والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال . بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة . فالكمال يبلغ درجة الجمال . ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها :
( ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ) . .
وما السماء الدنيا ? لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن . ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين ، التي نراها حين ننظر إلى السماء . فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء . وما كانوا يملكون إلا عيونهم ، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء .
ومشهد النجوم في السماء جميل . ما في هذا شك . جميل جمالا يأخذ بالقلوب . وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته ؛ ويختلف من صباح إلى مساء ، ومن شروق إلى غروب ، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء . ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب . . بل إنه ليختلف من ساعة لساعة . ومن مرصد لمرصد . ومن زاوية لزاوية . . وكله جمال وكله يأخذ بالألباب .
هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك ، وكأنها عين جميلة ، تلتمع بالمحبة والنداء !
وهاتان النجمتان المنفردتان هناك ، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان !
وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك ، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء . وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان !
وهذا القمر الحالم الساهي ليلة . والزاهي المزهو ليلة . والمنكسر الخفيض ليلة . والوليد المتفتح للحياة ليلة . والفاني الذي يدلف للفناء ليلة . . !
وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده ، ولا يبلغ البصر آماده .
إنه الجمال . الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه ، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات !
والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء ، وإلى جمال الكون كله ، لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود . وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه ، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة ، في عالم طليق جميل ، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية . وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون . ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه .
ويذكر النص القرآني هنا أن هذه المصابيح التي زين الله السماء الدنيا بها هي كذلك ذات وظيفة أخرى : ( وجعلناها رجوما للشياطين ) . .
وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرفا من خبرها ؛ وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه . وهو كاف بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور .
فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين ، وردت بعض صفاتهم في القرآن ، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال ، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين ، في صورة شهب كما جاء في سورة أخرى : ( وحفظا من كل شيطان مارد ) . . . ( إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب ) . . كيف ? من أي حجم ? في آية صورة ? كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئا ، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن . فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه . وهذا هو المقصود . ولو علم الله أن هناك خيرا في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفصل سبحانه . فمالنا نحن نحاول ما لم يعلم الله أن فيه خيرا ? : في مثل هذا الأمر . أمر رجم الشياطين ? !
{ زينا السماء الدنيا بمصابيح } بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح ، ليست كمصابيحكم التي تعرفونها . { وجعلناها رجوما للشياطين } أي جعلنا منها مراجم للشياطين بانقضاض الشهب المنبعثة عنها على مسترق السمع منهم ، جمع رجم ، وهو في الأصل مصدر رجمه رجما – من باب نصر - : إذا رماه بالرجام أي الحجارة ؛ سمي به ما يرجم به . { وأعتدنا لهم عذاب السعير } عذاب النار المشتعلة في الآخرة ، بعد الرجم في الدنيا بالشهب . يقال : سعر النار – كمنع – ألهبها ؛ كسعرها وأسعرها ، فهي مسعورة وسعير .
{ بمصابيح } : أي بنجوم مضيئة كالمصابيح .
{ رجوماً للشياطين } : أي مراجم جمع مرجم وهو ما يرجم به أي يرمى .
{ وأعتدنا لهم عذاب السعير } : أي وهيأنا لهم عذاب النار المسعرة الشديدة الاتقاد .
وقوله تعالى : { ولقد زينا السماء الدنيا } أي هذه الدانية من الأرض القريبة منها بمصابيح هي النجوم والكواكب . وجعلناها أي النجوم رجوماً للشياطين ترجم بها الملائكة شياطين الجن الذين يريدون استراق السمع من كلام الملائكة حتى لا يفتنوا الناس في الأرض عن دين الله عز وجل . وقوله تعالى { وأعتدنا لهم عذاب السعير } أي وهيأنا للشياطين عذاب السعير يعذبون به يوم القيامة كسائر الكافرين من الإنس والجن .
- بيان الحكمة من خلق النجوم وهي في قول قتادة رحمه الله : إن الله جل ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال : زينة لسماء الدنيا ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها .
ثم صرح بذكر حسنها فقال : { 5 - 10 } { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ * وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }
أي : ولقد جملنا { السَّمَاءَ الدُّنْيَا } التي ترونها وتليكم ، { بِمَصَابِيحَ } وهي : النجوم ، على اختلافها في النور والضياء ، فإنه لولا ما فيها من النجوم ، لكانت سقفًا مظلمًا ، لا حسن فيه ولا جمال .
ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء ، [ وجمالا ] ، ونورًا وهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح ، أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع ، فإن السماوات شفافة ، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا ، وإن لم تكن الكواكب فيها ، { وَجَعَلْنَاهَا } أي : المصابيح { رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } الذين يريدون استراق خبر السماء ، فجعل الله هذه النجوم ، حراسة للسماء عن تلقف الشياطين أخبار الأرض ، فهذه الشهب التي ترمى من النجوم ، أعدها الله في الدنيا للشياطين ، { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } في الآخرة { عَذَابِ السَّعِيرِ } لأنهم تمردوا على الله ، وأضلوا عباده ، ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم ، قد أعد الله لهم عذاب السعير ، فلهذا قال :
ولما أخبر سبحانه وتعالى عن بديع هذا الخلق ، ونبه على بعض دقائقه وأمر بالإبصار{[66767]} وتكريره ، وكان السامع أول ما يصوب نظره إلى السماء لشرفها وغريب صنعها وبديع وضعها ومنيع رفعها ، فكان بحيث يتوقع الإخبار عن هذه الزينة التي رصعت بها ، قال في جواب من{[66768]} توقعه مؤكداً بالقسم إعلاماً بأنه ينبغي أن يبعد العاقل عن إنكار شيء مما ينسب إلى صاحب هذا الخلق من الكمال ، عاطفاً{[66769]} على ما تقديره : لقد كفى هذا القدر في الدلالة على عظمة {[66770]}مبدع هذا الصنع{[66771]} وتمام قدرته : { ولقد }{[66772]} واستجلب الشكر بجلب المسار فقال ناظراً إلى مقام العظمة صرفاً للعقول عما اقتضاه " الرحمن " من عموم الرحمة تذكيراً بما في الآية الماضية ، وتنبيهاً على ما في الزينة بالنجوم من مزجها بالرجوم الذي هو عذاب " {[66773]}الجن المتمردين الطاغين{[66774]} " : { زينا } دلالة أخرى {[66775]}تدل على العظمة{[66776]} بعد تلك الدلالة الأولى{[66777]} { السماء الدنيا } {[66778]}أي أدنى السماوات إلى الأرض ، وهي التي {[66779]}تشهد وأنتم دائماً{[66780]} تشاهدونها ، وهي سقف الدار التي اجتمعتم فيها في هذه الحياة الدنيا{[66781]} { بمصابيح } أي نجوم متقدة عظيمة جداً ، كثرتها تفوت الحصر ، ظاهرة سائرة مضيئة زاهرة . وهي الكواكب التي تنور الأرض بالليل إنارة السرج التي تزينون بها سقوف دوركم ، فتفيد شعبة من ضوء الصباح ، والتزيين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيها فوقها من السماوات{[66782]} وهي تتراءى لنا بحسب الشفوف بما للأجرام السماوية من الصفاء ، ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة .
ولما أخبر - {[66783]}جلت قدرته{[66784]} - بعظيم قدرته فيها منبهاً على ما فيها من جلب المسار بتلك الأنوار ، والهداية في الدين والدنيا ، التي لولا هي لما انتفع أحد في ليل انتفاعاً تاماً ، أخبر بما فيها مع الزينة من دفع المضار بعبارة عامة ، وإن كان المراد البعض{[66785]} الأغلب ، فإن ما للرجوم منها غير ما للاهتداء والرسوم فقال : { وجعلناها } أي النجوم من حيث هي{[66786]} بعظمتنا مع كونها زينة وأعلاماً للهداية { رجوماً } جمع رجم وهو مصدر واسم لما يرجم به { للشياطين } الذين يستحقون{[66787]} الطرد {[66788]}والبعد والحرق{[66789]} من الجن لما لهم من الاحتراق ، {[66790]}وذلك بياناً لعظمتنا{[66791]} وحراسة للسماء الدنيا التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر ، وإنزال هذا الذكر{[66792]} الحكيم لئلا يفسدوا باستراق السمع منها على الناس دينهم الحق ، ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي ختمنا به الأديان بالباطل ، فيخرجوهم - لأنهم أعداؤهم - من النور إلى الظلمات كما{[66793]} كانوا في الجاهلية ، مع ما فيها بما خلق سبحانه في أمزجتها من ترطيب وتجفيف ، وحر وبرد واعتدال ، ينشأ عنه الفصول الأربعة ، وقهرها به من شروق وغروب وحركة وسكون يعرف بها ما إليه المآل ، مما أخبرت به الرسل من الزوال ، مع ما يدل من الليل والنهار والعشي والإبكار ، وأشياء يكل عنها الوصف في ذواتها وعن إحصاء منافعها ، حتى لو عدم{[66794]} شيء مما في السماوات مما دبره الحكيم لصلاح{[66795]} هذا العالم يهلك كل حيوان ونبات على وجه الأرض ، والشهاب المرجوم به منفصل من نار{[66796]} الكواكب ، وهو قار{[66797]} في فلكه على حاله ، كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية {[66798]}على حالها{[66799]} لا تنقص ، وذلك مسوغ لتسميتها بالرجوم ، فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله . ويحتمل مع ذلك أن يكون المراد : ظنوناً لشياطين الإنس وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء هي {[66800]}من عظيم{[66801]} الابتلاء ليتبين الموقن من المزلزل ، والعالم من الجاهل . وفي البخاري{[66802]} : قال قتادة : " خلقت النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير{[66803]} ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف بما لا علم له به . " ولما كان التقدير : ورجمناهم بها بالفعل عند استراقهم للسمع إبعاداً لهم عن مسكن المكرمين ، ومحل النزاهة والأنس ومهبط القضاء والتقدير ، ونكالاً لغيرهم من أمثالهم عذاباً لهم في الدنيا ، عطف عليه قوله ترهيباً من جلاله بعد ما رغب في عظيم جماله{[66804]} : { وأعتدنا } أي{[66805]} هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة { لهم } أي الشياطين {[66806]}الذين يسترقون{[66807]} السمع{[66808]} { عذاب السعير - } أي النار{[66809]} التي هي في غاية الاتقاد ، {[66810]}ففي الآية{[66811]} بشارة لأهل السمع والبصر {[66812]}والعقل ، وفيها من التنبيه ما لا يخفى{[66813]} .