في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (116)

ويسكت السياق بعد وعد الله وتهديده . . ليمضي إلى القضية الأساسية . . قضية الألوهية والربوبية . . وهي القضية الواضحة في الدرس كله . . فلنعد إلى المشهد العظيم فهو ما يزال معروضا على أنظار العالمين . لنعد إليه فنسمع استجوابا مباشرا في هذه المرة في مسألة الألوهية المدعاة لعيسى بن مريم وأمه . استجوابا يوجه إلى عيسى - عليه السلام في مواجهة الذين عبدوه . ليسمعوه وهو يتبرأ إلى ربه في دهش وفزع من هذه الكبيرة التي افتروها عليه وهو منها برى ء :

( وإذ قال الله : يا عيسى ابن مريم ، أأنت قلت للناس : اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال : سبحانك : ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق . إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ، إنك أنت علام الغيوب . ما قلت لهم إلا ما أمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم ، وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شيء شهيد . إن تعذبهم فإنهم عبادك ، وإن تغفر لهم فإنك أن العزيز الحكيم )

وإن الله - سبحانه - ليعلم ماذا قال عيسى للناس . ولكنه الاستجواب الهائل الرهيب في اليوم العظيم الموهوب : الاستجواب الذي يقصد به إلى غير المسؤول ؛ ولكن في صورته هذه وفي الإجابة عليه ما يزيد من بشاعة موقف المؤلهين لهذا العبد الصالح الكريم . .

إنها الكبيرة التي لا يطيق بشر عادي أن يقذف بها . . أن يدعي الألوهية وهو يعلم أنه عبد . . فكيف برسول من أولي العزم ؟ كيف بعيسى بن مريم ؛ وقد أسلف الله له هذه النعم كلها بعد ما اصطفاه بالرسالة وقبل ما اصطفاه ؟ كيف به يواجه استجوابا عن ادعاء الألوهية ، وهو العبد الصالح المستقيم ؟

من أجل ذلك كان الجواب الواجف الراجف الخاشع المنيب . . يبدأ بالتسبيح والتنزيه :

( قال : سبحانك ! ) .

ويسرع إلى التبرؤ المطلق من أن يكون من شأنه هذا القول أصلا :

( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) .

ويستشهد بذات الله سبحانه على براءته ؛ مع التصاغر أمام الله وبيان خصائص عبوديته وخصائص ألوهية ربه :

( إن كنت قلته فقد علمته ، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك . إنك أنت علام الغيوب )

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِيٓ أَنۡ أَقُولَ مَا لَيۡسَ لِي بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِي وَلَآ أَعۡلَمُ مَا فِي نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُيُوبِ} (116)

هذا أيضًا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد . هكذا قاله قتادة وغيره ، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }

وقال السُّدِّي : هذا الخطاب والجواب في الدنيا .

قال ابن جرير : هذا هو الصواب ، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا . واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين :

أحدهما : أن الكلام لفظ المضي .

والثاني : قوله : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ } و { إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ }

وهذان الدليلان فيهما نظر ؛ لأن كثيرًا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ، ليدل على الوقوع والثبوت . ومعنى قوله : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية : التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله ، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه ، كما في نظائر ذلك من الآيات .

والذي{[10533]} قاله قتادة وغيره هو الأظهر ، والله أعلم : أن ذلك كائن يوم القيامة ، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة . وقد روي بذلك حديث مرفوع ، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله ، مولى عمر بن عبد العزيز ، وكان ثقة ، قال : سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم ، ثم يُدْعَى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه ، فيقِر بها ، فيقولُ : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } الآية [ المائدة : 110 ] ثم يقول : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيسألون ، فيقولون : نعم ، هو أمرنا بذلك ، قال : فيطول شعر عيسى ، عليه السلام ، فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده . فيجاثيهم بين يدي الله ، عز وجل ، مقدار ألف عام ، حتى ترفع عليهم الحجة ، ويرفع لهم الصليب ، وينطلق بهم إلى النار " ، وهذا حديث غريب عزيز . {[10534]}

وقوله : { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن أبي هريرة قال : يلقى عيسى حجته ، ولقَّاه الله في قوله : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله : { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي آخر الآية .

وقد رواه الثوري ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن طاوس ، بنحوه .

وقوله : { إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } أي : إن كان صَدَرَ مني هذا فقد علمته يا رب ، فإنه لا يخفى عليك شيء مما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته ؛ ولهذا قال : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ }


[10533]:في د: "فالذي".
[10534]:تاريخ دمشق (19/128 القسم المخطوط) والمختصر لابن منظور (29/54).