في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

26

فرد عليهم القرآن مستنكراً هذا الاعتراض على رحمة الله ، التي يختار لها من عباده من يشاء ؛ وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء ؛ مبيناً لهم عن حقيقة القيم التي يعتزون بها ، ووزنها الصحيح في ميزان الله :

( أهم يقسمون رحمة ربك ? نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون ) . .

أهم يقسمون رحمة ربك ? يا عجباً ! وما لهم هم ورحمة ربك ? وهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ، ولا يحققون لأنفسهم رزقاً حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه ؛ وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة .

( نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ) . .

ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد ، وظروف الحياة ، وعلاقات المجتمع . وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها . تختلف من بيئة لبيئة ، ومن عصر لعصر ، ومن مجتمع لمجتمع ، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها . ولكن السمة الباقية فيه ، والتي لم تتخلف أبداً - حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع - أنه متفاوت بين الأفراد .

وتختلف اسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم . ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبداً . ولم يقع يوماً - حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة - أن تساوي جميع الأفراد في هذا الرزق أبداً : ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) . .

والحكمة في هذا التفاوت الملحوظ في جميع العصور ، وجميع البيئات ، وجميع المجتمعات هي :

( ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ) . .

ليسخر بعضهم بعضاً . . ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتما . وليس التسخير هو الاستعلاء . . استعلاء طبقة على طبقة ، أو استعلاء فرد على فرد . . كلا ! إن هذا معنى قريب ساذج ، لا يرتفع إلى مستوى القول الإلهي الخالد . كلا ! إن مدلول هذا القول أبقى من كل تغير أو تطور في أوضاع الجماعة البشرية ؛ وأبعد مدى من ظرف يذهب وظرف يجيء . . إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض . ودولاب الحياة يدور بالجميع ، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع وفي كل ظرف . المقدر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق . والعكس كذلك صحيح . فهذا مسخر ليجمع المال ، فيأكل منه ويرتزق ذاك . وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء . والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك ، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة . . العامل مسخر للمهندس ومسخر لصاحب العمل . والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل . وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على السواء . . وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات ، والتفاوت في الأعمال والأرزاق . .

وأحسب أن كثيرين من دعاة المذاهب الموجهة يتخذون من هذه الآية موضع هجوم على الإسلام ونظمه الاجتماعية والاقتصادية . وأحسب أن بعض المسلمين يقفون يجمجمون أمام هذا النص ، كأنما يدفعون عن الإسلام تهمة تقرير الفوارق في الرزق بين الناس ، وتهمة تقرير أن الناس يتفاوتون في الرزق ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً !

وأحسب أنه قد آن لأهل الإسلام أن يقفوا بإسلامهم مواجهة وصراحة موقف الاستعلاء المطلق ، لا موقف الدفاع أمام اتهام تافه ! إن الإسلام يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود ؛ الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع .

وطبيعة هذه الحياة البشرية قائمة على أساس التفاوت في مواهب الأفراد والتفاوت فيما يمكن أن يؤديه كل فرد من عمل ؛ والتفاوت في مدى اتقان هذا العمل . وهذا التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة للخلافة في هذه الأرض . ولو كان جميع الناس نسخاً مكرورة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض بهذه الصورة . ولبقيت أعمال كثيرة جداً لا تجد لها مقابلاً من الكفايات ، ولا تجد من يقوم بها - والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو ، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها . وعن هذا التفاوت في الأدوار يتفاوت الرزق . . هذه هي القاعدة . . أما نسبة التفاوت في الرزق فقد تختلف من مجتمع إلى مجتمع ، ومن نظام إلى نظام . ولكنها لا تنفي القاعدة الفطرية المتناسقة مع طبيعة الحياة الضرورية لنمو الحياة . ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب المصطنعة المتكلفة أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس ، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد . على شدة ما حاولوا أن يحققوا مذهبهم . وهزموا أمام الناموس الإلهي الذي تقرره هذه الآية من كلام الله . وهي تكشف عن سنة ثابتة من سنن الحياة .

ذلك شأن الرزق والمعاش في هذه الحياة الدنيا . ووراء ذلك رحمة الله :

( ورحمة ربك خير مما يجمعون ) . .

