في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (120)

93

والله سبحانه يقول :

( إن تمسسكم حسنة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) . .

ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة ، ولكننا لا نفيق . . ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر . ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله

المسلمون ، ولا تغلسها سماحة يعلمها لهم الدين . . ومع ذلك نعود ، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق ! . . وتبلغ بنا المجاملة ، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها ، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام ، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين ! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله . ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي . ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا ، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا . .

وها هو ذا كتاب الله يعلمنا - كما علم الجماعة المسلمة الأولى - كيف نتقي كيدهم ، وندفع أذاهم ، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم ، ويفلت على السنتهم منه شواظ :

( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا . إن الله بما يعملون محيط ) . .

فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء ؛ وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع . الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل ؛ ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول . . ثم هو التقوى : الخوف من الله وحده . ومراقبته وحده . . هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله ، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه ، ولا تعتصم بحبل إلا حبله . . وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته ؛ وستشد هذه الرابطة من عزيمته ، فلا يستسلم من قريب ، ولا يواد من حاد الله ورسوله ، طلبا للنجاة أو كسبا للعزة !

هذا هو الطريق : الصبر والتقوى . . التماسك والاعتصام بحبل الله . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها ، وحققوا منهج الله في حياتهم كلها . . إلا عزوا وانتصروا ، ووقاهم الله كيد أعدائهم ، وكانت كلمتهم هي العليا . وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين ، الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سرا وجهرا ، واستمعوا إلى مشورتهم ، واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعوانا وخبراء ومستشارين . . إلا كتب الله عليهم الهزيمة ، ومكن لأعدائهم فيهم ، وأذل رقابهم ، وأذاقهم وبال أمرهم . . والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة ؛ وأن سنة الله نافذة . فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض ، فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والإنكسار والهوان . .

بهذا ينتهي هذا الدرس ؛ وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة . وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة ؛ وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة .

ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى ، عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء . فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء . ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها . إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم ، وللكينونة المسلمة . . مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون . . أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا ؛ وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعا ؛ وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعا ؛ يتقي الكيد ولكنه لا يكيد ، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد . إلا أن يحارب في دينه ، وأن يفتن في عقيدته ، وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه . فحينئذ هو مطالب أن يحارب ، وأن يمنع الفتنة ، وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله ، وعن تحقيق منهجه في الحياة . يحارب جهادا في سبيل الله لا انتقاما لذاته . وحبا لخير البشر لا حقدا على الذين آذوه . وتحطيما للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس . لا حبا للغلب والاستعلاء والاستغلال . . وإقامة للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام . لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية !

هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة ؛ ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى ، وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص .

إن هذا المنهج خير . وما يصد البشرية عنه إلا أعدى أعداء البشرية . الذين ينبغي لها أن تطاردهم ، حتى تقصيهم عن قيادتها . . وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة ، فأدته مرة خير ما يكون الأداء . وهي مدعوة دائما إلى أدائه ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة . . تحت هذا اللواء . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (120)

ثم قال : { إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } وهذه الحال دالة{[5608]} على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه{[5609]} إذا أصاب المؤمنين خصب ، ونصر وتأييد ، وكثروا وعزّ أنصارهم ، ساء ذلك المنافقين ، وإن أصاب المسلمين سَنَة{[5610]} - أي : جَدْب - أو أُديل عليهم الأعداء ، لما لله في ذلك من الحكمة ، كما جرى يوم أُحُد ، فَرح المنافقون بذلك ، قال الله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [ إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ]{[5611]} } يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكَيْدِ الفُجّار ، باستعمال الصبر والتقوى ، والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم ، فلا حول ولا قوة لهم إلا به ، وهو الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ، ومن توكل عليه كفاه .


[5608]:في جـ، ر، أ، و: "وهذا الحال دال".
[5609]:في جـ، ر، أ، و: "أنهم".
[5610]:في أ، و: "المؤمنين سيئة إما".
[5611]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (120)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتّقُواْ لاَ يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ }

يعني بقوله تعالى ذكره : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } إنْ تَنالُوا أيها المؤمنون سرورا بظهوركم على عدوّكم ، وتتابع الناس في الدخول في دينكم ، وتصديق نبيكم ، ومعاونتكم على أعدائكم ، يسؤهم . وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم ، أو بإصابة عدوّ لكم منكم ، أو اختلاف يكون بين جماعتكم يفرحوا بها . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } ، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورا على عدوّهم ، غاظهم ذلك وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرّهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به ، فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته ، وأبطل حجته ، وأظهر عورته ، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة .

حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها } قال : هم المنافقون إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورا على عدوّهم ، غاظهم ذلك غيظا شديدا وساءهم ، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا ، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين ، سرّهم ذلك وأعجبوا به¹ قال الله عزّ وجلّ : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا إنّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } قال : إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك ، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافا فرحوا .

وأما قوله : { وَإنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا } فإنه يعني بذلك جلّ ثناؤه : وإن تصبروا أيها المؤمنون على طاعة الله ، واتباع أمره فيما أمركم به ، واجتناب ما نهاكم عنه ، من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين ، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ، وتتقوا ربكم ، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم ، وأوجب عليكم من حقه وحقّ رسوله ، لا يضرّكم كيدهم شيئا : أي كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم . ويعني بكيدهم : غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحقّ .

واختلف القراء في قراءة قوله : { لا يَضُرّكُمْ } فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعض البصريين : «لا يَضِرْكُمْ » مخففة بكسر الضاد من قول القائل : ضارني فلان فهو يضيرني ضَيْرا ، وقد حكي سماعا من العرب : ما ينفعني ولا يضورني . فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل : لا يضركم كيدهم شيئا ، ولكني لا أعلم أحدا قرأ به ، وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قراء أهل الكوفة : { لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا } بضم الضاد وتشديد الراء من قول القائل : ضرّني فلان فهو يضرّني ضرّا .

وأما الرفع في قوله : { لا يَضُرّكُمْ } فمن وجهين : أحدهما على إتباع الراء في حركتها ، إذ كان الأصل فيها الجزم ، ولم يمكن جزمها لتشديدها أقرب حركات الحروف التي قبلها ، وذلك حركة الضاد ، وهي الضمة ، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها ، كما قالوا : مُدّ يا هذا . والوجه الاَخر من وجهي الرفع في ذلك : أن تكون مرفوعة على صحة ، وتكون «لا » بمعنى «ليس » ، وتكون الفاء التي هي جواب الجزاء متروكة لعلم السامع بموضعها . وإذا كان ذلك معناه ، كان تأويل الكلام : وإن تصبروا وتتقوا فليس يضرّكم كيدهم شيئا ، ثم تركت الفاء من قوله : { لا يَضُرّكُمْ كَيْدُهُمْ } ووجهت «لا » إلى معنى «ليس » ، كما قال الشاعر :

فإنْ كانَ لا يُرْضِيكَ حتى تَرُدّنِي *** إلى قَطَرِيّ لا إخالُكَ رَاضِيا

ولو كانت الراء محركة إلى النصب والخفض كان جائزا ، كما قيل : مُدّ يا هذا ، ومُدّ .

وقوله : { إنّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } يقول جل ثناؤه : إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله والعداوة لأهل دينه وغير ذلك من معاصي الله ، محيط بجميعه ، حافظ له لا يعزب عنه شيء منه ، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله ويذيقهم عقوبته عليه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (120)

{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسدوا ما نالهم من خير ومنفعة ، وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة ، والمس مستعار للإصابة { وإن تصبروا } على عداوتهم ، أو على مشاق التكاليف . { وتتقوا } موالاتهم ، أو ما حرم الله جل جلاله عليكم . { لا يضركم كيدهم شيئا } بفضل الله عز وجل وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد في الأمر ، المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريا على الخصم ، وضمه الراء للاتباع كضمه مد . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب { لا يضركم } من ضاره يضيره . { إن الله بما يعملون } من الصبر والتقوى وغيرهما . { محيط } أي محيط علمه فيجازيكم مما أنتم أهله . وقرئ بالياء أي { بما يعملون } ، في عداوتكم عليم فيعاقبهم عليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٞ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٞ يَفۡرَحُواْ بِهَاۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّكُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔاۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ مُحِيطٞ} (120)

«الحسنة والسيئة » في هذه الآية لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء ، وما ذكر المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم وغير ذلك من الأقوال ، فإنما هي أمثلة وليس ذلك باختلاف وذكر تعالى «المس في الحسنة » ليبين أن بأدنى طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك بالسيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن ، لأن الشيء المصيب لشيء فهو متمكن منه أو فيه ، فدل هذا المنزع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين ، وهكذا هي عداوة الحسد في الأغلب ، ولا سيما في مثل هذا الأمر الجسيم الذي هو ملاك الدنيا والآخرة وقد قال الشاعر : [ البسيط ]

كلٌّ العداوةِ قَدْ تُرجى إزالَتُها . . . إلاّ عداوةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ{[3468]}

ولما قرر تعالى هذا الحال لهؤلاء المذكورين ، ووجبت الآية أن يعتقدهم المؤمنون بهذه الصفة ، جاء قوله تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم ، وشرط ذلك بالصبر والتقوى ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : «لا يضِرْكم » بكسر الضاد وجزم الراء وهو من ضار يضير بمعنى ضر يضر وهي لغة فصيحة ، وحكى الكسائي : ضار يضور ، ولم يقرأ على هذه اللغة ، ومن ضار يضير في كتاب الله { لا ضير }{[3469]} ومنه قول أبي ذؤيب الهذلى :

فَقِيلَ تَحْمَّلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إنّها . . . مُطَبَّعَةٌ مَنْ يأتِها لا يَضِيرُها{[3470]}

يصف مدينة ، والمعنى فليس يضيرها ، وفي هذا النفي المقدر بالفاء هو جواب الشرط ، ومن اللفظ قول توبة بن الحمير :

وَقالَ أُنَاسٌ لا يُضِيرُكَ نَأْيُها . . . بَلَى كلُّ ما شقَّ النُّفوسَ يَضِيرُها{[3471]}

وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي : «لا يضُرُّكم » بضم الضاد والراء والتشديد في الراء ، وهذا من ضر يضر ، وروي عن حمزة مثل قراءة أبي عمرو ، وأما إعراب هذه القراءة فجزم ، وضمت الراء للالتقاء ، وهو اختيار سيبويه في مثل هذا إتباعاً لضمة الضاد ، ويجوز فتح الراء وكسرها مع إرادة الجزم ، فما الكسر فلا أعرفها قراءة ، وعبارة الزجّاج في هذا متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة ، وأما فتح الراء من قوله «لا يضرَّكم » فقرأ به عاصم فيما رواه أبو زيد عن المفضل عنه ، ويجوز أيضاً أن يكون إعراب قوله ، «لا يضركم » ، رفعاً إما على تقدير ، فليس يضركم ، على نحو تقدم في بيت أبي ذؤيب ، وإما على نية التقدم على «وإن تصبروا » كما قال [ جرير بن عبد الله ] : [ الرجز ]

يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقْرَعُ . . . إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أَخْوكَ تُصْرَعُ{[3472]}

المراد أنك تصرع ، وقرأ أبي بن كعب : «لا يضرركم » براءين وذلك على فك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز وعليها تعالى في الآية { إن تمسسكم } ولغة سائر العرب الإدغام في مثل هذا كله ، و «الكيد » الاحتيال بالأباطيل وقوله تعالى : { وأكيد كيداً }{[3473]} إنما هي تسمية العقوبة باسم الذنب ، وقوله تعالى : { إن الله بما يعملون محيط } وعيد ، والمعنى محيط جزاؤه وعقابه وبالقدرة والسلطان ، وقرأ الحسن : «بما تعملون » بالتاء ، وهذا إما على توعد المؤمنين في اتخاذ هؤلاء بطانة ، وإما على توعد هؤلاء المنافقين بتقدير : قل لهم يا محمد .


[3468]:- لم نعثر على قائل البيت فيما لدينا من المراجع، وورد في "العقد الفريد لابن عبد ربه 2/320" أن عبد الله بن المبارك المروزي كتب إلى علي بن بشر المروزي: كل العداوة قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد فإن في القلب منها عقدة عقدت وليس يفتحها راق إلى الأبد إلا إله فإن يرحم تحل به وإن أباه فلا ترجوه من أحد
[3469]:- من قوله تعالى في الآية (50) من سورة الشعراء: [قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون].
[3470]:- تحمل: الخطاب للبختي في البيت قبله، والبختي: واحد البخث، أو البختية وهي الإبل الخراسانية، والبيت هو: وما حمل البختي عام غياره عليه الوسوق برها وشعيرها والطوق: الطاقة. ومطبقة: مملوءة طعاما والضمير في إنها –للقرية المذكورة في قوله: أتى قرية كانت كثيرا طعامها كرفع التراب كل شيء يميرها "الأغاني" و "الشعر والشعراء 2/549".
[3471]:- هو توبة بن الحمير بن حزم بن كعب أحد بني عقيل شاعر إسلامي وأحد عشاق العرب المشهورين، وصاحبته ليلى الأخيلية، كان يقول الأشعار فيها ولا يراها إلا متبرقعة، فأتاها يوما وقد سفرت فأنكر ذلك، وعلم أنها لم تسفر إلا لأمر حدث...فأنشأ القصيدة التي منها البيت ومطلعها: وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت فقد رابني منها الغداة سفورها الشعر والشعراء 1/356". الضير: الضر، والنأي: البعد، وشف النفوس: أي آذاها. والمعنى: يقول أناس إن الفراق والبعد لا يضرك، فقلت: بلى- كل ما يؤذي النفس يضرها ولا ينفعها. "معلق الحماسة" 2/125".
[3472]:- البيت من الرجز، وقائله الصحابي جرير بن عبد الله البجلي، وسببه أنه نافر رجلا من اليمن إلى الأقرع بن حابس حكم العرب فقال: يا أقرع... ويصرع: معناه: يطرح. "شواهد ابن عقيل".
[3473]:- الآية 16 من سورة الطارق.