وعبرة أخرى في الأنعام تشير إلى عجيب صنع الخالق ، وتدل على الألوهية بهذا الصنع العجيب :
( وإن لكم في الأنعام لعبرة ، نسقيكم مما في بطونه - من بين فرث ودم - لبنا خالصا سائغا للشاربين ) فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم هو ؟ إنه مستخلص من بين فرث ودم . والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم ، وامتصاص الأمعاء للعصارة التي تتحول إلى دم . هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم ، فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب ، الذي لا يدري أحد كيف يكون .
وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم ، عملية عجيبة فائقة العجب ، وهي تتم في الجسم في كل ثانية ، كما تتم عمليات الاحتراق . وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد . . ولا يملك إنسان سوى الشعور أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة لا تهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني ، الذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر ، ولا إلى خلية واحدة من خلاياه التي لا تحصى .
ووراء الوصف العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل ، وعمل الخلية الواحدة في الجسم في هذه العملية عجب لا ينقضي التأمل فيه .
وقد بقى هذا كله سرا إلى عهد قريب . وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا عن خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلا على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة . وما يملك إنسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل . ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن . فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة .
والقرآن - يعبر هذه الحقائق العلمية البحتة - يحمل أدلة الوحي من الله في خصائصه الأخرى لمن يدرك هذه الخصائص ويقدرها ؛ ولكن ورود حقيقة واحدة على هذا النحو الدقيق يفحم المجادلين المتعنتين .
يقول تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ } ، أيها الناس . { فِي الأنْعَامِ } وهي : الإبل والبقر والغنم ، { لَعِبْرَةً } ، أي : لآية ودلالة على قدرة خالقها ، وحكمته ولطفه ورحمته ، { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ } ، وأفرد هاهنا [ الضمير ]{[16521]} ، عودًا على معنى النعم ، أو الضمير{[16522]} عائد على الحيوان ؛ فإن الأنعام حيوانات ، أي : نسقيكم مما في بطن{[16523]} هذا الحيوان .
وفي الآية الأخرى : { مِمَّا فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] ، ويجوز هذا وهذا ، كما في قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } [ المدثر : 54 ، 55 ] ، وفي قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ } [ النمل : 35 ، 36 ] أي : المال .
وقوله : { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا } ، أي : يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته ، من بين فرث ودم ، في باطن الحيوان ، فيسري كلٌ إلى موطنه ، إذا نضج الغذاء في معدته ، تصرف{[16524]} منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع{[16525]} ، وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ، ولا يتغير به .
وقوله : { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } ، أي : لا يغص به أحد{[16526]} .
{ وإن لكم في الأنعام لعبرة } ، دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم . { نسقيكم مما في بطونه } ، استئناف لبيان العبرة ، وإنما ذكر الضمير ووحده ها هنا ؛ للفظ . وأنثه في سورة " المؤمنين " ؛ للمعنى ، فإن الأنعام اسم جمع ، ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال ، كأخلاق وأكياس ، ومن قال إنه جمع " نعم " ، جعل الضمير للبعض ، فإن اللبن لبعضها دون جميعها ، أو لواحدة ، أو له على المعنى ، فإن المراد به الجنس . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو بكر ، ويعقوب : { نسقيكم } ، بالفتح هنا ، وفي " المؤمنين " . { من بين فرث ودم لبناً } ، فإنه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث ، وهو : الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن البهيمة إذا اعتلفت ، وانطبخ العلف في كرشها ، كان أسفله فرثا ، وأوسطه لبنا ، وأعلاه دما ، ولعله إن صح ، فالمراد : أن أوسطه يكون مادة اللبن ، وأعلاه مادة الدم الذي يغذي البدن ؛ لأنهما لا يتكونان في الكرش ، بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش ، ويبقي ثقله ، وهو : الفرث ، ثم يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا ، فيحدث أخلاطا أربعة ، معه مائية ، فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين ، وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ، ثم يوزع الباقي على الأعضاء بحسبها ، فيجري إلى كل حقه ، على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم ، ثم إن كان الحيوان أنثى : زاد أخلاطها على قدر غذائها ؛ لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها ، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم ؛ لأجل الجنين ، فإذا انفصل ، انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع ، فيبيض بمجاورة لحومها الغددية البيض ، فيصير لبناً ، ومن تدبر صنع الله تعالى في إحداث الخلاط والألبان ، وإعداد مقارها ومجاريها ، والأسباب المولدة لها ؟ ، والقوى المتصرفة فيها ، كل وقت على ما يليق به ، اضطر إلى الإقرار بكمال حكمته وتناهي رحمته ، و{ من } ، الأولى : تبعيضية ، لأن اللبن بعض ما في بطونها ، والثانية : ابتدائية ، كقولك : سقيت من الحوض ؛ لأن بين الفرث والدم المحل الذي يبتدأ منه الإسقاء ، وهي متعلقة ب { سقيكم } ، أو حال من : { لبناً } ، قدم عليه لتنكيره ، وللتنبيه على أنه موضع العبرة . { خالصا } ، صافيا ، لا يستصحب لون الدم ولا رائحة الفرث ، أو مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه . { سائغا للشاربين } ، سهل المرور في حلقهم ، وقرئ " سيِّغاً " بالتشديد والتخفيف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.