وهم يجادلون في الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه . ودعوة الله هي وحدها الحق ؛ وما عداها باطل ذاهب ، لا ينال صاحبه منه إلا العناء :
( له دعوة الحق ، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) . .
والمشهد هنا ناطق متحرك جاهد لاهف . . فدعوة واحدة هي الحق ، وهي التي تحق ، وهي التي تستجاب .
إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونة ورحمته وهداه . وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء . . ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء ? انظروا هذا واحد منهم . ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه . وفمه مفتوح يلهث بالدعاء . يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه . وما هو ببالغه . بعد الجهد واللهفة والعناء . وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء :
( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) .
وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف اللاهث قطرة من ماء ? في جو البرق والرعد والسحاب الثقال ، التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار !
قال علي بن أبى طالب ، رضي الله عنه : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } قال : التوحيد . رواه ابن جرير .
وقال ابن عباس ، وقتادة ، ومالك عن محمد بن المنْكَدِر : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } [ قال ]{[15532]} لا إله إلا الله .
{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } {[15533]} أي : ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله . { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ } قال علي بن أبي طالب : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده ، وهو لا يناله أبدا بيده ، فكيف يبلغ فاه ؟ .
وقال مجاهد : { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ } يدعو الماء بلسانه ، ويشير إليه [ بيده ]{[15534]} فلا يأتيه أبدا .
وقيل : المراد كقابض يده على الماء ، فإنه لا يحكم منه على شيء ، كما قال الشاعر :{[15535]}
فَإنّي وَإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إليكمُ *** كَقَابض مَاء لَم تَسْقه{[15536]} أناملُه
وقال الآخر :{[15537]}
فأصْبَحتُ ممَّا كانَ بَيْنِي وَبَيْنَها *** مِن الوُدّ مِثْلَ القابضِ المَاءَ بِاليَد
ومعنى الكلام : أن هذا الذي يبسط يده إلى الماء ، إما قابضا وإما متناولا له من بُعد ، كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه ، الذي جعله محلا للشرب ، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره ، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ ولهذا قال : { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ }
{ له دعوة الحق } الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد ويدعى إلىعبادته دون غيره ، أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه ، ويؤيده ما بعده و{ الحق } على الوجهين ما يناقض الباطل وإضافة ال { دعوة } إليه لما بينهما من الملابسة ، أو على تأويل دعوة المدعو الحق . وقيل { الحق } هو الله تعالى وكل دعاء إليه دعوة الحق ، والمراد بالجملتين إن كانت الآية في أربد وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله إجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم أو دلالة على أنه على الحق ، وإن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعاء رسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، أو بيان ظلالهم وفساد رأيهم . { والذين يدعون } أي الأصنام الذين يدعوهم المشركون ، فحذف الراجع أو والمشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة . { من دونه } عليه . { لا يستجيبون لهم بشيء } من الطلبات . { إلا كباسط كفّيه } إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه . { إلى الماء ليبلُغ فاه } يطلب منه أن يبلغه . { وما هو ببالغه } لأنه جماد لا يشعر بدعائه ولا يقدر على إجابته والإتيان بغير ما جبل عليه وكذلك آلهتهم . وقيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه . وقرئ " تدعون " بالتاء وباسط بالتنوين . { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } في ضياع وخسار وباطل .
الضمير في { له } عائد على اسم الله عز وجل ، وقال ابن عباس : { دعوة الحق } : لا إله إلا الله .
قال القاضي أبو محمد : وما كان من الشريعة في معناها .
وقال علي بن أبي طالب : { دعوة الحق } : التوحيد . ويصح أن يكون معناها له دعوة العباد بالحق ، ودعاء غيره من الأوثان باطل .
وقوله : { والذين } يراد به ما عبد من دون الله ، والضمير في { يدعون } لكفار قريش وغيرهم من العرب . .
وروى اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء : «تدعون من دونه » بالتاء من فوق ، و { يستجيبون } بمعنى يجيبون ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
وداع دعا : يا من يجيب إلى النِّدا . . . فلم يستجبه عند ذاك مجيب{[6944]}
ومعنى الكلام : والذين يدعوهم الكفار في حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون بشيء . ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط { كفيه } نحو الماء ويشير إليه بالإقبال إلى فيه ، فلا يبلغ فمه أبداً ، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع{[6945]} . وقوله : { هو } يراد به الماء ، وهو البالغ ، والضمير في «بالغة » للفم ، ويصح أن يكون { هو } يريد به الفم وهو البالغ أيضاً ، والضمير في «بالغه » للماء ، لأن الفم لا يبلغ الماء أبداً على تلك الحال .
ثم أخبر تعالى عن { دعاء الكافرين } أنه في انتلاف و { ضلال } لا يفيد فيه شيئاً ولا يغنيه .
استئناف ابتدائي بمنزلة النتيجة ونهوض المدلل عليه بالآيات السالفة التي هي براهين الانفراد بالخلق الأول ، ثم الخلق الثاني ، وبالقدرة التامة التي لا تدانيها قدرة قدير ، وبالعلم العام ، فلا جرم أن يكون صاحب تلك الصفات هو المعبود بالحق وأن عبادة غيره ضلال .
والدعوة : طلب الإقبال ، وكثر إطلاقها على طلب الإقبال للنجدة أو للبذل . وذلك متعين فيها إذا أطلقت في جانب الله لاستحالة الإقبال الحقيقي فالمراد طلب الإغاثة أو النعمة .
وإضافة الدعوة إلى الحق إمّا من إضافة الموصوف إلى الصفة إن كان الحق بمعنى مصادفة الواقع ، أي الدعوة التي تصادف الواقع ، أي استحقاقه إياها ؛ وإما من إضافة الشيء إلى منشئه كقولهم : برود اليمن ، أي الدعوة الصادرة عن حق وهو ضد الباطل ، فإن دعاء الله يصدر عن اعتقاد الوحدانية وهو الحق ، وعبادة الأصنام تصدر عن اعتقاد الشرك وهو الباطل .
واللام للملك المجازي وهو الاستحقاق . وتقديم الجار والمجرور على المبتدإ لإفادة التخصيص ، أي دعوة الحق ملكه لا ملك غيره ، وهو قصر إضافي .
وقد صُرح بمفهوم جملة القصر بجملة { والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء } [ سورة الرعد : 14 ] ، فكانت بياناً لها . وكان مقتضى الظاهر أن تفصل ولا تعطف وإنما عطفت لما فيها من التفصيل والتمثيل ، فكانت زائدة على مقدار البيان . والمقصود بيان عدم استحقاق الأصنام أن يدعوها الداعون . واسم الموصول صادق على الأصنام . وضمير يدعون { للمشركين } . ورابط الصلة ضمير نصب محذوف . والتقدير : والذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم .
وأجري على الأصنام ضمير العقلاء في قوله : { لا يستجيبون } مجازاة للاستعمال الشائع في كلام العرب لأنهم يعاملون الأصنام معاملة عاقلين .
والاستجابة : إجابة نداء المنادي ودعوة الداعي ، فالسين والتاء لقوة الفعل .
والباء في بشيء لتعدية { يستجيبون } لأن فعل الإجابة يتعدى إلى الشيء المجاب به بالباء ، وإذا أريد من الاستجابة تحقيق المأمول اقتصر على الفعل . كقوله : { فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن } [ سورة يوسف : 34 ] .
فلما أريد هنا نفي إجداء دعائهم الأصنام جعل نفي الإجابة متعدياً بالباء إلى انتفاء أقل ما يجيب به المسؤول وهو الوعد بالعطاء أو الاعتذار عنه ، فهم عاجزون عن ذلك وهم أعجز عما فوقه .
وتنكير شيء للتحقير . والمراد أقل ما يجاب به من الكلام .
والاستثناء في { إلا كباسط كفيه } من عموم أحوال الداعين والمستجيبين والدعوة والاستجابة ، لأنه تشبيه هيئة فهو يسري إلى جميع أجزائها فلك أن تقدر الكلام إلا كداع باسط أو إلاّ كحال باسط . والمعنى : لا يستجيبونهم في حاللٍ من أحوال الدعاء والاستجابة إلا في حالٍ لداعٍ ومستجيببٍ كحال باسطٍ كفيه إلى الماء . وهذا الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فيؤول إلى نفي الاستجابة في سائر الأحوال بطريق التمليح والكناية .
والمراد ب ( باسط كفيه ) من يغترف ماء بكفين مبسوطتين غير مقبوضتين إذ الماء لايستقر فيهما . وهذا كما يقال : هو كالقابض على الماء ، في تمثيل إضاعة المطلوب . وأنشد أبو عبيدة :
فأصبحت فيما كان بيني وبينها *** من الودّ مثل القابض الماءَ باليد
و { إلى } للانتهاء لدلالة { باسط } على أنه مَدّ إلى الماء كفيه مبسوطتين .
واللام في { ليبلغ } للعلة . وضمير { يبلغ } عائد إلى الماء . وكذلك ضمير { هو } والضمير المضاف إليه في ( بالغه ) للفم .
والكلام تمثيلية . شبّه حال المشركين في دعائهم الأصنام وجلب نفعهم وعدم استجابة الأصنام لهم بشيء بحال الظمآن يبسط كفيه يبتغي أن يرتفع الماء في كفيه المبسوطتين إلى فمه ليرويه وما هو ببالغ إلى فمه بذلك الطلب فيذهب سعيه وتعبه باطلاً مع ما فيه من كناية وتمليح كما ذكرناه .
وجملة { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } عطف على جملة { والذين يدعون من دونه } لاستيعاب حال المدعو وحال الداعي . فبينت الجملة السابقة حال عجز المدعو عن الإجابة وأعقبت بالتمثيل المشتمل على كناية وتمليح . واشتمل ذلك أيضاً بالكناية على خيبة الداعي .
وبينت هذه الجملة الثانية حال خيبة الداعي بالتصريح عقب تبْيينه بالكناية . فباختلاف الغرض والأسلوب حَسنُ العطف ، وبالمآل حصل توكيد الجملة الأولى وتقريرُها وكانت الثانية كالفذلكة لتفصيل الجملة الأولى .
والضلال : التلف والضياع . و { في } للظرفية المجازية للدلالة على التمكن في الوصف ، أي إلا ضائع ضَياعاً شديداً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{له دعوة الحق}، يعني كلمة الإخلاص. {والذين يدعون من دونه}، يعني والذين يعبدون من دون الله من الآلهة، وهي الأصنام. {لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء}، يقول: لا تجيب الآلهة من يعبدها ولا تنفعهم، كما لا ينفع العطشان الماء يبسط يده إلى الماء وهو على شفير بئر يدعوه أن يرتفع إلى فيه، {ليبلغ فاه وما هو ببالغه}، حتى يموت من العطش، فكذلك لا تجيب الأصنام، ثم قال: فادعوا، يعني: فادعوا الأصنام. {وما دعاء الكافرين}، يعني: وما عبادة الكافرين، {إلا في ضلال}، يعن: خسران وباطل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لله من خلقه الدعوة الحق، والدعوة هي الحقّ كما أضيفت الدار إلى الآخرة في قوله:"وَلَدَارُ الاَخِرَةِ"... وإنما عنى بالدعوة الحقّ: توحيد الله، وشهادة أن لا إله إلاّ الله...
وقوله: "والّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ "يقول تعالى ذكره: والآلهة التي يدعوها المشركون أربابا وآلهة. وقوله "مِنْ دُونِهِ "يقول: من دون الله وإنما عنى بقوله: "مِنْ دُونِهِ" الآلهة أنها مقصرة عنه، وأنها لا تكون إلها، ولا يجوز أن يكون إلها إلاّ الله الواحد القهار... وقوله: "لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ" يقول: لا تجيب هذه الآلهة التي يدعوها هؤلاء المشركون آلهة بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضرّ.
"إلاّ كباسطِ كَفّيْهِ إلى الماءِ" يقول: لا ينفع داعي الآلهة دعاؤه إياها إلاّ كما ينفع باسطَ كفيه إلى الماء، بسطُه إياهما إليه من غير أن يرفعه إليه في إناء، ولكن ليرتفع إليه بدعائه إياه وإشارته إليه وقبضه عليه. والعرب تضرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقابض على الماء...
عن عليّ رضي الله عنه، في قوله: "إلاّ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ" قال: كالرجل العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه...
قال الله تعالى: "وَما دُعاءُ الكافرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ" هذا مَثَلٌ ضربه الله أي هذا الذي يدعو من دون الله هذا الوثن وهذا الحجر لا يستجيب له بشيء أبدا ولا يسوق إليه خيرا ولا يدفع عنه سوءا حتى يأتيه الموت، كمثل هذا الذي بسط ذارعيه إلى الماء ليبلغ فاه ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشا.
وقال آخرون: معنى ذلك: والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلاّ كباسط كفيه إلى الماء ليتناول خياله فيه، وما هو ببالغ ذلك...
وقال آخرون:... عن ابن عباس، قوله: "وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ" إلى: "وَما دُعاءُ الكافرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ" يقول: مثل الأوثان الذين يُعبدون من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء قد وضعهما لا يبلغان فاه، يقول الله: لا تستجيب الآلهة ولا تنفع الذين يعبدونها حتى يبلغ كَفّا هذا فاه، وما هما ببالغتين فاه أبدا...
وقال آخرون:... عن قتادة: "إلاّ كبَاسِطِ كَفّيْهِ إلى المَاءِ لِيَبْلُغَ فاهُ" وليس الماء ببالغ فاه ما قام باسطا كفيه لا يقبضهما "وَما هُوَ بِبالِغِهِ وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ" قال: هذا مثل ضربه الله لمن اتخذ من دون الله إلها أنه غير نافعه، ولا يدفع عنه سوءًا حتى يموت على ذلك.
