فإذا كانت ظروف المسلم تحول بينه وبين الزواج من حرة تحصنها الحرية وتصونها ، فقد رخص له في الزواج من غير الحرة ، إذا هو لم يصبر حتى يستطيع الزواج من حرة ، وخشي المشقة ؛ أو خشي الفتنة :
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات - والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض - فانكحوهن بإذن أهلهن ؛ وآتوهن أجورهن بالمعروف - محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان - فإذا أحصن . فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب . ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم . والله غفور رحيم ) .
إن هذا الدين يتعامل مع " الإنسان " في حدود فطرته ، وفي حدود طاقته . وفي حدود واقعه ، وفي حدود حاجاته الحقيقية . . وحين يأخذ بيده ليرتفع به من حضيض الحياة الجاهلية إلى مرتقى الحياة الإسلامية لا يغفل فطرته وطاقته وواقعه وحاجاته الحقيقية ، بل يلبيها كلها وهو في طريقه إلى المرتقى الصاعد . . إنه فقط لا يعتبر واقع الجاهلية هو الواقع الذي لا فكاك منه . فواقع الجاهلية هابط ، وقد جاء الإسلام ليرفع البشرية من وهدة هذا الواقع ! إنما هو يعتبر واقع " الإنسان " في فطرته وحقيقته . . واقتدار الإنسان على الترقي واقع من هذا الواقع . . فليس الواقع فقط هو مجرد تلبطه في وحل الجاهلية . . أية جاهلية . . فمن الواقع كذلك مقدرته - بما ركب في فطرته - على الصعود والتسامي عن ذلك الوحل أيضا ! والله - سبحانه - هو الذي يعلم " واقع الإنسان " كله ، لأنه يعلم " حقيقة الإنسان " كلها . هو الذي خلقه ويعلم ما توسوس به نفسه . . ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) ؟
وقد كان في المجتمع المسلم الأول رقيق يتخلف من الحروب ؛ ريثما يتم تدبير أمره . . إما بإطلاق سراحه امتنانا عليه بلا مقابل . وإما فداء مقابل إطلاق سراح أسارى المسلمين ، أو مقابل مال - حسب الملابسات والظروف المنوعة فيما بين المسلمين وأعدائهم المحاربين - وقد عالج الإسلام هذا الواقع بإباحة مباشرة ملك اليمين - كما جاء في الآية السابقة - لمن هن ملك يمينه . لمواجهة واقع فطرتهن كما أسلفنا . مباشرتهن إما بزواج منهن - إن كن مؤمنات - أو بغير زواج ، بعد استبراء أرحام المتزوجات منهن في دار الحرب ، بحيضة واحدة . . ولكنه لم يبح لغير سادتهن مباشرتهن إلا أن يكون ذلك عن طريق الزواج . لم يبح لهن أن يبعن أعراضهن في المجتمع لقاء أجر ؛ ولا أن يسرحهن سادتهن في المجتمع يزاولن هذه الفاحشة لحسابهم كذلك !
وفي هذه الآية ينظم طريقة نكاحهن والظروف المبيحة لهذا النكاح :
( ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات ، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
إن الإسلام يؤثر الزواج من حرة في حالة الطول - أي القدرة على نكاح الحرة - ذلك أن الحرة تحصنها الحرية ؛ وتعلمها كيف تحفظ عرضها ، وكيف تصون حرمة زوجها . فهن( محصنات ) هنا - لا بمعنى متزوجات ، فقد سبق تحريم نكاح المتزوجات - ولكن بمعنى حرائر ، محصنات بالحرية ؛ وما تسبغه على الضمير من كرامة ، وما توفره للحياة من ضمانات . فالحرة ذات أسرة وبيت وسمعة ولها من يكفيها ، وهي تخشى العار ، وفي نفسها أنفة وفي ضميرها عزة ، فهي تأبى السفاح والانحدار . ولا شيء من هذا كله لغير الحرة . ومن ثم فهي ليست محصنة ، وحتى إذا تزوجت ، فإن رواسب من عهد الرق تبقى في نفسها ، فلا يكون لها الصون والعفة والعزة التي للحرة . فضلا على أنه ليس لها شرف عائلي تخشى تلويثه . . مضافا إلى هذا كله أن نسلها من زوجها كان المجتمع ينظر إليهم نظرة أدنى من أولاد الحرائر . فتعلق بهم هجنة الرق في صورة من الصور . . وكل هذه الاعتبارات كانت قائمة في المجتمع الذي تشرع له هذه الآية . .
لهذه الاعتبارات كلها آثر الإسلام للمسلمين الأحرار ألا يتزوجوا من غير الحرائر ، إذا هم استطاعوا الزواج من الحرائر . وجعل الزواج من غير الحرة رخصة في حالة عدم الطول . مع المشقة في الانتظار .
ولكن إذا وجدت المشقة ، وخاف الرجال العنت . عنت المشقة أو عنت الفتنة . فإن الدين لا يقف أمامهم يذودهم عن اليسر والراحة والطمأنينة . فهو يحل - إذن - الزواج من المؤمنات غير الحرائر اللواتي في ملك الآخرين .
ويعين الصورة الوحيدة التي يرضاها للعلاقة بين الرجال الأحرار وغير الحرائر . وهي ذاتها الصورة التي رضيها من قبل في زواج الحرائر :
( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
وثانيا : يجب أن يعطين أجورهن فريضة لهن لا لسادتهن . فهذا حقهن الخالص .
وثالثا : يجب أن تكون هذه الأجور في صورة صداق : وأن يكون الاستمتاع بهن في صورة نكاح . لا مخادنة ولا سفاح : والمخادنة أن تكون لواحد . والسفاح أن تكون لكل من أراد . محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان .
وقد كان المجتمع إذ ذاك يعرف هذه الأنواع من الاتصال الجنسي بين الحرائر كما سلف من حديث عائشة - رضي الله عنها - كما كان يعرف كذلك بين غير الحرائر أنواعا من البغاء . وقد كان سادة من أشراف القوم يرسلون رقيقاتهم يكسبن بأجسامهن في هذا السبيل القذر ، لحساب سادتهن . وكان لعبدالله بن أبي بن سلول - رأس المنافقين في المدينة وهو من سادة قومه - أربع جوار يكسبن له من هذا السبيل ! وكانت هذه بقايا أو حال الجاهلية ، التي جاء الإسلام ليرفع العرب منها ، ويطهرهم ويزكيهم ، كما يرفع منها سائر البشرية كذلك !
وكذلك جعل الإسلام طريقا واحدة للمعاشرة بين الرجال الأحرار وهؤلاء " الفتيات " ، هي طريق النكاح ، الذي تتخصص فيه امرأة لرجل لتكوين بيت وأسرة ، لا الذي تنطلق فيه الشهوات انطلاق البهائم . وجعل الأموال في أيدي الرجال لتؤدى صداقا مفروضا ، لا لتكون أجرا في مخادنة أو سفاح . . وكذلك طهر الإسلام هذه العلاقات حتى في دنيا الرقيق من وحل الجاهلية ، الذي تتلبط فيه البشرية كلما ارتكست في الجاهلية ! والذي تتلبط فيه اليوم في كل مكان ، لأن رايات الجاهلية هي التي ترتفع في كل مكان ، لا راية الإسلام !
ولكن - قبل أن نتجاوز هذا الموضع من الآية - ينبغي أن نقف أمام تعبير القرآن عن حقيقة العلاقات الإنسانية التي تقوم بين الأحرار والرقيق في المجتمع الإسلامي ، وعن نظرة هذا الدين إلى هذا الأمر عندما واجهه المجتمع الإسلامي . إنه لا يسمي الرقيقات : رقيقات . ولا جواري . ولا إماء . إنما يسميهن " فتيات " .
( فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ) . .