والله يختار لها من يشاء ، ممن يعلم أنهم لها أهل . ولا علاقة بينها وبين عرض الحياة الدنيا ؛ ولا صلة لها بقيم هذه الحياة الدنيا . فهذه القيم عند الله زهيدة زهيدة . ومن ثم يشترك فيها الأبرار والفجار ، وينالها الصالحون والطالحون . بينما يختص برحمته المختارين .

وإن قيم هذه الأرض لمن الزهادة والرخص بحيث - لو شاء الله - لأغدقها إغداقاً على الكافرين به . ذلك إلا أن تكون فتنة للناس ، تصدهم عن الإيمان بالله :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

قال الله تعالى رادا عليهم في هذا الاعتراض : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } ؟ أي : ليس الأمر مردودا إليهم ، بل إلى الله ، عز وجل ، والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلبا ونفسا ، وأشرفهم بيتا وأطهرهم أصلا .

ثم قال تعالى مبينا أنه قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم ، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة ، فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ }

وقوله : { لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } قيل : معناه ليسخر{[26027]} بعضهم بعضا في الأعمال ، لاحتياج هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، قاله السدي وغيره .

وقال قتادة والضحاك : ليملك بعضهم بعضا . وهو{[26028]} راجع إلى الأول .

ثم قال : { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } أي : رحمة الله بخلقه خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا .


[26027]:- (3) في أ: "لتسخير".
[26028]:- (4) في ت، أ: "وهذا".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

وقوله : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ يقول تعالى ذكره : أهؤلاء القائلون : لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم يا محمد ، يقسمون رحمة ربك بين خلقه ، فيجعلون كرامته لمن شاؤوا ، وفضله لمن أرادوا ، أم الله الذي يقسم ذلك ، فيعطه من أحبّ ، ويحرمه مَنْ شاء ؟ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي رَوْق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما بعث الله محمدا رسولاً ، أنكرت العرب ذلك ، ومن أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ : أكانَ للنّاسِ عَجَبا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُل مِنْهُمْ أنْ أَنْذِر النّاسَ وقال وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ ، فاسْئَلُوا أهْلَ الذّكْرِ يعني : أهل الكتب الماضية ، أبشرا كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أتتكم ، وإن كانوا بشرا فلا تنكرون أن يكون محمد رسولاً : قال : ثم قال : وَما أرْسَلَنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أهْلِ القُرَى : أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم قال : فلما كرّر الله عليهم الحجج قالوا ، وإذ كان بشرا فغير محمد كان أحقّ بالرسالة فلَوْلا نُزّلَ هَذَا القُرآنَ على رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يقولون : أشرف من محمد صلى الله عليه وسلم ، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان يسمى ريحانة قريش ، هذا من مكة ، ومسعود بن عمرو بن عبيد الله الثقفي من أهل الطائف ، قال : يقول الله عزّ وجلّ ردّا عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ أنا أفعل ما شئت .

وقوله : نَحْن قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا يقول تعالى ذكره : بل نحن نقسم رحمتنا وكرامتنا بين من شئنا من خلقنا ، فنجعل من شئنا رسولاً ، ومن أردنا صدّيقا ، ونتخذ من أردنا خليلاً ، كما قسمنا بينهم معيشتهم التي يعيشون بها في حياتهم الدنيا من الأرزاق والأقوات ، فجعلنا بعضهم فيها أرفع من بعض درجة ، بل جعلنا هذا غنيا ، وهذا فقيرا ، وهذا ملكا ، وهذا مملوكا لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : قال الله تبارك وتعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا فتلقاه ضعيف الحيلة ، عيي اللسان ، وهو مبسوط له في الرزق ، وتلقاه شديد الحيلة ، سليط اللسان ، وهو مقتور عليه ، قال الله جلّ ثناؤه : نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الحَياةِ الدّنيْا كما قسم بينهم صورهم وأخلاقهم تبارك ربنا وتعالى .

وقوله : لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا يقول : ليستسخر هذا هذا في خدمته إياه ، وفي عود هذا على هذا بما في يديه من فضل ، يقول : جعل تعالى ذكره بعضا لبعض سببا في المعاش في الدنيا .

وقد اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله : لِيتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا فقال بعضهم : معناه ما قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا قال : يستخدم بعضهم بعضا في السخرة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا قال : هم بنو آدم جميعا ، قال : وهذا عبد هذا ، ورفع هذا على هذا درجة ، فهو يسخره بالعمل ، يستعمله به ، كما يقال : سخر فلان فلانا .

وقال بعضهم : بل عنى بذلك : ليملك بعضهم بعضا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، في قوله : لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا يعني بذلك : العبيد والخدم سخر لهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضا سُخْرِيّا مِلْكة .

وقوله : وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يقول تعالى ذكره : ورحمة ربك يا محمد بإدخالهم الجنة خير لهم مما يجمعون من الأموال في الدنيا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ يعني الجنة .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وَرَحْمَةُ رَبّكَ يقول : الجنة خير مما يجمعون في الدنيا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

{ أهم يقسمون رحمت ربك } إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم ، والمراد بالرحمة النبوة . { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا } وهو عاجزون عن تدبيرها وهي خويصة أمرهم في دنياهم ، فمن أين لهم أن يدبروا أمر النبوة التي هي أعلى المراتب الإنسية ، وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله . { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } وأوقعنا بينهم التفاوت في الرزق وغيره . { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } ليستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف وتضام ينتظم بذلك نظام العالم ، لا لكمال في الموسع ولا لنقص في المقتر ، ثم إنه لا اعتراض لهم علينا في ذلك ولا تصرف فكيف يكون فيما هو أعلى منه . { ورحمت ربك } يعني هذه النبوة وما يتبعها . { خير مما يجمعون } من حطام الدنيا والعظيم من رزق منها لا منه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

ثم وقف تعالى –على جهة التوبيخ لهم- بقوله : ( أهم يقسمون رحمة ربك ) ، المعنى : أعلى اختيارهم وإرادتهم تنقسم الفضائل والمكانة عند الله تعالى ؟ و " الرَّحمةُ " اسم يعُمُّ جميع هذا ، ثم أخبر تعالى خبرا جازما بأنه تعالى قاسم المعايش والدرجات في الدنيا ليسخر بعض الناس بعضا ، المعنى : فإذا كان اهتمامنا بهم أن نقسم هذا الحقير الفاني فالأحرى أن نقسم الأهمّ الخطير ، وفي قوله تعالى : ( نحن قسمنا بينهم معيشتهم ) تزهيد في السعايات ، وعون على التوكل على الله تعالى ، ولله درّ القائل :

لمّا أتى " نحن قسمنا بينهم " زار المِرا( {[10199]} )

وقرأ الجمهور : [ مَعِشَتَهُمْ ] ، وقرأ ابن مسعود ، والأعمش : [ مَعَايِشَهُمْ ] . وقرأ جمهور الناس : [ سُخْرِيّاً ] بضم السين ، وقرأ أبو رجاء ، وابن محيصن : [ سِخْرِيّاً ] بكسر السين ، وهما لغتان في معنى التسخير ، ولا مدخل لمعنى الهُزْءِ في هذه الآية .

وقوله تعالى : ( ورحمتُ ربّك خير مما يجمعون ) ، قال قتادة ، والسدي يعني الجنة .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

لاشك أن الجنة هي الغاية ، ورحمة الله تبارك وتعالى في الدنيا بالهداية والإيمان خير من كل مال ، وهذا اللفظ تحقير للدنيا ،


[10199]:- المِراءُ: الشك والريب، ويترتب عليهما الجدال.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ} (32)

إنكار عليهم قولهم { لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] ، فإنهم لما نصبوا أنفسهم منصب من يتخير أصناف النّاس للرسالة عن الله ، فقد جعلوا لأنفسهم ذلك لا لله ، فكان من مقتضَى قولهم أن الاصطفاء للرسالة بيدهم ، فلذلك قُدّم ضمير { هُمْ } المجعول مسنداً إليه ، على مسندٍ فعلي ليفيد معنى الاختصاص فسلط الإنكار على هذا الحصر إبطالاً لقولهم وتخطئة لهم في تحكمهم .

ولما كان الاصطفاء للرسالة رحمة لمن يُصطفَى لها ورحمة للنّاس المرسل إليهم ، جعل تحكمهم في ذلك قسمة منهم لرحمة الله باختيارهم من يُختار لها وتعيين المتأهل لإبلاغها إلى المرحومين .

ووُجِّه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأضيف لفظ ( الرب ) إلى ضميره إيماء إلى أن الله مؤيده تأنيساً له ، لأن قولهم : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] قصدوا منه الاستخفاف به ، فرفع الله شأنه بإبلاغ الإنكار عليهم بالإقبال عليه بالخطاب وبإظهار أن الله ربّه ، أي متولي أمره وتدبيره .

