وما يكاد يفيق من تصور هذه الحقيقة الضخمة التي تملأ الكيان البشري وتفيض ، حتى تطالعه حقيقة أخرى ، لعلها أضخم وأقوى . حقيقة أن لا كينونة لشيء في هذا الوجود على الحقيقة . فالكينونة الواحدة الحقيقية هي لله وحده سبحانه ؛ ومن ثم فهي محيطة بكل شيء ، عليمة بكل شيء :
( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) . .
الأول فليس قبله شيء . والآخر فليس بعده شيء . والظاهر فليس فوقه شيء . والباطن فليس دونه شيء .
الأول والآخر مستغرقا كل حقيقة الزمان ، والظاهر والباطن مستغرقا كل حقيقة المكان . وهما مطلقتان . ويتلفت القلب البشري فلا يجد كينونة لشيء إلا لله . وهذه كل مقومات الكينونة ثابتة له دون سواه . حتى وجود هذا القلب ذاته لا يتحقق إلا مستمدا من وجود الله . فهذا الوجود الإلهي هو الوجود الحقيقي الذي يستمد منه كل شيء وجوده . وهذه الحقيقة هي الحقيقة الأولى التي يستمد منها كل شيء حقيقته . وليس وراءها حقيقة ذاتية ولا وجود ذاتي لشيء في هذا الوجود . .
( وهو بكل شيء عليم ) . . علم الحقيقة الكاملة . فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الإلهية وصادرة عنها . فهي مستغرقة إذن بعلم الله اللدني بها . العلم الذي لا يشاركه أحد في نوعه وصفته وطريقته . مهما علم المخلوقون عن ظواهر الأشياء !
فإذا استقرت هذه الحقيقة الكبرى في قلب ، فما احتفاله بشيء في هذا الكون غير الله سبحانه ? وكل شيء لا حقيقة له ولا وجود - حتى ذلك القلب ذاته - إلا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى ? وكل شيء وهم ذاهب ، حيث لا يكون ولا يبقى إلا الله ، المتفرد بكل مقومات الكينونة والبقاء ?
وإن استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة . فأما قبل أن يصل إلى هذا الاستقرار ، فإن هذه الآية القرآنية حسبه ليعيش في تدبرها وتصور مدلولها ، ومحاولة الوصول إلى هذا المدلول الواحد وكفى !
ولقد أخذ المتصوفة بهذه الحقيقة الأساسية الكبرى ، وهاموا بها وفيها ، وسلكوا إليها مسالك شتى ، بعضهم قال إنه يرى الله في كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله من وراء كل شيء في الوجود . وبعضهم قال : إنه رأى الله فلم ير شيئا غيره في الوجود . . وكلها أقوال تشير إلى الحقيقة إذا تجاوزنا عن ظاهر الألفاظ القاصرة في هذا المجال . إلا أن ما يؤخذ عليهم - على وجه الإجمال - هو أنهم أهملوا الحياة بهذا التصور . والإسلام في توازنه المطلق يريد من القلب البشري أن يدرك هذه الحقيقة ويعيش بها ولها ، بينما هو يقوم بالخلافة في الأرض بكل مقتضيات الخلافة من احتفال وعناية وجهاد وجهد لتحقيق منهج الله في الأرض ، باعتبار هذا كله ثمرة لتصور تلك الحقيقة تصورا متزنا ، متناسقا مع فطرة الإنسان وفطرة الكون كما خلقهما الله .
{ هو الأول } أي السابق على جميع الموجودات ، من حيث إنه موجدها ومحدثها ؛ فهو موجود قبل كل شيء بغير حد ولا بداية . { والآخر } أي الباقي بعد فنائها . جمع الموجودات الممكنة إذا نظر إليها في ذاتها ، وقطع النظر عن مبيقها – فانية ؛ والله تعالى هو الباقي بعد كل شيء بغير نهاية .
{ والظاهر } أي الظاهر وجوده بالأدلة الواضحة . أو الغالب العالي على كل شيء . { والباطن } أي
المحتجب بكنه ذاته عن إدراك الأبصار والحواس والعقول . أو العالم بما بطن – خفي – من الأمور . يقال : أنت أبطن بهذا الأمر ، أي أحبر به وأعلم .
الظاهر والباطن : هو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت ، وخفيتْ عنا ذاته فلم ترها العيون ، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله ، باطن بذاته .
هو الأول بلا ابتداء قبلَ كل شيء ، والآخر بلا انتهاء بعد كل شيء : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] . وهو الظاهر بالآثار والأفعال ، والباطنُ فلا تدركه الأبصار { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فلا يخفى عليه شيءٌ في السموات والأرض .
قوله تعالى : { سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير هو الأول والآخر والظاهر والباطن } يعني : هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء ، بل كان هو ولم يكن شيء موجوداً ، والآخر بعد فناء كل شيء ، بلا انتهاء تفنى الأشياء ويبقى هو ، والظاهر الغالب العالي على كل شيء ، والباطن العالم بكل شيء ، هذا معنى قول ابن عباس . وقال يمان : هو الأول القديم والآخر الرحيم ، والظاهر الحليم ، والباطن العليم . وقال السدي : هو الأول ببره إذ عرفك توحيده ، والآخر بجوده إذ عرفك التوبة على ما جنيت ، والظاهر بتوفيقه إذ وفقك للسجود له ، والباطن بستره إذ عصيته فستر عليك . وقال الجنيد : هو الأول بشرح القلوب ، والآخر بغفران الذنوب ، والظاهر بكشف الكروب ، والباطن بعلم الغيوب . وسأل عمر -رضي الله تعالى عنه- كعباً عن هذه الآية فقال : معناها إن علمه بالأول كعلمه بالآخر ، وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن . { وهو بكل شيء عليم } ، أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد ، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير عن سهيل قال : " كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول : اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل والقرآن ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عني الدين وأغنني من الفقر " وكان يروى ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : " هو الأول والآخر والظاهر والباطن " اختلف في معاني هذه الأسماء وقد بيناها في الكتاب الأسنى . وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم شرحا يغني عن قول كل قائل ، فقال في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : ( اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين واغننا من الفقر ) عنى بالظاهر الغالب ، وبالباطن العالم ، والله أعلم .
ولما أخبر بتمام القدرة ، دل على ذلك بقوله : { هو } أي وحده { الأول } أي بالأزلية قبل كل شيء فلا أول له ، والقديم الذي منه وجود كل شيء وليس{[62352]} وجوده من شيء لأن كل ما نشاهده متأثر لأنه حقير ، وكل ما كان كذلك فلا بد له من موجد غير متأثر { والآخر } بالأبدية ، الذي ينتهي إليه وجود كل شيء في سلسلة الترقي وهو بعد فناء كل شيء ولو بالنظر إلى ما له من ذاته فلا آخر له لأنه يستحيل عليه نعت{[62353]} العدم لأن كل ما سواه متغير ، وكل ما تغير بنوع من التغيير جاز إعدامه ، وما جاز إعدامه فلا بد له من معدم يكون بعده ولا يمكن إعدامه .
ولما كان السبق يقتضي البطون ، والتأخر يوجب الظهور ، وكانا أمرين متضادين لا يكاد الإنسان يستقل بتعلقهما في شيء واحد ، نبه على اجتماعهما فيه ، فقال مشيراً بالواو إلى تمام الاتصاف وتحققه : { والظاهر } أي بالأحدية للعقل بأدلته الظاهرة في المصنوعات بما له من الأفعال ظهوراً لا يجهله عاقل ، وهو الغالب في رفعته وعلوه فليس فوقه شيء { والباطن } بالصمدية وعن انطباع الحواس وارتسام الخيال وتصور الفهم والفكر وبتمام العلم والحكمة بما له من العظمة في ذاته بكثرة التعالي والحجب بطوناً لا{[62354]} يكتنهه شيء ، وقال القشيري : الأول بلا ابتداء ، الآخر بلا انتهاء . الظاهر بلا خفاء ، الباطن{[62355]} بنعت العلا وعز الكبرياء - انتهى ، والعطف للدلالة كما أشير إليه على الإحاطة التامة لأنها لما كانت متضادة كانت بحيث لو أعريت عن الواو لربما ظن أن وجودها لا على سبيل التمكن ، فلا تكون محيطة بل مقيدة بحيثية مثلاً فجاءت الواو دلالة على تمكن الوصف وإحاطته وإنه واقع بكل اعتبار ليس واحد من الأوصاف مكملاً لشيء آخر ولا شارحاً لمعناه ، فهو أول على الإطلاق{[62356]} وآخر كذلك ، وظاهر حتى في حال بطونه وباطن كذلك ، وهذا على الأصل فإن صفاته تعالى محيطة فلا إشكال ، إنما الإشكال عند الخلو من العطف فهو الأغلب في إيرادها كما في آخر الحشر ، ولعل ذلك مراد الكشاف بقوله : إن{[62357]} الواو الأولى معناها الدلالة على الجامع بين الصفتين{[62358]} الأولية والآخرية ، أي جمعاً هو في غاية المكنة ، والثالثة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء ، وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخيرتين ، فهو المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية . انتهى .
ولما كان من ظهر لشيء بطن عن غيره ، ومن بطن لشيء غاب عنه علمه ، وكان سبحانه في ظهوره على ذلك بمعنى{[62359]} أنه ليس فوقه شيء ، وفي بطونه بحيث ليس دونه شيء ، فقد جمعت الأوصاف إحاطة العلم والقدرة ، أعلم نتيجة ذلك فقال : { وهو بكل شيء عليم * } أي لكون{[62360]} الأشياء عنده{[62361]} على حد سواء ، و{[62362]}البطون والظهور إنما هو بالنسبة إلى الخلق ، وأما هو سبحانه فلا باطن من الخلق عنده بل هو في غاية الظهور لديه لأنه الذي أوجدهم ، وهذا معنى ما قال البغوي{[62363]} رحمه الله تعالى : سأل عمر رضي الله عنه كعباً عن هذه الآية فقال : معناها أن علمه بالأول كعلمه بالآخر ، وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن - انتهى .
قوله : { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } الله ، هو الأول يعني القديم الذي لا يسبقه شيء . وهو سبحانه الآخر يعني الدائم الذي يبقى بعد هلاك كل شيء . وهذا مالا خلاف فيه ولا إشكال في فهمه ، لكن الخلاف في تأويل الظاهر والباطن . أما الظاهر : فهو ظهوره بفيض الأدلة الدالة عليه . وأما الباطن : فلأنه لا تدركه الأبصار ولا الحواس .
وقيل : الظاهر ، يعني العالي على كل شيء ، فهو يعلوه وغالب عليه والباطن الذي يعلم بواطن الأشياء . وقيل : الظاهر ، على كل شيء علما . والباطن ، على كل شيء علما . وقيل : الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، والباطن الذي ليس تحته شيء ، فهو المحيط بقدرته وعلمه وسلطانه بكل شيء . وهذا الأظهر والأولى . وفي ذلك روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم " اللهم رب السماوات السبع رب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شركل شيء أنت آخذ بناصيته . أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، واغننا من الفقر " {[4455]} .