وقوله: "وَما دُعاءُ الكافِرِينَ إلاّ فِي ضَلالٍ" يقول: وما دعاء من كفر بالله ما يدعو من الأوثان والآلهة إلاّ في ضلال: يقول: إلاّ في غير استقامة ولا هُدًى، لأنه يشرك بالله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(له دعوة الحق) يحتمل وجهين: أحدهما: أي له عبادة الحق، وليس لمن دونه عبادة الحق، أي هو المستحق للعبادة... والثاني: (له دعوة الحق) أي له إجابة دعوة الحق، ليس يملك من دونه إجابة من دعا بالحق...
يدل على ذلك قوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) أي والذين يدعون من دونه لا يملكون الإجابة، أو لا يملكون ما يأملون من عبادتهم الأصنام... (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ) أي دعاؤهم وعبادتهم لا يعقب لهم إلا الخسار في الآخرة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى بأن له (عز وجل) دعوة الحق... قال أبو علي: دعوة الحق هي الدعوة التي يدعى الله بها على إخلاص التوحيد. والدعوة: طلب فعل الشيء، فالإنسان يدعو ربه أن يدخله في رحمته، وهو أهل المغفرة والرحمة، وكل ما لابسه الإنسان، فقد دخل فيه. والمعنى: لله من خلقه الدعوة الحق. وقوله "والذين يدعون من دونه "قيل في معناه قولان:
احدهما: قال الحسن: والذين يدعون من الاوثان لحاجاتهم.
الثاني: الذين يدعون أربابا. وقيل ان المعنى الذين يدعون غيره مقصرين عن دعائهم له...
"لا يستجيبون لهم بشيء" فالاستجابة: متابعة الداعي فيما دعا إليه بموافقة إرادته. والاستجابة والإجابة واحد إلا أن صيغة الاستجابة تفيد طلب الموافقة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{دَعْوَةُ الحق} فيه وجهان: أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قولك: كلمة الحق، للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل. والمعنى أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطي الداعي سؤاله إن كان مصلحة له، فكانت دعوة ملابسة للحق، لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه. والثاني: أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وعلا، على معنى: دعوة المدعوّ الحق الذي يسمع فيجيب...
{والذين يَدْعُونَ}: والآلهة الذين يدعوهم الكفار {مِنْ} دون الله {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بشيء} من طلباتهم {إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ} إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أي كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشراً أصابعه، فلم تلق كفاه منه شيئاً ولم يبلغ طلبته من شربه...
{إِلاَّ فِي ضلال} إلا في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين تعالى تصديقاً لقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون} [يوسف:105] ما له من الآيات التابعة لصفات الكمال التي منها التنزه عما لا يليق بالجلال وأنه شديد المحال، شرع يبين ضلالهم في اشتراكهم المشار إليه في قوله: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} بما هو علة لختم ما قبلها من أنه لا كفؤ له، فقال: {له} أي الله سبحانه {دعوة الحق} إن دعاه أحد سمعه فأجابه -إن شاء- بما يشاء، وإن دعا هو أحداً دعوة أمر، بين الصواب بما يكشف الارتياب، أو دعوة حكم لبى صاغراً وأجاب {والذين يدعون} أي يدعو الكافرون، وبين سفول رتبتهم بقوله: {من دونه} أي الله {لا يستجيبون} أي لا يوجدون الإجابة {لهم} أي الكافرين {بشيء} والاستجابة: متابعة الداعي فيما دعا إليه بموافقة إرادته {إلا كباسط} أي إلا إجابة كإجابة الماء لباسط {كفيه} تثنيه كف، وهو موضع القبض باليد، وأصله من كفه -إذا جمع أطرافه {إلى الماء ليبلغ} أي الماء {فاه} دون أن يصل كفاه إلى الماء- بما يدل عليه التعدية ب "إلى"، فما الماء بمجيب دعاءه في بلوغ فيه {وما هو} أي الماء {ببالغه} أي فيه، فللكافرين بذلك دعوة الباطل كما أن الماء جماد لا يحس بدعوة هذا فلا يجيبه، فأصنامهم كذلك. ولما كان دعاؤهم منحصراً في الباطل، قال في موضع "وما دعاؤهم "مظهراً تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف: {وما دعاء الكافرين} أي الساترين لما دلت عليه أنوار عقولهم بمعبوداتهم أو غيرها {إلا في ضلال} لأنه لا يجد لهم نفعاً، أما معبوداتهم فلا تضر ولا تنفع، وأما الله فلا يجيبهم لتضييعهم الأساس...