثم قال : وهو الصواب ، وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق{[28976]}
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي : منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } كقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ]
فإذا بلغن أجلهن شارفن آخر عدتهن فأمسكوهن فراجعوهن بمعروف بحسن عشرة وإنفاق مناسب أو فارقوهن بمعروف بإيفاء الحق واتقاء الضرار مثل ان يراجعها ثم يطلقها تطويلا لعدتها وأشهدوا ذوي عدل منكم على الرجعة أو الفرقة تبريا عن الريبة وقطعا للتنازع وهو ندب كقوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وعن الشافعي وجوبه في الرجعة وأقيموا الشهادة أيها الشهود عند الحاجة لله خالصا لوجهه ذلكم يوعظ به يريد الحث على الإشهاد والإقامة أو على جميع ما في الآية من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه المنتفع به والمقصود بذكره .
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } .
تفريع على جميع ما تقدم من أحكام العدة معطوف على جملة { وأحصوا العدة } [ الطلاق : 1 ] لأن إحصاءها بحفظ مدتها واستيعاب أيامها فإذا انتهت المدة فقد أعذر الله لهما والزيادة عليها إضرار بأحدهما أو بكليهما وفائدة الآجال الوقوف عند انتهائها .
وبلوغ الأجل أصله انتهاء المُدة المقدرة له كما يؤذن به معنى البلوغ الذي هو الوصول إلى المطلوب على تشبيه الأجل المعين بالمكان المسير إليه وشاع ذلك في الاستعمال فالمجاز في لفظ الأجل وتبعه المجاز في البلوغ وقد استعمل البلوغ في هذه الآية في مقاربة ذلك الإِنتهاء مبالغة في عدم التسامح فيه وهذا الاستعمال مجاز آخر لمشابهة مقاربة الشيء بالحصول فيه والتلبس به .
وقرينة المجاز هنا هو لفظ الأجل لأنه لا تتصور المراجعة بعد بلوغ الأجل لأن في ذلك رفع معنى التأجيل .
ومنه قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف } في سورة [ البقرة : 231 ] .
والإمساك : اعتزام المراجعة عبر عنه بالإمساك للإيماء إلى أن المطلقة الرجعية لها حكم الزوجة فيما عدا الاستمتاع فكأنه لما راجعها قد أمسكها أن لا تفارقه فكأنه لم يفارقها لأن الإِمساك هو الضن بالشيء وعدم التفريط فيه ومنه قوله تعالى : { أمسك عليك زوجك } [ الأحزاب : 37 ] وأنه إذا لم يراجعها فكأنه قد أعاد فراقها وقسا قلبه .
ومن أجل هذه النكتة جعل عدم الإمساك فراقاً جديداً في قوله : { أو فارقوهن بمعروف } .
والأمر في { فأمسكوهن } { أو فارقوهن } للإِباحة ، و { أو } فيه للتخيير .
والباء في { بمعروف } للملابسة أي ملابسة كل من الإِمساك والفراق للمعروف .
والمعروف : هو ما تعارفه الأزواج من حسن المعاملة في المعاشرة وفي الفراق .
فالمعروف في الإِمساك : حسن اللقاء والاعتذارُ لها عما فرط والعودُ إلى حسن المعاشرة .
والمعروف في الفراق : كف اللسان عن غِيبتها وإظهارِ الاستراحة منها .
والمعروف في الحالين من عمل الرَّجل لأنه هو المخاطب بالإِمساك أو الفراق .
وأما المعروف الذي هو من عمل المرأة فمقرر من أدلة أخرى كقوله تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } [ البقرة : 228 ] .
وتقديم الإِمساك أعني المراجعة على إمضاء المفارقة ، إيماء إلى أنه أرضى لله تعالى وأَوفَقُ بمقاصد الشريعة مع ما تقدم من التعبير عن المراجعة بالإمساك ، ففهم أن المراجعة مندوب إليها لأن أبْغض الحلال إلى الله الطلاق .
ولمَّا قيد أمر الإباحة من قوله : { فأمسكوهن } { أو فارقوهن } ، بقيد بالمعروف ، فُهم منه أنّه إن كان إمساك دون المعروف فهو غير مأذون فيه وهو الإمساك الذي كان يفعله أهل الجاهلية أن يطلق الرجل امرأته فإذا قاربت انتهاء عدتها راجعها أياماً ثم طلقها يفعل ذلك ثلاثاً ليطيل عليها من العدة فلا تتزوج عدة أشهر إضراراً بها .
وقد تقدم هذا عند قوله تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن ، إلى قوله : ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا } في سورة [ البقرة : 231 ] .
{ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ منكم } .
ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإِمساك أو الفراق ، أنه راجع إلى كليهما لأن الإِشهاد جُعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإِمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيداً وشأن الشروط الواردةِ بعد جمل أن تعود إلى جميعها .
وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإِشهاد على المراجعة وعلى بتّ الطلاق واجباً على الأزواج لأن الإِشهاد يرفع أشكالاً من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بُكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروي عن عمران بن حصين وطَاوس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء . وقال الجمهور : الإِشهاد المأمور به الإِشهاد على المراجعة دون بتّ الطلاق .
أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل } فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهورُ عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدمُ جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم ، وقياسه على الإِشهاد بالبيع فإنهم اتفقوا على عدم وجوبه وكلا هذين مدخول لأن دعوى العمل بترك الإِشهاد دونها مَنع ، ولأن قياس الطلاق والرجعة على البيع قد يقدح فيه بوجود فارق معتبر وهو خطر الطلاق والمراجعة وأهمية ما يترتب عليهما من الخصومات بين الأنساب ، وما في البيوعات مما يغني عن الإِشهاد وهو التقايض في الأعواض . وقيل الأمر للوجوب المراجعة دون الفرقة وهو أحد قولي الشافعي وأحمد ونسبه إسماعيل بن حماد من فقهاء المالكية ببغداد إلى مالك وهو ظاهر مذهب ابنِ بكير .
واتفق الجميع على أن هذا الإِشهاد ليس شرطاً في صحة المراجعة أو المفارقة لأنه إنما شرع احتياطاً لحقهما وتجنباً لنوازل الخصومات خوفاً من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق ، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك ، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور ، على أن جعل الشيء شرطاً لغيره يحتاج إلى دليل خاص غير دليل الوجوب لأنه قد يتحقق الإثم بتركه ولا يبطل بتركه ما أمر بإيقاعه معه مثل الصلاة في الأرض المغصوبة ، وبالثوب المغصوب . قال الموجبون للإِشهاد : لو راجع ولم يشهد أو بتّ الفراق ولم يشهد صحت مراجعته ومفارقته وعليه أن يشهد بعد ذلك .
قال يحيى بن بكير : معنى الإشهاد على المراجعة والمفارقة أن يشهد عند مراجعتها إنْ راجعها ، وعند انقضاء عدتها إن لم يراجعها أنه قد كان طلقها وأن عدتها قد انقضت .
ولفقهاء الأمصار في صفة ما تقع المراجعة من صيغة بالقول ومن فعل ما هو من أفعال الأزواج ، تفاصيل محلها كتب الفروع ولا يتعلق بالآية إلا ما جعله أهل العلم دليلاً على المراجعة عند من جعله كذلك .
{ وَأَقِيمُواْ الشهادة لله } .
عطف على { وأشهدوا ذوي عدل منكم } .
والخطاب موجه لكل من تتعلق به الشهادة من المشهود عليهم والشهود كلٌ يأخذ بما هو حظه من هذين الخطابين . وليس هو من قبيل { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبكِ } [ يوسف : 29 ] لظهور التوزيع هناك باللفظ دون ما هنا فإنه بالمعنى فالكل مأمورون بإقامة الشهادة .
فتعريف الشهادة للاستغراق ، أي كل شهادة وهو استغراق عرفي لأن المأمور به الشهادة الشرعية .
ومعنى إقامة الشهادة : إيقاعها مستقيمة لا عوج فيها فالإقامة مستعارة لإيقاع الشهادة على مستوفيها ما يجب فيها شرعاً مما دلت عليه أدلة الشريعة وهذه استعارة شائعة وتقدم عند قوله تعالى : { وأقوم للشهادة } في سورة [ البقرة : 282 ] .
وقوله : { لله } ، أي لأجل الله وامتثال أمره لا لأجل المشهود له ولا لأجل المشهود عليه ولا لأجل منفعة الشاهد والإبقاء على راحته . وتقدم بعض هذا عند قوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } في سورة [ البقرة : 282 ] .
{ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } .
الإِشارة إلى جميع ما تقدم من الأحكام التي فيها موعظة للمسلمين من قوله : { وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم } [ الطلاق : 1 ] ، إلى قوله : { وأقيموا الشهادة لله } .
والوعظ : التحذير مما يضر والتذكير المليّن للقلوب وقد تقدم عند قوله تعالى : { ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله } في سورة [ البقرة : 232 ] وعند قوله تعالى : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله } في سورة [ النور : 17 ] .
{ وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مخرجا } .
اعتراض بين جملة { وأقيموا الشهادة } وجملة { واللائي يئسن من المحيض } [ الطلاق : 4 ] الآية ، فإن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله : { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر } أعقب ذلك بقضيّة عامة ، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب .
ولمّا كان أمر الطلاق غير خال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق ، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده بأن يجعل لهم مخرجاً من الضائقات ، شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحالّ فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعللِ منفذ في المكان المغلق يتخلص منه المتضائق فيه .
ففي الكلام استعارة أن إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المَخْرَج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضاً بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار فالمخرج لهم في الآخرة هو الإِسراع بهم إلى النعيم .
ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإِنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضاً كثيراً للناس بعد التطليق ، أُتبع الوعد بجعل المخرَج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق .