في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ} (5)

والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال . بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة . فالكمال يبلغ درجة الجمال . ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها :

( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ) . .

وما السماء الدنيا ? لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن . ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين ، التي نراها حين ننظر إلى السماء . فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء . وما كانوا يملكون إلا عيونهم ، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء .

ومشهد النجوم في السماء جميل . ما في هذا شك . جميل جمالا يأخذ بالقلوب . وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته ؛ ويختلف من صباح إلى مساء ، ومن شروق إلى غروب ، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء . ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب . . بل إنه ليختلف من ساعة لساعة . ومن مرصد لمرصد . ومن زاوية لزاوية . . وكله جمال وكله يأخذ بالألباب .

هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك ، وكأنها عين جميلة ، تلتمع بالمحبة والنداء !

وهاتان النجمتان المنفردتان هناك ، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان !

وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك ، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء . وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان !

وهذا القمر الحالم الساهي ليلة . والزاهي المزهو ليلة . والمنكسر الخفيض ليلة . والوليد المتفتح للحياة ليلة . والفاني الذي يدلف للفناء ليلة . . !

وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده ، ولا يبلغ البصر آماده .

إنه الجمال . الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه ، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات !

والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء ، وإلى جمال الكون كله ، لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود . وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه ، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة ، في عالم طليق جميل ، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية . وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون . ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه .

ويذكر النص القرآني هنا أن هذه المصابيح التي زين الله السماء الدنيا بها هي كذلك ذات وظيفة أخرى : ( وجعلناها رجوما للشياطين ) . .

وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرفا من خبرها ؛ وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه . وهو كاف بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور .

فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين ، وردت بعض صفاتهم في القرآن ، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال ، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين ، في صورة شهب كما جاء في سورة أخرى : ( وحفظا من كل شيطان مارد ) . . . ( إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) . . كيف ? من أي حجم ? في آية صورة ? كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئا ، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن . فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه . وهذا هو المقصود . ولو علم الله أن هناك خيرا في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفصل سبحانه . فمالنا نحن نحاول ما لم يعلم الله أن فيه خيرا ? : في مثل هذا الأمر . أمر رجم الشياطين ? !

ثم يستطرد فيما أعده الله للشياطين غير الرجوم :

( وأعتدنا لهم عذاب السعير ) . .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ} (5)

{ زينا السماء الدنيا بمصابيح } بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح ، ليست كمصابيحكم التي تعرفونها . { وجعلناها رجوما للشياطين } أي جعلنا منها مراجم للشياطين بانقضاض الشهب المنبعثة عنها على مسترق السمع منهم ، جمع رجم ، وهو في الأصل مصدر رجمه رجما – من باب نصر - : إذا رماه بالرجام أي الحجارة ؛ سمي به ما يرجم به . { وأعتدنا لهم عذاب السعير } عذاب النار المشتعلة في الآخرة ، بعد الرجم في الدنيا بالشهب . يقال : سعر النار – كمنع – ألهبها ؛ كسعرها وأسعرها ، فهي مسعورة وسعير .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ زَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنۡيَا بِمَصَٰبِيحَ وَجَعَلۡنَٰهَا رُجُومٗا لِّلشَّيَٰطِينِۖ وَأَعۡتَدۡنَا لَهُمۡ عَذَابَ ٱلسَّعِيرِ} (5)

وقوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء } الخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتناناً وفي الإرشاد بيان لكون خلق السموات في غاية الحسن والبهاء أثر بيان خلوها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء { الدنيا } منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس { بمصابيح } جمع مصباح وهو السراج وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزاً على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضاً وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها وقيل للتنويع والأول أولى والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قرباً وبعدا في ثخن السماء الدنيا وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه فزينا السماء بمصابيح كقول القائل

زينت السقف بالقناديل *** وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكاً مخصوصاً يسمى بلسان الشرع بالكرسي أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه أو كل منها في فلك وسماء غير السبع والاقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى إفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبهه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكاً أو سماء وهي متفاوتة قرباً وبعداً تفاوتاً كلياً وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليوناً من الفراسخ والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها قال يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذا الفضاء وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلاً أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقاً فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتاً صحيحاً ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفي على من استضاء بمصابيحه { وجعلناها رُجُوماً للشياطين } الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى جعلنا منها أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع وقيل أنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضاً والمراد بالشياطين مسترقوا السمع ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسايط وقال الشهاب لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى .

وأقول : لا يخفي أن ذلك المبنى لا يتم أيضاً إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلاً أو بعضاً كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالابروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضىء محرقاً أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساماً متصاعدة من الأرض فتحرقها وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جداً وربما تكونت الحجارة من ذلك ثم إن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعد ما يشاهد لها من الانقضاض وأن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز وجل والضمير المنصوب في جعلناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير { وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره } [ فاطر : 11 ] وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوماً ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها في الجملة فالأمر ظاهر جداً ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الاطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها والكلام نحو قولك اسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمى بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبساً من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمى به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو وأن يكون لتفاوت الاستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلا لرمي الشياطين فيحتمل أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جداً تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلاً عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبهاً أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلا أن بعضاً مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر وقيل معنى الآية وجعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فارجع إليه إن أردته فإنه نفيس جداً { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } وهيأنا للشياطين { عَذَابِ السعير } عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا ناراً فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون ناراً أقوى من نار واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون .