في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (73)

65

وكان أهل الكتاب يقول بعضهم لبعض : تظاهروا بالإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل المسلمين يرجعون عن دينهم . وليكن هذا سرا بينكم لا تبدونه ولا تأتمنون عليه إلا أهل دينكم :

( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) . .

وفعل الإيمان حين يعدى باللام يعني الاطمئنان والثقة . أي ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تفضوا بأسراركم إلا لهؤلاء دون المسلمين !

وعملاء الصهيونية والصليبية اليوم كذلك . . إنهم متفاهمون فيما بينهم على أمر . . هو الإجهاز على هذه العقيدة في الفرصة السانحة التي قد لا تعود . . وقد لا يكون هذا التفاهم في معاهدة أو مؤامرة . ولكنه تفاهم العميل مع العميل على المهمة المطلوبة للأصيل ! ويأمن بعضهم لبعض فيفضي بعضهم إلى بعض . . ثم يتظاهرون - بعضهم على الأقل - بغير ما يريدون وما يبيتون . . والجو من حولهم مهيأ ، والأجهزة من حولهم معبأة . . والذين يدركون حقيقة هذا الدين في الأرض كلها مغيبون أو مشردون !

( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) . .

وهنا يوجه الله نبيه [ ص ] أن يعلن أن الهدى هو وحده هدى الله ؛ وأن من لا يفيء إليه لن يجد الهدى أبدا في أي منهج ولا في أي طريق :

( قل : إن الهدى هدى الله ) . .

ويجيء هذا التقرير ردا على مقالتهم : ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون )تحذيرا للمسلمين من تحقيق الهدف اللئيم . فهو الخروج من هدى الله كله . فلا هدى إلا هداه وحده . وإنما هو الضلال والكفر ما يريده بهم هؤلاء الماكرون .

يجيء هذا التقرير قبل أن ينتهي السياق من عرض مقولة أهل الكتاب كلها . . ثم يمضي يعرض بقية تآمرهم بعد هذا التقرير المعترض :

( أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو يحاجوكم عند ربكم ) . .

بهذا يعللون قولهم : ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ) . . فهو الحقد والحسد والنقمة أن يؤتي الله أحدا من النبوة والكتاب ما آتى أهل الكتاب . وهو الخوف أن يكون في الاطمئنان للمسلمين وإطلاعهم على الحقيقة التي يعرفها أهل الكتاب ، ثم ينكرونها ، عن هذا الدين ، ما يتخذه المسلمون حجة عليهم عند الله ! - كأن الله سبحانه لا يأخذهم بحجة إلا حجة القول المسموع ! - وهي مشاعر لا تصدر عن تصور إيماني بالله وصفاته ؛ ولا عن معرفة بحقيقة الرسالات والنبوات ، وتكاليف الإيمان والاعتقاد !

ويوجه الله سبحانه رسوله الكريم ليعلمهم - ويعلم الجماعة المسلمة - حقيقة فضل الله حين يشاء أن يمن على أمة برسالة وبرسول :

( قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم . يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ) . .

وقد شاءت إرادته أن يجعل الرسالة والكتاب في غير أهل الكتاب ؛ بعد ما خاسوا بعهدهم مع الله ؛ ونقضوا ذمة أبيهم إبراهيم ؛ وعرفوا الحق ولبسوه بالباطل ؛ وتخلوا عن الأمانة التي ناطها الله بهم ؛ وتركوا أحكام كتابهم وشريعة دينهم ؛ وكرهوا أن يتحاكموا إلى كتاب الله بينهم . وخلت قيادة البشرية من منهج الله وكتابه ورجاله المؤمنين . . عندئذ سلم القيادة ، وناط الأمانة ، بالأمة المسلمة . فضلا منه ومنة . ( والله واسع عليم ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (73)

وقوله : { وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } أي : لا تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن اتبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين ، فيؤمنوا به ويحتجوا{[5172]} به عليكم ؛ قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان ، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات ، والدلائل القاطعات ، والحجج الواضحات ، وَإنْ كتمتم{[5173]} - أيها اليهود - ما بأيديكم من صفة محمد في{[5174]} كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين .

وقوله { أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ } يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين ، فيتعلموه منكم ، ويساووكم{[5175]} فيه ، ويمتازوا{[5176]} به عليكم لشدة الإيمان{[5177]} به ، أو يحاجوكم{[5178]} به عند الله ، أي : يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم ، فتقوم{[5179]} به عليكم الدلالة وتَتَركَّب الحجةُ في الدنيا والآخرة .

قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : الأمورُ كلها تحت تصريفه ، وهو المعطي المانع ، يَمُنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام ، ويضل من يشاء ويُعمي بصره وبصيرته ، ويختم على سمعه وقلبه ، ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجة والحكمة{[5180]} .

{ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .


[5172]:في جـ، أ، و: "يحتجون".
[5173]:في جـ، ر: "كنتم".
[5174]:في و: "صفة محمد التي في".
[5175]:في جـ، ر، و: "يساوونكم".
[5176]:في جـ، ر: "ويمتازون".
[5177]:في جـ، أ: "بشدة الآيات".
[5178]:في جـ، ر: "ويحاجوكم".
[5179]:في أ: "فيقوم".
[5180]:في أ: "والحكم".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (73)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ قُلْ إِنّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديا . وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود :

{ آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِلَ على الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ } . واللام التي في قوله : { لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } نظيرة اللام التي في قوله : { عَسَى أنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ } بمعنى : ردفكم { بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ } .

وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } هذا قول بعضهم لبعض .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } قال : لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب : قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } قال : لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم لا من خالفه ، فلا تؤمنوا به .

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ أنْ يُؤْتَى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أوْ يُحاجّوكُمْ عِنْدَ رَبّكُمْ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : قوله : { قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ } اعترض به في وسط الكلام خبرا من الله عن أن البيان بيانه والهدى هداه . قالوا : وسائر الكلام بعد ذلك متصل بالكلام الأوّل خبرا عن قيل اليهود بعضها لبعض . فمعنى الكلام عندهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو أن يحاجوكم عند ربكم : أي ولا تؤمنوا أن يحاجكم أحد عند ربكم . ثم قال الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، وإن الهدى هدى الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { أنْ يُؤْتَى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ } : حسدا من يهود أن تكون النبوّة في غيرهم ، وإرادة أن يتبعوا على دينهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وقال آخرون : تأويل ذلك : قل يا محمد إن الهدى هدى الله ، إن البيان بيان الله أن يؤتى أحد ، قالوا : ومعناه : لا يؤتى أحد من الأمم مثل ما أوتيتم ، كما قال : { يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أنْ تَضِلّوا } بمعنى لا تضلون ، وكقوله : { كذلك سَلَكْناهُ في قُلُوبِ المجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني : أن لا يؤمنوا { مِثْلَ ما أوتِيتُمْ } . يقول : مثل ما أوتيت أنت يا محمد وأمتك من الإسلام والهدى ، أو يحاجوكم عند ربكم . قالوا : ومعنى «أو » إلا : أي إلا أن يحاجوكم ، يعني إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فعل بهم ربكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قال الله عزّ وجلّ لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ أنْ يُؤْتَى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ } يقول : مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ، أو يحاجوكم عند ربكم ، تقول اليهود : فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة ، حتى أنزل علينا المنّ والسلوى ، فإن الذي أعطيتكم أفضل ، فقولوا : { إنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } . . . الاَية .

فعلى هذا التأويل جميع هذا الكلام ( أَمْر ) من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود ، وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه ، والهدى الثاني ردّ على الهدى الأوّل ، و«أن » في موضع رفع على أنه خبر عن الهدى .

وقال آخرون : بل هذا أمر من الله لنبيه أن يقوله لليهود ، وقالوا : تأويله : قل يا محمد إن الهدى هدى الله ، أن يؤتى أحد من الناس مثل ما أوتيتم ، يقول : مثل الذي أوتيتموه أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله ، ومثل نبيكم ، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم ، مثل الذي أعطيتكم من فضلي ، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ أنْ يُؤْتَى أحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } يقول : لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم ، وبعث نبيا مثل نبيكم حسدتموهم على ذلك¹ { قُلْ إنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ } . . . الاَية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .

وقال آخرون : بل تأويل ذلك : قل يا محمد إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثلما أوتيتم أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله . قالوا : وهذا آخر القول الذي أمر الله به نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لليهود من هذه الآية ، قالوا : وقوله : { أوْ يُحاجّوكُمْ } مردود على قوله :

{ وَلا تُؤْمِنُوا إلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } . وتأويل الكلام على قول أهل هذه المقالة : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فتتركوا الحقّ أن يحاجوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه ، فاخترتموه أنه محقّ ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم . فيكون حينئذ قوله : { أوْ يُحاجّوكُمْ } مردودا على جواب نهي متروك على قول هؤلاء . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ أنْ يُؤْتَى أحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ } يقول : هذا الأمر الذي أنتم عليه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو يحاجوكم عند ربكم ، قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ليحاجوكم ، قال : ليخاصموكم به عند ربكم .

{ قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ } معترض به ، وسائر الكلام متسق على سياق واحد . فيكون تأويله حينئذ : ولا تؤمنوا إلا لمن اتبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، بمعنى : لا يؤتى أحد بمثل ما أوتيتم ، { أو يُحاجّوكُمْ عِنْدَ رَبّكُمْ } بمعنى : أو أن يحاجكم عند ربكم أحد بإيمانكم ، لأنكم أكرم على الله منهم بما فضلكم به عليهم . فيكون الكلام كله خبرا عن قول الطائفة التي قال الله عزّ وجلّ { وَقَالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمِنُوا بالّذِي أُنْزِلَ على الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهارِ } سوى قوله : { قُلْ إنّ الهُدَى هُدَى اللّهِ } ثم يكون الكلام مبتدأ بتكذيبهم في قولهم : قل يا محمد للقائلين ما قالوا من الطائفة التي وصفت لك قولها لتبّاعها من اليهود { إنّ الهُدَى هُدَى الله } إن التوفيق توفيق الله ، والبيان بيانه ، وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء ، لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود . وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها ، لأنه أصحها معنى ، وأحسنها استقامة على معنى كلام العرب ، وأشدّها اتساقا على نظم الكلام وسياقه ، وما عدا ذلك من القول ، فانتزاع يبعد من الصحة على استكراه شديد الكلام .

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : قل يا محمد لهؤلاء اليهود الذين وصفت قولهم لأوليائهم : إن الفضل بيد الله ، إن التوفيق للإيمان ، والهداية للإسلام بيد الله ، وإليه دونكم ودون سائر خلقه ، { يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } من خلقه ، يعني : يعطيه من أراد من عباده تكذيبا من الله عزّ وجلّ لهم في قولهم لتبّاعهم : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . فقال الله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : ليس ذلك إليكم ، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء كلها ، وإليه الفضل ، وبيده يعطيه من يشاء . { وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يعني : والله ذو سعة بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه عليم ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن ابن جريج ، في قوله : { قُلْ إنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مِنَ يَشاءُ } قال : الإسلام .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (73)

وقوله : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } من كلام الطائفة من أهل الكتاب قصدوا به الاحتراس ألا يظنوا من قولهم آمِنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجهَ النهار أنه إيمان حَقُّ ، فالمعنى ولا تؤمنوا إيماناً حقاً إلاّ لمن تَبع دينكم ، فأما محمد فلا تؤمنوا به لأنه لم يتبِع دينكم فهذا تعليل للنهي .

وهذا اعتذار عن إلزامهم بأنّ كتبهم بشرت بمجيء رسول مقفّ فتوهموا أنه لا يجيء إلاّ بشريعة التوراة ، وضلوا عن عدم الفائدة في مَجيئه بما في التوراة لأنه من تحصيل الحاصل ، فينزّه فعلُ الله عنه ، فالرسول الذي يجيء بعد موسى لا يكون إلاّ ناسخاً لبعض شريعة التوراة فجمعُهم بين مقالة : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } وبين مقالة : { ولا تؤمنوا } مثل { وما رميت إذ رميت } [ الأنفال : 17 ] .

وقوله : { قل إن الهدى هدى الله } كلام معترض ، أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقوله لهم . كنايةً عن استبعاد حصول اهتدائهم ، وأنّ الله لم يهدهم ، لأنّ هدى غيره أي محاولته هدى الناس لا يحصل منه المطلوب ، إذا لم يقدّره الله . فالقصر حقيقي : لأنّ ما لم يقدّره الله فهو صورة الهدى وليس بهُدى وهو مقابل قولهم : آمنوا بالذي أنزل ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم ، إذْ أرادوا صورة الإيمان ، وما هو بإيمان ، وفي هذا الجواب إظهار الاستغناء عن متابعتهم .

{ أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } .

أشكل موقعُ هذه الآية بعد سابقتها وصفَ نظمها ، ومصرَف معناها : إلى أي فريق . وقال القرطبي : إنها أشكَلُ آية في هذه السورة .

وذكر ابن عطية وجوها ثمانية . ترجع إلى احتمالين أصليين .

الاحتمال الأول أنها تكملة لمحاورة الطائفةِ من أهل الكتاب بعضهم بعضاً ، وأن جملة { قل إن الهدى هدى الله } معترضة في أثناء ذلك الحِوار ، وعلى هذا الاحتمال تأتي وجوه نقتصر منها على وجهين واضحين :

أحدهما : أنهم أرادوا تعليل قولهم : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } على أن سياق الكلام يقتضي إرادتهم استحالة نسخ شريعة التوراة ، واستحالة بعثة رسول بعد موسى ، وأنه يُقدّر لام تعليل محذوف قبل ( أنْ ) المصدرية وهو حذف شائع مثلُه . ثم إما أن يقدر حرف نفي بعد ( أنْ ) يدل عليه هذا السياق ويَقتضيه لفظ ( أحد ) المرادِ منه شمول كلّ أحد : لأنّ ذلك اللفظَ لا يستعمل مراداً منه الشمول إلاّ في سياق النفي ، ومَا في معنى النفي مثلِ استفهام الإنكار ، فأما إذا استعمل ( أحَد ) في الكلام الموجَب فإنه يكون بمعنى الوصف بالوحْدة ، وليس ذلك بمناسب في هذه الآية .

فتقدير الكلام لأن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وحذفُ حرف النفي بعد لام التعليل ، ظاهرةً ومقدّرةً ، كثيرٌ في الكلام ، ومنه قوله تعالى : { يُبين اللَّه لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] ، أي لئلاّ تضلوا .

والمعنى : أنّ قصدهم من هذا الكلام تثبيتُ أنفسهم على ملازمة دين اليهودية ، لأن اليهود لا يجوِّزون نسخَ أحكام الله ، ويتوهمون أنّ النسخ يقتضي البَدَاء .

الوجه الثاني : أنهم أرادوا إنكار أن يوتَى أحد النبوءة كما أوتيها أنبياءُ بني إسرائيل فيكون الكلام استفهاماً إنكارياً حذفت منه أداة الاستفهام لدلالة السياق ؛ ويؤيده قراءةُ ابن كثير قوله : { أن يؤتى أحد } بهمزتين .

وأما قوله : أو يحَاجوكم عندَ ربكم فحَرْف ( أو ) فيه للتقسيم مثل { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } [ الإنسان : 24 ] ( أو ) معطوف على النفي ، أو على الاستفهام الإنكاري : على اختلاف التقديرين ، والمعنى : ولا يحاجوكم عند ربكم أو وكيف يحاجونكم عند ربكم ، أي لا حجة لهم عليكم عند الله .

وواو الجمع في { يحاجوكم } ضمير عائد إلى ( أحد ) لدلالته على العموم في سياق النفي أو الإنكار .

وفائدة الاعتراض في أثناء كلامهم المبادرة بما يفيد ضلالهم لأنّ الله حرمهم التوفيق .

الاحتمال الثاني أن تكون الجملة مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقوله لهم بقيةً لقوله : « إنّ الهُدى هُدى الله » .

والكلام على هذا ردّ على قولهم : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } وقولهم { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } على طريقة اللفّ والنشر المعكوس ، فقوله : { أن يأتى أحد مثل ما أوتيتم } إبطال لقولهم : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أي قلتم ذلك حسَداً من أنْ يؤتي أحدٌ مثلَ ما أوتيتم وقوله : { أو يحاجوكم } ردّ لقولهم : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } على طريقة التهكم ، أي مرادكم التنصّل من أن يحاجوكم أي الذين آمنوا عند الله يوم القيامة ، فجمعتم بين الإيمان بما آمن به المسلمون ، حتى إذا كان لهم الفوز يوم القيامة لا يحاجونكم عند الله بأنكم كافرون ، وإذا كان الفوز لكم كنتم قد أخذتم بالحَزم إذ لم تبطلوا دين اليهودية ، وعلى هذا فواو الجماعة في قوله : { أو يحاجوكم } عائد إلى الذين آمنوا .

