في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (102)

69

والآن آن أن نطلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم . بل في حياة البشر أجمعين . وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم . .

( فلما بلغ معه السعي . قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ، فانظر ماذا ترى . قال : يا أبت افعل ما تؤمر : ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) . .

يالله ! ويالروعة الإيمان والطاعة والتسليم . .

هذا إبراهيم الشيخ . المقطوع من الأهل والقرابة . المهاجر من الأرض والوطن . ها هو ذا يرزق في كبرته وهرمه بغلام . طالما تطلع إليه . فلما جاءه جاء غلاماً ممتازاً يشهد له ربه بأنه حليم . وها هو ذا ما يكاد يأنس به ، وصباه يتفتح ، ويبلغ معه السعي ، ويرافقه في الحياة . . ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد ، حتى يرى في منامه أنه يذبحه . ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية . فماذا ? إنه لا يتردد ، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة ، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم . . نعم إنها إشارة . مجرد إشارة . وليست وحياً صريحاً ، ولا أمراً مباشراً . ولكنها إشارة من ربه . . وهذا يكفي . . هذا يكفي ليلبي ويستجيب . ودون أن يعترض . ودون أن يسأل ربه . . لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد ? !

ولكنه لا يلبي في انزعاج ، ولا يستسلم في جزع ، ولا يطيع في اضطراب . . كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء . يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب :

( قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك . فانظر ماذا ترى ) . .

فهي كلمات المالك لأعصابه ، المطمئن للأمر الذي يواجهه ، والواثق بأنه يؤدي واجبه . وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن ، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه ، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي ، ويستريح من ثقله على أعصابه !

والأمر شاق - ما في ذلك شك - فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة . ولا يطلب إليه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته . . إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده . يتولى ماذا ? يتولى ذبحه . . وهو - مع هذا - يتلقى الأمر هذا التلقي ، ويعرض على ابنه هذا العرض ؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره ، وأن يرى فيه رأيه !

إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه . وينتهي . إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر . فالأمر في حسه هكذا . ربه يريد . فليكن ما يريد . على العين والرأس . وابنه ينبغي أن يعرف . وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلاماً ، لا قهراً واضطراراً . لينال هو الآخر أجر الطاعة ، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم ! إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها ؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى . .

فماذا يكون من أمر الغلام ، الذي يعرض عليه الذبح ، تصديقاً لرؤيا رآها أبوه ?

إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه :

( قال : يا أبت افعل ما تؤمر . ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ) . .

إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب . ولكن في رضى كذلك وفي يقين . .

( يا أبت ) . . في مودة وقربى . فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده . بل لا يفقده أدبه ومودته .

( افعل ما تؤمر ) . . فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه . يحس أن الرؤيا إشارة . وأن الإشارة أمر . وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب .

ثم هو الأدب مع الله ، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال ؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية ، ومساعدته على الطاعة :

( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) . .

ولم يأخذها بطولة . ولم يأخذها شجاعة . ولم يأخذها اندفاعاً إلى الخطر دون مبالاة . ولم يظهر لشخصه ظلاً ولا حجماً ولا وزناً . . إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه ، وأصبره على ما يراد به : ( ستجدني - إن شاء الله - من الصابرين ) . .

يا للأدب مع الله ! ويالروعة الإيمان . ويالنبل الطاعة . ويالعظمة التسليم !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعۡيَ قَالَ يَٰبُنَيَّ إِنِّيٓ أَرَىٰ فِي ٱلۡمَنَامِ أَنِّيٓ أَذۡبَحُكَ فَٱنظُرۡ مَاذَا تَرَىٰۚ قَالَ يَـٰٓأَبَتِ ٱفۡعَلۡ مَا تُؤۡمَرُۖ سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (102)

وقوله : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } أي : كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه . وقد كان إبراهيم ، عليه السلام ، يذهب في كل وقت يتفقد ولده وأم ولده ببلاد " فاران " وينظر في أمرهما ، وقد ذكر أنه كان يركب على البراق سريعا إلى هناك ، فالله أعلم .

وعن ابن عباس ومجاهد وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعطاء الخراساني ، وزيد بن أسلم ، وغيرهم : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } يعني : شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل ، { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } قال عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وَحْي ، ثم تلا هذه الآية : { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى }

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أبو عبد الملك الكرندي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسرائيل بن يونس ، عن سِمَاك ، عن عكرمة{[25029]} ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رؤيا الأنبياء في المنام وَحْي " ليس هو في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه{[25030]} .

وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه من صغره على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه .

{ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } أي : امض لما أمرك{[25031]} الله من ذبحي ، { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } أي : سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عز وجل . وصدق ، صلوات الله وسلامه عليه ، فيما وعد ؛ ولهذا قال الله تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } [ مريم : 54 ، 55 ] .


[25029]:- في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
[25030]:- (2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/6) من وجه آخر عن سماك: فرواه من طريق الفريابي عن سفيان عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به.
[25031]:- (3) في أ: "أنزل".