مضى الشوط الأول من السورة ، يعالج تنظيم حياة المجتمع المسلم واستنقاذه من رواسب الجاهلية بإقامة الضمانات لليتامى وأموالهم وأنفسهم في محيط الأسرة ، وفي محيط الجماعة ، يعالج نظام التووعقاب الرجال أيضا عقوبة واحدة هي حد الزنا كما ورد في آية سورة النور ، وهي الجلد ؛ وكما جاءت بها السنة أيضا ، وهي الرجم . والهدف الأخير من هذه أو تلك هو صيانة المجتمع من التلوث ، والمحافظة عليه نظيفا عفيفا شريفا .
وفي كل حالة وفي كل عقوبة يوفر التشريع الإسلامي الضمانات ، التي يتعذر معها الظلم والخطأ والأخذ بالظن والشبهة ؛ في عقوبات خطيرة ، تؤثر في حياة الناس تأثيرا خطيرا .
( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم . فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ) . .
وفي النص دقة واحتياط بالغان . فهو يحدد النساء اللواتي ينطبق عليهن الحد : " من نسائكم " - أي المسلمات - ويحدد نوع الرجال الذين يستشهدون على وقوع الفعل : " من رجالكم " - أي المسلمين - فحسب هذا النص يتعين من توقع عليهن العقوبة إذا ثبت الفعل . ويتعين من تطلب إليهم الشهادة على وقوعه .
إن الإسلام لا يستشهد على المسلمات - حين يقعن في الخطيئة - رجالا غير مسلمين . بل لا بد من أربعة رجال مسلمين . منكم . من هذا المجتمع المسلم . يعيشون فيه ، ويخضعون لشريعته ، ويتبعون قيادته ، ويهمهم أمره ، ويعرفون ما فيه ومن فيه . ولا تجوز في هذا الأمر شهادة غير المسلم ، لأنه غير مأمون على عرض المسلمة ، وغير موثوق بأمانته وتقواه ، ولا مصلحة له ولا غيرة كذلك على نظافة هذا المجتمع وعفته ، ولا على إجراء العدالة فيه . وقد بقيت هذه الضمانات في الشهادة حين تغير الحكم ، وأصبح هو الجلد أو الرجم . .
( فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت ) . .
لا يختلطن بالمجتمع ، ولا يلوثنه ، ولا يتزوجن ، ولا يزاولن نشاطا . .
فينتهي أجلهن ، وهن على هذه الحال من الإمساك في البيوت .
( أو يجعل الله لهن سبيلا ) . .
فيغير ما بهن ، أو يغير عقوبتهن ، أو يتصرف في أمرهن بما يشاء . . مما يشعر أن هذا ليس الحكم النهائي الدائم ، وإنما هو حكم فترة معينة ، وملابسات في المجتمع خاصة . وأنه يتوقع صدور حكم آخر ثابت دائم . وهذا هو الذي وقع بعد ذلك ، فتغير الحكم كما ورد في سورة النور ، وفي حديث رسول الله [ ص ] وإن لم تتغير الضمانات المشددة في تحقيق الجريمة .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت . قال : كان رسول الله [ ص ] إذا نزل عليه الوحي أثر عليه ، وكرب لذلك ، وتغير وجهه . فأنزل الله عليه عز وجل ذات يوم ، فلما سري عنه قال : " خذوا عني . . قد جعل الله لهن سبيلا . . الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر . الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة . والبكر جلد مائة ثم نفي سنة " . . وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة ، عن الحسن ، عن حطان ، عن عبادة بن الصامت . عن النبي [ ص ] ولفظه : " خذوا عني . خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام . والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " . . وقد ورد عن السنة العملية في حادث ماعز والغامدية كما ورد في صحيح مسلم : أن النبي [ ص ] رجمهما ولم يجلدهما . وكذلك في حادث اليهودي واليهودية اللذين حكم في قضيتهما ، فقضى برجمهما ولم يجلدهما . .
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة ، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت ؛ ولهذا قال : { وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } يعني : الزنا { مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا } فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك .
قال ابن عباس : كان الحكم كذلك ، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد ، أو الرجم .
وكذا رُوي عن عِكْرِمة ، وسَعيد بن جُبَيْر ، والحسن ، وعَطاء الخُراساني ، وأبي صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والضحاك : أنها منسوخة . وهو أمر متفق عليه .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشِي ، عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أَثَّرَ عليه
وكرب لذلك وتَرَبّد وجهه ، فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم ، فلما سُرِّيَ عنه قال : " خُذُوا عَنِّي ، قد جَعَل الله لَهُنَّ سبيلا الثَّيِّبُ بالثيب ، والبِكْرُ بالبكرِ ، الثيب جَلْدُ مائة ، ورَجْمٌ بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نَفْى سَنَةٍ " .
وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطَّان{[6782]} عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح{[6783]}
وهكذا{[6784]} رواه أبو داود الطيالسي ، عن مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عُرف ذلك في وجهه ، فلما أنزلت : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا } [ و ]{[6785]} ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا خذوا ، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البكْرُ بالبكرِ جَلْدُ مائة وَنفيُ سنة ، والثَّيِّب بالثيبِ جَلْدُ مائة ورَجْمٌ بالحجارة " .
وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وَكِيع بن الجراح ، حدثنا الفضل بن دَلْهَم ، عن الحسن ، عن قُبَيْصَة بن حُرَيث ، عن سلمة بن المُحَبَّق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " .
وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم ، ثم قال : وليس هو بالحافظ ، كان قصابًا بواسط{[6786]} .
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عباس بن حمدان ، حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البكْرَان يُجْلَدان ويُنفيَانِ ، والثيبان يجلدان ويُرجَمانِ ، والشَّيْخانِ يُرجَمان " . هذا حديث غريب من هذا الوجه{[6787]} .
وروى الطبراني من طريق ابن لَهِيعة ، عن أخيه عيسى بن لهيعة ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حبس بعد سورة النساء " {[6788]} .
وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث ، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني ، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يُرجم فقط من غير جلد ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ماعزًا والغامدية واليهوديين ، ولم يجلدهم قبل ذلك ، فدل على أن الجلد{[6789]} ليس بحتم ، بل هو منسوخ على قولهم ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.