بعد ذلك يتخذ السياق أسلوبا جديدا في التحذير من عاقبة الانحراف عن الدخول في السلم واتباع خطوات الشيطان . فيتحدث بصيغة الغيبة بدلا من صيغة الخطاب :
( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ؟ وقضي الأمر ، وإلى الله ترجع الأمور ) . .
وهو سؤال استنكاري عن علة انتظار المترددين المتلكئين الذين لا يدخلون في السلم كافة . ما الذي يقعد بهم عن الاستجابة ؟ ماذا ينتظرون ؟ وماذا يرتقبون ؟ تراهم سيظلون هكذا في موقفهم حتى يأتيهم الله - سبحانه - في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة ؟ وبتعبير آخر : هل ينتظرون ويتلكأون حتى يأتيهم اليوم الرعيب الموعود ، الذي قال الله سبحانه : إنه سيأتي فيه في ظلل من الغمام ، ويأتي الملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ؟
وفجأة - وبينما نحن أمام السؤال الاستنكاري الذي يحمل طابع التهديد الرعيب - نجد أن اليوم قد جاء ، وأن كل شيء قد انتهى ، وأن القوم أمام المفاجأة التي كان يلوح لهم بها ويخوفهم إياها :
وطوي الزمان ، وأفلتت الفرصة ، وعزت النجاة ، ووقفوا وجها لوجه أمام الله ؛ الذي ترجع إليه وحده الأمور :
إنها طريقة القرآن العجيبة ، التي تفرده وتميزه من سائر القول . الطريقة التي تحيي المشهد وتستحضره في التو واللحظة ، وتقف القلوب إزاءه وقفة من يرى ويسمع ويعاني ما فيه !
فإلى متى يتخلف المتخلفون عن الدخول في السلم ؛ وهذا الفزع الأكبر ينتظرهم ؟ بل هذا الفزع الأكبر يدهمهم ! والسلم منهم قريب . السلم في الدنيا والسلم في الآخرة يوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . يوم يقضي الأمر . . وقد قضي الأمر ! ( وإلى الله ترجع الأمور ) . .
يقول تعالى مُهَدّدًا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ } يعني : يوم القيامة ، لفصل القضاء بين الأولين والآخرين ، فيجزي كُلّ عامل بعمله ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، ولهذا قال : { وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } كما قال : { كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا* وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا* وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [ الفجر : 21 - 23 ] ، وقال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } الآية [ الأنعام : 158 ] .
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديث الصور بطوله من أوله ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم ، وفيه : " أنّ الناس إذا اهتموا لموقفهم{[3722]} في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدًا واحدًا ، من آدم فمن بعده ، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، فإذا جاؤوا إليه قال : أنا لها ، أنا لها . فيذهب فيسجد لله تحت العرش ، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد ، فيُشفّعه الله ، ويأتي في ظُلَل من الغمام بعد ما تنشق{[3723]} السماء الدنيا ، وينزل من فيها من الملائكة ، ثم الثانية ، ثم الثالثة إلى السابعة ، وينزل{[3724]} حملة العرش والكَرُوبيّون{[3725]} ، قال : وينزل الجبار ، عز وجل ، في ظُلَل من الغمام والملائكةُ ، ولهم زَجَل مِنْ تسبيحهم يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان رب العرش ذي الجبروت{[3726]} سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت ، سُبّوح قدوس ، رب الملائكة والروح ، قدوس قدوس ، سبحان ربنا الأعلى ، سبحان ذي السلطان والعظمة ، سبحانه أبدًا أبدًا " {[3727]} .
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه هاهنا أحاديث فيها غرابة والله أعلم ؛ فمنها ما رواه من حديث المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن مسروق ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم ، قيامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء ، ينتظرون فَصْل القضاء ، وينزل الله في ظُلَل من الغمام من العرش إلى الكرسي " {[3728]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم ، حدثنا معتمر بن سليمان ، سمعت عبد الجليل القَيْسي ، يحدّث عن عبد الله بن عمرو : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } الآية ، قال : يهبط حين يهبط ، وبينه وبين خَلْقه سبعون ألف حِجَاب ، منها : النور ، والظلمة ، والماء . فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتًا تنخلع له القلوب .
قال : وحدثنا أبي : حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي ، حدثنا الوليد قال : سألت زهير بن محمد ، عن قول الله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } قال : ظلل من الغمام ، منظوم من الياقوت{[3729]} مكلَّل بالجوهر والزبَرْجَد .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد { فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ } قال : هو غير السحاب ، ولم يكن قَطّ إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ }
[ قال ]{[3730]} : يقول : والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام ، والله تعالى يجيء فيما يشاء - وهي في بعض القراءة : " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظُلَل من الغمام " وهي كقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا } [ الفرقان : 25 ] .
{ هل ينظرون } استفهام في معنى النفي ولذلك جاء بعده . { إلا أن يأتيهم الله } أي يأتيهم أمره أو بأسه كقوله تعالى : { أو يأتي أمر ربك } { فجاءها بأسنا } أو يأتيهم الله ببأسه فحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله تعالى : { إن الله عزيز حكيم } { في ظلل } جمع ظلة كقلة وقلل وهي ما أظلك ، وقرئ " ظلال " كقلال . { من الغمام } السحاب الأبيض وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة ، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير . { والملائكة } فإنهم الواسطة في إتيان أمره ، أو الآتون على الحقيقة ببأسه . وقرئ بالجر عطفا على { ظلل } أو { الغمام } { وقضي الأمر } أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه ، وضع الماضي موضع المستقبل لدنوه وتيقن وقوعه . وقرئ و " قضاء الأمر " عطفا على الملائكة { وإلى الله ترجع الأمور } قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم على البناء للمفعول على أنه من الراجع ، وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع ، وقرئ أيضا بالتذكير وبناء المفعول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.