في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية ، سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود والإنسانية . حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة ؛ وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة ؛ وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد التربية والتهذيب ، ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات !

وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير .

وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة ، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة ، لعالم رفيع كريم نظيف سليم ؛ متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم ؛ والتي تكفل قيامه أولاً ، وصيانته أخيراً . . عالم يصدر عن الله ، ويتجه إلى الله ، ويليق أن ينتسب إلى الله . . علم نقي القلب ، نظيف المشاعر ، عف اللسان ، وقبل ذلك عف السريرة . . عالم له أدب مع الله ، وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع غيره . أدب في هواجس ضميره ، وفي حركات جوارحه . وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه ، وله نظمه التي تكفل صيانته . وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب ، وتنبثق منه ، وتتسق معه ؛ فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره ، وتتلاقى شرائعه ومشاعره ، وتتوازن دوافعه وزواجره ؛ وتتناسق أحاسيسه وخطاه ، وهو يتجه ويتحرك إلى الله . . ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته ، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ؛ ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم . بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق . كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده ، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها . بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة ، والدولة بالأفراد ؛ وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق .

هو عالم له أدب مع الله ، ومع رسول الله . يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب ، والرسول الذي يبلغ عن الرب : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله ، إن الله سميع عليم ) . . فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي ، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم ؛ ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه ؛ ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه . . تقوى منه وخشية ، وحياء منه وأدبا . . وله أدب خاص فيه خطاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتوقيره : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي . ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرة وأجر عظيم . إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .

وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال ، والاستيثاق من مصدرها ، قبل الحكم عليها . يستند هذا المنهج إلى تقوى الله ، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله ، في غير ما تقدم بين يديه ، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ؛ واعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم . ولكن الله حبب إليكم الإيمان ، وزينه في قلوبكم ، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، أولئك هم الراشدون ، فضلا من الله ونعمة ، والله عليم حكيم ) . .

وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات ، تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج . وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين ، ومن حقيقة العدل والإصلاح ، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا ، إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة ، فأصلحوا بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون ) . .

وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض ؛ وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض : ( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ؛ ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ؛ ولا تلمزوا أنفسكم ، ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم : الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) . .

وهو عالم نظيف المشاعر ، مكفول الحرمات ، مصون الغيبة والحضرة ، لا يؤخذ فيه أحد بظنة ، ولا تتبع فيه العورات ، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا . أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ? فكرهتموه ! واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم ) .

وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب ؛ وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع . إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ) . .

والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، تحدد معالم الإيمان ، الذي باسمه دعي المؤمنون إلى إقامة ذلك العالم . وباسمه هتف لهم ليلبوا دعوة الله الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل ، الحافز إلى التلبية والتسليم : يا أيها الذين آمنوا . . ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يدعى به من الله أن لا يجيب ؛ والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة ، ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب : ( قالت الأعراب : آمنا . قل : لم تؤمنوا ، ولكن قولوا : أسلمنا . ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ، إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون . قل : أتعلمون الله بدينكم ، والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، والله بكل شيء عليم ) . .

وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر . هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء ، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق : يمنون عليك أن أسلموا . قل : لا تمنوا علي إسلامكم . بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون . .

فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة ، ومن مراجعة المناسبات الواقعية التي صاحبت نزول آياتها ، فهو هذا الجهد الضخم الثابت المطرد ، الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة ، لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة ، التي تمثل ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم ، الذي وجدت حقيقته يوما على هذه الأرض ