وبينما كان موسى - عليه السلام - في حضرة ربه ، في ذلك الموقف الفريد ، الذي تستشرفه البصائر وتقصر عنه الأبصار ؛ وتدركه الأرواح وتحار فيه الأفكار . . كان قوم موسى من بعده يرتكسون وينتكسون ، ويتخذون لهم عجلاً جسداً له خوار - لا حياة فيه - يعبدونه من دون الله !
ويفاجئنا السياق القرآني بنقلة بعيدة من المشهد التاسع الى المشهد العاشر . نقلة هائلة من الجو العلوي السامق المشرق بسبحاته وأشواقه وابتهالاته وكلماته الى الجو الهابط المتردي بانحرافاته وخرافاته وارتكاساته وانتكاساته :
( واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار . ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ؟ اتخذوه وكانوا ظالمين . ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا : لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ) . .
إنها طبيعة إسرائيل التي ما تكاد تستقيم خطوة حتى تلتوي عن الطريق ؛ والتي ما تكاد ترتفع عن مدى الرؤية الحسية في التصور والاعتقاد ؛ والتي يسهل انتكاسها كلما فتر عنها التوجيه والتسديد
ولقد راودوا نبيهم من قبل أن يجعل لهم إلهاً يعكفون عليه بمجرد رؤيتهم لقوم وثنيين يعكفون على أصنام لهم ! فصدهم نبيهم عن ذلك الخاطر وردهم رداً شديداً . فلما خلوا الى أنفسهم ، ورأوا عجلاً جسداً من الذهب - لا حياة فيه كما تفيد كلمة جسد - صنعه لهم السامري - رجل من السامرة كما يجيء تفصيل قصته في سورة طه - واستطاع أن يجعله بهيئة بحيث يخرج صوتاً كصوت خوار الثيران . . لما رأوا ذلك العجل الجسد طاروا إليه ، وتهافتوا عليه حين قال لهم السامري : " هذا إلهكم وإله موسى " الذي خرج موسى لميقاته معه ؛ فنسي موسى موعده معه - ربما لزيادة الليالي العشر الأخيرة في الميقات التي لم يكن القوم يعلمونها ، فلما زاد عن الثلاثين ولم يرجع قال لهم السامري : لقد نسي موسى موعده مع إلهه فهذا إلهه - ولم يتذكروا وصية نبيهم لهم من قبل بعبادة ربهم الذي لا تراه الأبصار - رب العالمين - ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم ! . . وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم . صورة يعجب منها القرآن الكريم ؛ وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام !
( ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً ؟ اتخذوه وكانوا ظالمين ! ) . .
وهل أظلم ممن يعبد خلقاً من صنع أيدي البشر . والله خلقهم وما يصنعون ؟ !
وكان فيهم هارون - عليه السلام - فلم يملك لهم رداً عن هذا الضلال السخيف . وكان فيهم بعض عقلائهم فلم يملكوا زمام الجماهير الضالة المتدافعة على العجل الجسد - وبخاصة أنه من الذهب معبود إسرائيل الأصيل !
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل ، الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط ، الذي كانوا استعاروه منهم ، فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل ، عليه السلام ، فصار عجلا جسدا له خوار ، و " الخوار " صوت البقر .
وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى [ عليه السلام ]{[12137]} لميقات ربه تعالى ، وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور ، حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [ طه : 85 ]
وقد اختلف المفسرون في هذا العجل : هل صار لحما ودما له خوار ؟ أو استمر على كونه من ذهب ، إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ؟ على قولين ، والله أعلم . ويقال : إنهم لما صَوّت لهم العجل رَقَصُوا حوله وافتتنوا به ، { فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [ طه : 88 ] فقال الله تعالى : { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } [ طه : 89 ]
وقال في هذه الآية الكريمة : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل ، وذُهُولهم عن خالق السماوات والأرض وربّ كل شيء ومليكه ، أن عبدوا{[12138]} معه عجلا جسدًا له خُوَار لا يكلمهم ، ولا يرشدهم إلى خير . ولكن غَطَّى على أعيُن بصائرهم{[12139]} عَمَى الجهل والضلال ، كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبو داود ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حبك الشيء يُعْمي ويُصِم " {[12140]}
{ واتخذ قوم موسى من بعده } من بعد ذهابه للميقات . { من حُليّهم } التي استعاروا من القبط حين هموا بالخروج من مصر ، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم . وهو جمع حلي كثدي وثدي . وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإفراد . { عجلا جسدا } بدنا ذا لحم ودم ، أو جسدا من الذهب خاليا من الروح ونصبه على البدل . { له خوار } صوت البقر . روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حيا . وقيل صاغه بنوع من الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت ، وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلها . وقرئ " جؤار " أي صياح . { ألم يروا أنه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا } تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر ، والمعنى ألم يروا حين اتخذوه إلها أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر . { اتخذوه } تكرير للذم أي اتخذوه إلها . { وكانوا ظالمين } واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعا منهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.