وجملة { نحن قسمنا بينهم معيشتهم } تعليل للإنكار والنفي المستفاد منه ، واستدلال عليه ، أي لما قسمنا بين النّاس معيشتهم فكانوا مسيَّرين في أمورهم على نحو ما هيّأنا لهم من نظام الحياة وكان تدبير ذلك لله تعالى ببالغ حكمته ، فجَعل منهم أقوياء وضعفاء ، وأغنياء ومحاويج ، فسخر بعضهم لبعض في أشغالهم على حساب دواعي حاجة الحياة ، ورفع بذلك بعضهم فوق بعض ، وجعل بعضهم محتاجاً إلى بعض ومُسخّراً به . فإذا كانوا بهذه المثابة في تدبير المعيشة الدّنيا ، فكذلك الحال في إقامة بعضهم دون بعض للتبليغ فإن ذلك أعظم شؤون البشر . فهذا وجه الاستدلال .

والسخريّ بضم السين وبكسرها وهما لغتان ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم السين . وقرأ ابن محيص في الشاذّ بكسر السين : اسم للشيء المسخر ، أي المجبور على عمللٍ بدون اختياره ، واسمٌ لمن يُسْخَر به ، أي يستهزأ به كما في « مفردات » الراغب و« الأساس » و« القاموس » . وقد فُسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي . وقال ابن عطية : هما لغتان في معنى التسخير ولا تدخُّلَ لمعنى الهُزء في هذه الآية . ولم يَقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل . واقتصر الطبري على معنى التسخير . فالوجه في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية . وإيثار لفظ { سخرياً } في الآية دون غيره لتحمُّله للمعنيين وهو اختيار من وجوه الإعجاز فيجوز أن يكون المعنى ليتعمل بعضهم بعضاً في شؤون حياتهم فإن الإنسان مدني ، أي محتاج إلى إعانة بعضه بعضاً ، وعليه فسّر الزمخشري وابن عطية وقاله السُّدي وقتادة والضحاك وابن زيد ، فلام { ليتخذ } لام التعليل تعليلاً لفعل { قسمنا } ، أي قسمنا بينهم معيشتهم ، أي أسبابَ معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن .

وعلى هذا يكون قوله : { بعضهم بعضاً } عاماً في كل بعض من النّاس إذ ما من أحد إلا وهو مستعمِل لغيره وهو مستعمَل لغيرٍ آخر .

ويجوز أن تكون اسماً من السُّخرية وهي الاستهزاء . وحكاه القرطبي ولم يعيّن قائله وبذلك تكون اللام للعاقبة مثل { فالتقطة آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحَزَناً } [ القصص : 8 ] وهو على هذا تعريض بالمشركين الذين استهزؤوا بالمؤمنين كقوله تعالى : { فاتّخذتموهم سُخْريّاً } في سورة قد أفلح المؤمنون ( 110 ) . وقد جاء لفظ السخري بمعنى الاستهزاء في آيات أخرى كقوله تعالى : { فاتّخذتموهم سخريّاً حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون } [ المؤمنون : 110 ] وقوله : { أتَّخَذْناهم سُخرياً أم زاغت عنهم الأبصار } [ ص : 63 ] . ولعل الذي عدل ببعض المفسرين عن تفسير آية سورة الزخرف بهذا المعنى استنكارُهم أن يكون اتخاذُ بعضهم لبعض مَسخرة علةً لفعل الله تعالى في رفعه بعضهم فوق بعض درجات ، ولكنَّ تأويل اللّفظ واسع في نظائره وأشباهه . وتأويل معنى اللام ظاهر .

وجملة { ورحمة ربك خير مما يجمعون } تذييل للرد عليهم ، وفي هذا التذييل ردّ ثاننٍ عليهم بأن المال الذي جعلوه عماد الاصطفاء للرسالة هو أقل من رحمة الله فهي خير مما يجمعون من المال الذي جعلوه سبب التفضيل حين قالوا : { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] فإن المال شيء جَمَعه صاحبه لنفسه فلا يكون مثل اصطفاء الله العبد ليرسله إلى النّاس .

ورحمة الله : هي اصطفاؤه عبدَه للرسالة عنه إلى الناس ، وهي التي في قوله : أهم يقسمون رحمة ربك } ، والمعنى : إذا كانوا غير قاسمين أقل أحوالهم فكيف يقسمون ما هو خير من أهم أمورهم .