وهذا الاحتمال أنسب نظماً بقوله تعالى : { قل إن الفضل بيد اللَّه } ، ليكون لِكلّ كلام حُكي عنهم تلقينُ جوابٍ عنه : فجواب قولهم : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } الآية ، قولُه : { قل إن الهدى هدى الله } . وجواب قولهم : { ولا تؤمنوا } إلخ قولُه : قل إنّ الفضل بيد الله إلخ . فهذا مِلاك الوجوه ، ولا نطيل باستيعابها إذْ ليس من غرضنا في هذا التفسير .

وكلمة { أحد } اسم نكرة غلب استعمالها في سياق النفي ومعناها شخص أو إنسان وهو معدود من الأسماء التي لا تقع إلاّ في حيّز النفي فيفيد العموم مثل عَرِيب ودَيَّار ونحوهما وندر وقوعه في حيّز الإيجاب ، وهمزته مبدلة من الواو وأصلَه وَحَد بمعنى واحد ويرد وصفاً بمعنى واحد .

وقرأ الجمهور { أن يُؤتَى أحد } بهمزة واحدة هي جزء من حرف ( أنْ ) . وقرأه ابن كثير بهمزتين مفتوحتين أولاهما همزة استفهام والثانية جزء من حرف ( أنْ ) وسهل الهمزة الثانية .

{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله }

زيادة تذكير لهم وإبطال لإحالتهم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً من الله ، وتذكير لهم على طرح الحسد على نعم الله تعالى أي كما أعطى الله الرسالة موسى كذلك أعطاها محمداً ، وهذا كقوله تعالى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } [ النساء : 54 ] .

وتأكيد الكلام ب ( إنّ ) لتنزيلهم منزلة من ينكر أنّ الفضل بيد الله ومن يحسب أنّ الفضل تبع لشهواتهم وجملة { والله واسع عليم } عطف على جملة أنّ الفضل بيد الله إلخ أي أنّ الفضل بيد الله وهو لاَ يخفى عليه من هو أهل لنوال فضله .

و { واسع } اسم فاعل الموصوف بالسعة .

وحقيقة السعة امتداد فضاء الحَيِّز من مكانٍ أو ظرفٍ امتداداً يكفي لإيواء ما يحويه ذلك الحيز بدون تزاحم ولا تداخل بين أجزاء المحويّ ، يقال أرض واسعة وإناء واسع وثوب واسع ، ويطلق الاتساع وما يشتقّ منه على وفاء شيء بالعمل الذي يعملَه نوعُه دون مشقة يقال : فلان واسع البال ، وواسع الصدر ، وواسع العطاء . وواسعِ الخُلُق ، فتدلّ على شدّةِ أو كثرةِ ما يسند إليه أو يوصف به أو يعلق به من أشياء ومعانٍ ، وشاع ذلك حتى صار معنى ثانياً .

و { وَاسع } من صفات الله وأسمائِه الحسنى وهو بالمعنى المجازي لا محالة لاستحالة المعنى الحقيقي في شأنه تعالى ، ومعنى هذا الاسم عدمُ تناهي التعلقات لصفاته ذاتتِ التعلق فهو واسع العلم ، واسع الرحمة ، واسع العطاء ، فسعة صفاته تعالى أنها لا حدّ لتعلقاتها ، فهو أحقّ الموجودات بوصف واسع ، لأنه الواسع المطلق .

وإسناد وصف واسع إلى اسمه تعالى إسناد مجازي أيضاً لأنّ الواسع صفاتُه ولذلك يُؤتَى بعد هذا الوصف أو ما في معناه من فعل السعة بما يميز جهة السعة من تمييز نحو : وَسِع كل شيء علماً ، ربنا وسعت كلّ شيء رحمةً وعلماً . فوصفه في هذه الآية بأنه واسع هو سعة الفضل لأنه وقع تذييلاً لقوله : ذلكَ فضل الله يؤتيه من يشاء .

وأحسب أنّ وصف الله بصفة واسع في العربية من مبتكرات القرآن .

وقوله : { عليم } صفة ثانية بقوة علمه أي كثرة متعلّقات صفة علمه تعالى .

ووصفه بأنه عليم هنا لإفادة أنه عليم بمن يستأهل أن يؤتيه فضلَه ويدل على علمه بذلك ما يظهر من آثار إرادته وقدرته الجارية على وفق علمه متى ظهر للناس ما أودعه الله من فضائل في بعض خلقه ، قال تعالى : { اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] .