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهم يجادلون في الله وينسبون إليه شركاء يدعونهم معه. ودعوة الله هي وحدها الحق؛ وما عداها باطل ذاهب، لا ينال صاحبه منه إلا العناء: (له دعوة الحق، والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).. والمشهد هنا ناطق متحرك جاهد لاهف.. فدعوة واحدة هي الحق، وهي التي تحق، وهي التي تستجاب. إنها دعوة الله والتوجه إليه والاعتماد عليه وطلب عونه ورحمته وهداه. وما عداها باطل وما عداها ضائع وما عداها هباء.. ألا ترون حال الداعين لغيره من الشركاء؟ انظروا هذا واحد منهم. ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه. وفمه مفتوح يلهث بالدعاء. يطلب الماء ليبلغ فاه فلا يبلغه. وما هو ببالغه. بعد الجهد واللهفة والعناء. وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد حين يدعون الشركاء: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال). وفي أي جو لا يبلغ هذا الداعي اللاهف اللاهث قطرة من ماء؟ في جو البرق والرعد والسحاب الثقال، التي تجري هناك بأمر الله الواحد القهار!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
و {دعوة} إما أن تفسرها بمعنى الدعاء وهو العبادة، أي له وحدة العبادة الحقة، والإضافة بيانية، أي أن المضاف إليه فيه بيان للمضاف، أي الدعوة التي هي الحق، والحق ضد الباطل أي العبادة الثابتة الصادقة التي هي الحق، وغيرها الباطل. وإما أن يفسرها بمعنى الطلب، والالتجاء، أي لا يلجأ إلا إليه، ولا يجيب غيره دعوة اللاجئين المستغيثين، ولا مانع من إرادة المعنيين؛ لأنه لا تضاد بينهما، ولا تضارب، فيمكن الجمع بينهما، ويكون المعنى العبادة هي الحق، ولا التجاء بحق إلا له سبحانه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَهُ دَعْوَةُ الحق} بما يوحيه إلى رسله من فكرٍ يلتزم به الناس، وعمل يقومون به، ومنهج يتبعونه، ومفاهيم يحملونها، وشريعةٍ يسيرون عليها على أساس الحق، دون أن يترك أيّة ثغرةٍ تُحدث فراغاً في أفكارهم ومشاعرهم وخطواتهم العملية في الحياة. وهكذا تكون الاستجابة لله استجابة للحق في كل شيءٍ، وانطلاقةً في الصراط المستقيم الذي لا يقترب إليه الانحراف، لأن الباطل إنما يكون نتيجة فقدان الوضوح في الرؤية، أو نتيجة عقدة ضعفٍ تحركها حالة رغبة أو رهبة تستغل الباطل في الوصول والهروب. الخضوع لعظمة الله والله هو القادر على كل شيء، والغنيّ عن كل أحد، والمتعالي على كل ذلك، والمحيط بكل شيءٍ حيٍّ علمه. من هنا تلتقي دعوة الحق التي يحملها الأنبياء بالتوحيد المطلق لله الذي يجعله الرب والملاذ والمرجع في كل شيء، في الفكر والعاطفة والحياة وفي الشريعة والمنهج والطريق، فلا إله إلا هو، ولا فكر إلا وحيه، ولا شريعة إلا شريعته، ولا حياة إلا الحياة التي تنطلق من هداه وتلتقي برضاه. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} ويعبدون غيره، مما سوّلت لهم أنفسهم اعتبارهم شركاء لله لضعف يعتري أنفسهم ويسحقهم أمام مظاهر القوة التي يملكها أولئك الشركاء الوهميون. إنه الباطل الذي لا ينطلق من أساس ثابت، ولا يحقق لدعاته أو للسائرين معه أيّة حمايةٍ أو رعايةٍ، فهؤلاء الرموز من الشركاء {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيٍ} في أيّ مطلب يتقدمون به، فليس مثلهم في ذلك {إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} دون أن يرفعهما إلى فمه، {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} نتيجة المسافة بين موقع الماء وموقع فمه، فلا يكون لهم من الطلب إلاّ صورته فقط دون أيّة نتيجةٍ إيجابية، تماماً كما هو حال صاحب المثل الذي يطلب الري بعيداً عن أسبابه الطبيعية. {وَمَا دُعَآء الْكَافِرِينَ} في التزامهم بعبادة هؤلاء الشركاء {إِلاَّ فِي ضَلالٍ}، لأنه لا يلتقي بالجانب المشرق الذي يهتدي به الناس إلى سواء السبيل...