وهو لا يفرق بين الأحرار وغير الأحرار تفرقة عنصرية تتناول الأصل الإنساني - كما كانت الاعتقادات والاعتبارات السائدة في الأرض كلها يومذاك - إنما يذكر بالأصل الواحد ، ويجعل الآصرة الإنسانية والآصرة الإيمانية هما محور الارتباط :
( والله أعلم بإيمانكم ، بعضكم من بعض ) . .
وهو لا يسمي من هن ملك لهم سادة . إنما يسميهم " أهلا " :
وهو لا يجعل مهر الفتاة لسيدها . فمهرها إنما هو حق لها . لذلك يخرج من قاعدة أن كسبها كله له . فهذا ليس كسبا ، إنما هو حق ارتباطها برجل :
وهو يكرمهن عن أن يكن بائعات أعراض بثمن من المال ، إنما هو النكاح والإحصان :
( محصنات غير مسافحات ولامتخذات أخدان ) . .
وكلها لمسات واعتبارات تحمل طابع التكريم لإنسانية هؤلاء الفتيات ، حتى وهن في هذا الوضع ، الذي اقتضته ملابسات وقتية ، لا تطعن في أصل الكرامة الإنسانية .
وحين يقاس هذا التكريم إلى ما كان سائدا في جاهلية الأرض كلها يومذاك من النظرة إلى الرقيق ، وحرمانه حق الانتساب إلى " إنسانية " السادة ! وسائر الحقوق التي تترتب على هذه " الإنسانية " . . يبدو مدى النقلة التي نقل الإسلام إليه كرامة " الإنسان " وهو يرعاها في جميع الأحوال ، بغض النظر عن الملابسات الطارئة التي تحد من أوضاع بعض الأناسي ، كوضع الاسترقاق .
ويبدو مدى النقلة البعيدة حين يقاس صنيع الإسلام هذا ، وتنظيمه لأوضاع هذه الحالة الطارئة بما تصنعه الجيوش الفاتحة في هذه الجاهلية الحديثة بنساء وفتيات البلاد المفتوحة . وكلنا يعرف حكاية " الترفيه " أو قصة الوحل الذي تلغ فيه جيوش الجاهلية الفاتحة في كل مكان ! وتخلفه وراءها للمجتمع حين ترحل يعاني منه السنوات الطوال !
ثم يقرر الإسلام عقوبة مخففة على من ترتكب الفاحشة من هؤلاء الفتيات بعد إحصانها بالزواج ، واضعا في حسابه واقعها وظروفها التي تجعلها أقرب إلى السقوط في الفاحشة ، وأضعف في مقاومة الإغراء من الحرة ، مقدرا أن الرق يقلل من الحصانة النفسية ، لأنه يغض من الشعور بالكرامة ، والشعور بشرف العائلة - وكلاهما شعور يثير الإباء في نفس الحرة - كما يقدر الحالة الاجتماعية والاقتصادية ، واختلافها بين الحرة والأمة . وأثرها في جعل هذه أكثر تسامحا في عرضها ، وأقل مقاومة لإغراء المال وإغراء النسب ممن يراودها عن نفسها ! يقدر الإسلام هذا كله فيجعل حد الأمة - بعد إحصانها - نصف حد الحرة المحصنة بالحرية قبل زواجها .
( فإذا أحصن . فإن أتين بفاحشة ، فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب )
ومفهوم أن النصف يكون من العقوبة التي تحتمل القسمة . وهي عقوبة الجلد . ولا يكون في عقوبة الرجم . إذ لا يمكن قسمتها ! فإذا زنت الجارية المؤمنة المتزوجة عوقبت بنصف ما تعاقب به الحرة البكر . أما عقوبة الجارية البكر فمختلف عليها بين الفقهاء . هل تكون هذا الحد نفسه - وهو نصف ما على الحرة البكر - ويتولاه الإمام ؟ أم تكون تأديبا يتولاه سيدها ودون النصف من الحد ؟ وهو خلاف يطلب في كتب الفقه .
أما نحن - في ظلال القرآن - فنقف أمام مراعاة هذا الدين لواقع الناس وظروفهم ، في الوقت الذي يأخذ بأيديهم في المرتقى الصاعد النظيف .
إن هذا الدين يأخذ في اعتباره - كما قلنا - واقع الناس ، دون أن يدعهم يتلبطون في الوحل باسم هذا الواقع !
وقد علم الله ما يحيط بحياة الرقيق من مؤثرات . تجعل الواحدة - ولو كانت متزوجة - أضعف من مقاومة الإغراء والوقوع في الخطيئة . فلم يغفل هذا الواقع ويقرر لها عقوبة كعقوبة الحرة . ولكن كذلك لم يجعل لهذا الواقع كل السلطات ، فيعفيها نهائيا من العقوبة .
قوام وسط . يلحظ كل المؤثرات وكل الملابسات .
كذلك لم يجعل من انحطاط درجة الرقيق سببا في مضاعفة العقوبة ، كما كانت قوانين الجاهلية السائدة في الارض كلها تصنع مع الطبقات المنحطة والطبقات الراقية ؛ أو مع الوضعاء والأشراف تخفف عن الأشراف ، وتقسو على الضعاف .
كان المعمول به في القانون الروماني الشهير أن تشدد العقوبة كلما انحطت الطبقة . فكان يقول : " ومن يستهو أرملة مستقيمة أو عذراء ، فعقوبته - إن كان من بيئة كريمة - مصادرة نصف ماله . وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض "
وكان المعمول به في القانون الهندي الذي وضعه " منو " وهو القانون المعروف باسم " منوشاستر " أن البرهمي إن استحق القتل ، فلا يجوز للحاكم إلا أن يحلق رأسه . أما غيره فيقتل ! وإذا مد أحد المنبوذين إلى برهمي يدا أو عصا ليبطش به قطعت يده . . . الخ
وكان اليهود إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الوضيع أقاموا عليه الحد .
وجاء الإسلام ليضع الحق في نصابه ؛ ولياخذ الجاني بالعقوبة ، مراعيا جميع اعتبارات " الواقع " . وليجعل حد الامة - بعد الإحصان - نصف حد الحرة قبل الإحصان . فلا يترخص فيعفيها من العقوبة ، ويجعل إرادتها ملغاة كلية من ارتكاب الفعل تحت وطأة الظروف . فهذا خلاف الواقع . ولا يغفل واقعها كذلك فيعاقبها عقاب الحرة - وواقعها يختلف عن واقع الحرة . ولا يتشدد تشدد الجاهلية مع الضعاف دون الأشراف ! ! !
وما تزال الجاهلية الحديثة في أمريكا وفي جنوب أفريقية وفي غيرها تزاول هذه التفرقة العنصرية ، وتغفر للأشراف " البيض " ما لا تغفره للضعاف " الملونين " والجاهلية هي الجاهلية حيث كانت . والإسلام هو الإسلام . . حيث كان . .
ثم تنتهي الآية ببيان أن الزواج من الإماء رخصة لمن يخشى المشقة أو الفتنة . فمن استطاع الصبر - في غير مشقة ولا فتنة - فهو خير . لما أسلفناه من الملابسات التي تحيط بالزواج من الإماء :
( ذلك لمن خشي العنت منكم . وأن تصبروا خير لكم . والله غفور رحيم )
إن الله لا يريد أن يعنت عباده ، ولا أن يشق عليهم ، ولا أن يوقعهم في الفتنة . وإذا كان دينه الذي اختاره لهم ، يريد منهم الاستعلاء والارتفاع والتسامي ، فهو يريد منهم هذا كله في حدود فطرتهم الإنسانية ، وفي حدود طاقتهم الكامنة ، وفي حدود حاجاتهم الحقيقية كذلك . . ومن ثم فهو منهج ميسر ، يلحظ الفطرة ، ويعرف الحاجة ، ويقدر الضرورة . كل ما هنالك أنه لا يهتف للهابطين بالهبوط ، ولا يقف أمامهم - وهم غارقون في الوحل - يبارك هبوطهم ، ويمجد سقوطهم . أو يعفيهم من الجهد في محاولة التسامي ، أو من التبعة في قلة مقاومة الإغراء !
وهو هنا يهيب بالصبر حتى تتهيأ القدرة على نكاح الحرائر ؛ فهن أولى أن تصان نفوسهن بالزواج ، وان تقوم عليهن البيوت ، وأن ينجبن كرام الأبناء ، وأن يحسن الإشراف على الجيل الناشى ء ، وأن يحفظن فراش الأزواج . . فأما إذا خشي العنت : عنت المشقة عند الصبر ، وعنت الفتنة التي لا تقاوم ، فهناك الرخصة ، والمحاولة لرفع مستوى الإماء ، بذلك التكريم الذي يضفيه عليهن . فهن( فتياتكم ) وهم( أهلهن ) . والجميع بعضهم من بعض يربطهم الإيمان . والله أعلم بالإيمان . ولهن مهورهن فريضة . وهو نكاح لا مخادنة ولا سفاح . . وهن مسؤولات إن وقعن في الخطيئة . . ولكن مع الرفق والتخفيف ومراعاة الظروف :
يعقب بها على الاضطرار لنكاح غير الحرائر . ويعقب بها على تخفيف عقوبة الإماء . . وهي في موضعها المناسب عقب هذه وتلك ، فمغفرة الله ورحمته وراء كل خطيئة ، ووراء كل اضطرار .
يقول [ تعالى ]{[7043]} ومن لم يجد { طَوْلا } أي : سعة وقدرة { أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } أي الحرائر .
وقال ابن وَهْب : أخبرني عبد الجبار ، عن ربيعة : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } قال ربيعة الطوْل الهوى ، ينكح الأمة إذا كان هواه فيها . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم .
ثم شرع يشنع على هذا القول ويَرُدّه { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ، ولهذا قال : { مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات } قال ابن عباس وغيره : فلينكح من إماء المؤمنين ، وكذا قال السدي ومقاتل بن حَيَّان .
ثم اعترض{[7044]} بقوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها ، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور .
ثم قال : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } فدلَّ على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه ، وكذلك هو ولي عبده ، ليس لعبده أن يتزوج إلا{[7045]} بإذنه ، كما جاء في الحديث : " أيما عبد تَزَوّج بغير إذن مَوَاليه فهو عَاهِر " {[7046]} أي زان .
فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها ؛ لما جاء في الحديث : " لا تُزَوِّجُ المرأةُ [ المرأةَ ، ولا المرأةُ نفسها ]{[7047]} فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " {[7048]} .
وقوله : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وادفعوا{[7049]} مهورهن بالمعروف ، أي : عن طيب نفس منكم ، ولا تبخسوا{[7050]} منه شيئًا استهانة بهن ؛ لكونهن إماء مملوكات .
وقوله : { مُحْصَنَاتٍ } أي : عفائف عن الزنا لا{[7051]} يتعاطينه ؛ ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } وهن الزواني اللاتي لا يمتنعن من أرادهن بالفاحشة .
وقوله : { ولا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } قال ابن عباس : المسافحات ، هن الزواني المعالنات{[7052]} يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدًا أرادهن بالفاحشة . ( ومتخذات أخدان ) يعني : أخلاء .
وكذا روي عن أبي هريرة ، ومجاهد والشعبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ويحيى بن أبي كثير ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، قالوا : أخلاء . وقال الحسن البصري : يعني : الصديق . وقال الضحاك أيضا : { وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } ذات الخليل الواحد [ المسيس ]{[7053]} المقرة به ، نهى الله عن ذلك ، يعني [ عن ]{[7054]} تزويجها{[7055]} ما دامت كذلك .
وقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } اختلف{[7056]} القراءُ في { أُحْصِنَّ } فقرأه{[7057]} بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد ، مبني لما لم يسم فاعله ، وقُرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل : معنى القراءتين{[7058]} واحد . واختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام . رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزِرّ بن حُبَيْش ، وسعيد بن جُبَير ، وعطاء ، إبراهيم النَّخعي ، والشعبي ، والسُّدِّي . وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب ، وهو منقطع . وهذا هو القول{[7059]} الذي نص عليه الشافعي [ رحمه الله تعالى ]{[7060]} في رواية الربيع ، قال : وإنما قلنا [ ذلك ]{[7061]} استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم .
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا مرفوعًا ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله [ الدمشقى ]{[7062]} حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن رجل ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قال : " إحصانها إسلامها وعفافها " . وقال{[7063]} المراد به هاهنا التزويج ، قال : وقال علي : اجلدوهن .
[ ثم ]{[7064]} قال ابن أبي حاتم : وهو حديث منكر .
قلت : وفي{[7065]} إسناده ضعف ، ومنهم من لم يسم ، و [ مثله ]{[7066]} لا{[7067]} تقوم به حجة{[7068]} .
وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها وعفافها .
وقيل : المراد به هاهنا : التزويج . وهو قولُ ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وطاوس ، وسعيد بن جُبَير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم . ونقله أبو علي الطبري في كتابه " الإيضاح " عن الشافعي ، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد رواه لَيْث بن أبي سليم ، عن مجاهد أنه قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة . وكذا رَوَى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير في تفسيره ، وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي .
وقيل{[7069]} معنى القراءتين متباين{[7070]} فمن قرأ { أُحْصِنَّ } بضم الهمزة ، فمراده التزويج ، ومن قرأ " أحصن " بفتحها ، فمراده الإسلام اختاره الإمام أبو جعفر ابن جرير في تفسيره ، وقرره ونصره .
والأظهر - والله أعلم - أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج ؛ لأن سياق الآية يدل عليه ، حيث يقول سبحانه وتعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ } والله أعلم . والآية الكريمة سياقها كلها{[7071]} في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي : تزوجن ، كما فسره ابن عباس ومن تبعه .
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور ؛ وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، مزوجة أو بكرا ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء ، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، فأما الجمهور فقالوا : لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم . وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء ، فقدمناها على مفهوم الآية ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه خطب فقال : يا أيها الناس ، أقيموا على أرقَّائكم الحد من أحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصَن ، فَإنَّ أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إنْ جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أحْسَنْتَ ، اتركها حتى تَماثَل{[7072]} " {[7073]} .
وعند عبد الله بن أحمد ، عن غير أبيه : " فإذا تَعالتْ من نَفْسِها{[7074]} حدَّها{[7075]} خمسين " .
وعن أبي هريرة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها ، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زَنَتِ الثانية فليجلدها الحد ولا يُثَرِّبْ عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها ، فليبعها ولو بِحَبْل من شَعَر " ولمسلم{[7076]} إذا زَنتْ ثلاثا فليبعها في الرابعة " {[7077]} .
وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يَسار ، عن عبد الله بن عيَّاش{[7078]} بن أبي ربيعة{[7079]} المخزومي قال : أمَرَني عُمَر بن الخطاب في فتية من قريش ، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا .
الجواب الثاني : جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديبا ، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جُبَير ، وأبو عُبَيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه . وعمْدتهُم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط ، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم . وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحْصنْ ؟ قال : " إن زنت فحدوها{[7080]} ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " {[7081]} قال ابن شهاب : لا أدري أبعد{[7082]} الثالثة أو الرابعة .
أخرجاه في الصحيحين{[7083]} وعند مسلم : قال ابن شهاب : الضفير{[7084]} الحبل .
قالوا : فلم يُؤَقَّت في هذا الحديث{[7085]} عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب ، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم .
وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس على أمة حد حتى تحصن - أو{[7086]} حتى تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات " .
وقد رواه ابن خزيمة ، عن عبد الله بن عمران العابدي{[7087]} عن سفيان به مرفوعا . وقال : رفعه خطأ ، إنما هو من قول ابن عباس ، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران ، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة{[7088]} .
قالوا : وحديث علي وعمر [ رضي الله عنهما ]{[7089]} قضايا أعيان ، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة :
أحدها : أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث .
الثاني : أن لفظ الحد في قوله : فليجلدها{[7090]} الحد ، لفظ مقحم{[7091]} من بعض الرواة ، بدليل الجواب الثالث وهو :
أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط ، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم{[7092]} من رواية واحد ، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم ، من حديث عَبَّاد بن تميم ، عن عمه - وكان قد شهد بدرًا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا زنت الأمة فاجلدوها ، ثم إذا زَنتِ فاجْلِدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير " .
الرابع : أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد ؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد{[7093]} أنه حد ، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب ، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بُعثْكال نخل فيه مائة شمراخ ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة ، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف . وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ، ورجم الثيب أو اللائط ، والله أعلم .
وقد روى ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ؛ أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج{[7094]} .
وهذا إسناد صحيح عنه ، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا ، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث ، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا ، ولا ينفي ضربها تأديبا ، فهو{[7095]} كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك ، والله أعلم .
الجواب الثالث : أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة ، فأما قبل الإحصان فعمومات{[7096]} الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة ، كقوله تعالى{[7097]} { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] وكحديث عبادة بن الصامت : " خُذوا عَنِّي ، خذوا عني ، قد جَعلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البِكر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتَغْرِيبُ عام ، والثيب جَلْدُ مائة ورَجْمُهَا بالحجارة " والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث .
وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري ، وهو في غاية الضعف ؛ لأن الله تعالى{[7098]} إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة{[7099]} من العذاب وهو خمسون جلدة ، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان . وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال ، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : " اجلدوها " ولم يقل مائة ، فلو كان حكمها كما قال{[7100]} داود لوجب بيان ذلك لهم ؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم{[7101]} بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء ، وإلا فما الفائدة في قولهم : " ولم تحصن " لعدم الفرق
بينهما لو لم تكن الآية نزلت ، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر ، فبينه لهم . كما [ ثبت ]{[7102]} في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه ، فذكرها لهم ثم قال : " والسلام ما قد{[7103]} علمتم " وفي لفظ : لما أنزل الله قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [ الأحزاب : 56 ] قالوا : هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ وذكر الحديث ، وهكذا هذا السؤال{[7104]} .
الجواب الرابع - عن مفهوم الآية - : جواب أبي ثور ، فإن من مذهبه ما هو أغرب من قول داود من وجوه ، ذلك أنه يقول{[7105]} فإذا أحْصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات{[7106]} المزوجات وهو الرجم ، وهو لا يتناصف{[7107]} فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت ، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين . فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم ، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا ؛ وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، والألف واللام في المحصنات للعهد ، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } والمراد بهن الحرائر فقط ، من غير تعرض لتزويج غيره ، وقوله : { نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه{[7108]} وهو الجلد لا الرجم ، والله أعلم .
ثم قد روى الإمام أحمد [ حديثا ]{[7109]} نَصا في رَدِّ مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه أن صفية{[7110]} كانت قد زنت برجل من الحمس ، فولدت غلاما ، فادعاه الزاني ، فاختصما إلى عثمان [ بن عفان ]{[7111]} فرفعهما{[7112]} إلى علي بن أبي طالب ، فقال علي : أقضي فيهما{[7113]} بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الولد للفِرَاش وللعَاهِر الحَجَر " وجلدهما خمسين خمسين{[7114]} .
