وبعد تلك الإشارة إلى الإنعام بمنة العلم على داود وسليمان ، وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها وقيمتها يفرد سليمان بالحديث :
( وورث سليمان داود . وقال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شيء . إن هذا لهو الفضل المبين ) . .
وداود أوتي الملك مع النبوة والعلم . ولكن الملك لا يذكر في صدد الحديث عن نعمة الله عليه وعلى سليمان . إنما يذكر العلم . لأن الملك أصغر من أن يذكر في هذا المجال !
( وورث سليمان داود )والمفهوم أنها وراثة العلم ، لأنه هو القيمة العليا التي تستأهل الذكر . ويؤكد هذا إعلان سليمان في الناس : ( قال : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، وأوتينا من كل شيء ) . . فيظهر ما علمه من منطق الطير ويجمل بقية النعم مع إسنادها إلى المصدر الذي علمه منطق الطير . وليس هو داود . فهو لم يرث هذا عن أبيه . وكذلك ما أوتيه من كل شيء إنما جاءه من حيث جاءه ذلك التعليم .
( يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ) . . يذيعها سليمان - عليه السلام - في الناس تحدثا بنعمة الله ، وإظهارا لفضله ، لا مباهاة ولا تنفجا على الناس . ويعقب عليها ( إن هذا لهو الفضل المبين )فضل الله الكاشف عن مصدره ، الدال على صاحبه . فما يملك تعليم منطق الطير لبشر إلا الله . وكذلك لا يؤتي أحدا من كل شيء - بهذا التعميم - إلا الله .
وللطيور والحيوان والحشرات وسائل للتفاهم - هي لغاتها ومنطقها - فيما بينها . والله سبحانه خالق هذه العوالم يقول : ( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم )ولا تكون أمما حتى تكون لها روابط معينة تحيا بها ، ووسائل معينة للتفاهم فيما بينها . و ذلك ملحوظ في حياة أنواع كثيرة من الطيور والحيوان والحشرات . ويجتهد علماء هذه الأنواع في إدراك شيء من لغاتها ووسائل التفاهم بينها عن طريق الحدس والظن لا عن الجزم واليقين . فأما ما وهبه الله لسليمان - عليه السلام - فكان شأنا خاصا به على طريق الخارقة التي تخالف مألوف البشر . لا على طريق المحاولة منه والاجتهاد لتفهم وسائل الطير وغيره في التفاهم ، على طريق الظن والحدس ، كما هو حال العلماء اليوم . . .
أحب أن يتأكد هذا المعنى ويتضح لأن بعض المفسرين المحدثين ممن تبهرهم انتصارات العلم الحديث يحاولون تفسير ما قصه القرآن عن سليمان - عليه السلام - في هذا الشأن بأنه نوع من إدراك لغات الطير والحيوان والحشرات على طريقة المحاولات العلمية الحديثة . وهذا إخراج للخارقة عن طبيعتها ، وأثر من آثار الهزيمة والانبهار بالعلم البشري القليل ! وإنه لأيسر شيء وأهون شيء على الله ، أن يعلم عبدا من عباده لغات الطير والحيوان والحشرات ، هبة لدنية منه ، بلا محاولة ولا اجتهاد . وإن هي إلا إزاحة لحواجز النوع التي أقامها الله بين الأنواع . و هو خالق هذه الأنواع !
على أن هذا كله لم يكن إلا شقا واحدا للخارقة التي أتاحها الله لعبده سليمان . أما الشق الآخر فكان تسخير طائفة من الجن والطير لتكون تحت إمرته ، وطوع أمره ، كجنوده من الإنس سواء بسواء . والطائفة التي سخرها له من الطير وهبها إدراكا خاصا أعلى من إدراك نظائرها في أمة الطير .
يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ وقومها ما يدركه أعقل الناس وأذكاهم وأتقاهم . وكان ذلك كذلك على طريق الخارقة والإعجاز . .
حقيقة إن سنة الله في الخلق جرت على أن يكون للطير إدراك خاص يتفاوت فيما بينه ، ولكنه لا يصل إلى مستوى إدراك الإنسان ؛ وإن خلقة الطير على هذا النحو حلقة في سلسلة التناسق الكوني العام . وإنها خاضعة - كحلقة مفردة - للناموس العام ، الذي يقتضي وجودها على النحو الذي وجدت به .
وحقيقة إن الهدهد الذي يولد اليوم ، هو نسخة من الهدهد الذي وجد منذ ألوف أو ملايين من السنين ، منذ أن وجدت الهداهد . وإن هناك عوامل وراثة خاصة تجعل منه نسخة تكاد تكون طبق الأصل من الهدهد الأول . ومهما بلغ التحوير فيه ، فهو لا يخرج من نوعه ، ليرتقي إلى نوع آخر . . وإن هذا - كما يبدو - طرف من سنة الله في الخلق ، ومن الناموس العام المنسق للكون .
ولكن هاتين الحقيقتين الثابتتين لا تمنعان أن تقع الخارقة عندما يريدها الله خالق السنن والنواميس . وقد تكون الخارقة ذاتها جزءا من الناموس العام ، الذي لا نعرف أطرافه . جزءا يظهر في موعده الذي لا يعلمه إلا الله ، يخرق المألوف المعهود للبشر ، ويكمل ناموس الله في الخلق والتناسق العام . وهكذا وجد هدهد سليمان ، وربما كل الطائفة من الطير التي سخرت له في ذلك الزمان .
ونعود من هذا الاستطراد إلى تفصيل قصة سليمان بعد وراثته لداود وإعلانه ما حباه الله به من علم وتمكين وإفضال
وقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } أي : في الملك والنبوة ، وليس المراد وراثَةَ المال ؛ إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود ، فإنه قد كان لداود مائةُ امرأة . ولكن المراد بذلك وراثةُ الملك والنبوة ؛ فإن الأنبياء لا تورث أموالهم ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم [ في قوله ]{[21982]} : نحن معشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة{[21983]}-{[21984]} .
وقوله{[21985]} : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ }{[21986]} ، أي : أخبر سليمان بنعم الله عليه ، فيما وهبه له من الملك التام ، والتمكين العظيم ، حتى إنه سَخَّر له الإنس والجن والطير . وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضًا ، وهذا شيء لم يُعطَه أحد من البشر - فيما علمناه - مما أخبر الله به ورسوله . وَمَنْ زعم من الجهلة والرّعاع أنّ الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود - كما يتفوه به كثير من الناس - فهو قولٌ بلا علم . ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة ؛ إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ، ويعرف ما تقول ، فليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا ، بل لم تزل{[21987]} البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خُلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال . ولكن الله ، سبحانه وتعالى ، كان قد أفهم سليمان ، عليه السلام ، ما يتخاطب به الطيور في الهواء ، وما تنطق{[21988]} به الحيوانات على اختلاف أصنافها ؛ ولهذا قال : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } أي : مما يحتاج إليه الملك ، { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } أي : الظاهر البين لله علينا .
قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان داود ، عليه السلام ، فيه غيرة شديدة ، فكان إذا خرج أغلقت الأبواب ، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع " . قال : " فخرج ذات يوم وأغلقت{[21989]} الأبواب ، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار ، فإذا رجل قائم وسط الدار ، فقالت لِمَنْ في البيت : من أين دخل هذا الرجل ، والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود ، فجاء داود ، عليه السلام ، فإذا الرجل قائم وسط الدار ، فقال له داود : من أنت ؟ قال : الذي لا يهاب الملوك ، ولا يمتنع من الحجاب . فقال داود : أنت والله إذًا ملك الموت . مرحبًا بأمر الله ، فتزمل داود ، عليه السلام ، مكانه حتى قبضت نفسه ، حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس ، فقال سليمان ، عليه السلام ، للطير : أظلي على داود ، فأظلت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض ،
فقال لها سليمان : اقبضي جناحا جناحا " قال أبو هريرة : يا رسول الله ، كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، وغلبت عليه يومئذ المضرَحية{[21990]}-{[21991]} .
قال أبو الفرج بن الجَوْزيّ : المَضْرَحيّة{[21992]} النسور الحُمر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.