وقيل : بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى ، أي : أن الإماء على النصف من{[7115]} الحرائر في الحد وإن كن محصنات ، وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده ، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة . قال{[7116]} ذلك صاحب الإفصاح عن الشافعي ، فيما رواه ابن عبد الحكم ، عنه . وقد ذكره{[7117]} البيهقي في كتاب السنن والآثار ، وهو بعيد عن لفظ الآية ؛ لأنا إنما استفدنا تنصيف{[7118]} الحد من الآية لا من سواها ، فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها ، وقال : بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ، ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه - وهو قول في مذهب الإمام أحمد رحمه الله - فأما قبل الإحصان فله ذلك ، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة . وهذا أيضا بعيد ؛ لأنه{[7119]} ليس في لفظ الآية ما يدل عليه .
ولولا هذه لم ندر ما حكم الإمام{[7120]} في التنصيف ، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد{[7121]} مائة أو رجمهن ، كما{[7122]} أثبت في الدليل عليه ، وقد تقدم عن علي أنه قال : أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من{[7123]} أحصن منهم ومن لم يحصن ، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة{[7124]} وغيرها ، لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور : " إذا زَنَتْ أمةُ أحدِكم فتبين زِناهَا فَليجْلِدها{[7125]} الحدَّ ولا يثرب عَلَيْها " .
ملخص الآية : أنها{[7126]} إذا زنت أقوال : أحدها : أنها{[7127]} بجلد خمسين قبل الإحصان وبعده ، وهل تنفى ؟ فيه ثلاثة أقوال :
[ أحدها ]{[7128]} أنها{[7129]} تنفى عنه{[7130]} والثاني : لا تنفى عنه{[7131]} مطلقًا . [ وهو قول علي وفقهاء المدينة ]{[7132]} والثالث : أنها تنفى نصف سنة وهو نفي نصف{[7133]} الحرة . وهذا الخلاف في مذهب الشافعي ، وأما أبو{[7134]} حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد ، وإنما هو{[7135]} رأي الإمام ، إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء ، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال ، وأما{[7136]} النساء فلا{[7137]} ؛ لأن{[7138]} ذلك مضاد لصيانتهن ، [ وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا في النساء نعم حديث عُبَادَة وحديث أبي هريرة ]{[7139]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة{[7140]} الحد عليه ، رواه البخاري ، و [ كل ]{[7141]} ذلك مخصوص بالمعنى ، وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم .
والثاني : أن الأمة إذا زنت تُجلد خمسين بعد الإحصان ، وتضرب [ قبله ]{[7142]} تأديبا غير محدود بعدد محصور ، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير : أنها لا تضرب قبل الإحصان ، وإن{[7143]} أراد نفيه فيكون مذهبًا بالتأويل{[7144]} وإلا فهو كالقول الثاني .
القول الآخر : أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين ، كما هو المشهور عن داود ، و[ هو ]{[7145]} أضعف الأقوال : أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده ، وهو قول أبي ثور ، وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } أي : إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا ، وشق عليه الصبر عن الجماع ، وعنت بسبب ذلك [ كله ، فحينئذ يتزوج الأمة ، وإن ترك تزوج الأمة ]{[7146]} وجاهد نفسه في الكف عن الزنا ، فهو خير له ؛ لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ، ولهذا قال : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهورُ العلماء في جواز نكاح الإماء ، على أنه لا بد من عدم الطَّوْل لنكاح الحرائر ومن خوف العنت ؛ لما في نكاحهن من مفْسَدة رق الأولاد ، ولما فيهن من الدناءة{[7147]} في العدول عن الحرائر إليهن . وخالف الجمهورَ أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين ، فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجا بحرّة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا ، سواء كان واجدًا الطول لحرة أم{[7148]} لا وسواء خاف العنت أم{[7149]} لا وعمدتهم{[7150]} فيما ذهبوا إليه [ عموم ]{[7151]} قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] أي : العفائف ، وهو يعم الحرائر والإماء ، وهذه الآية عامة ، وهذه{[7152]} أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم .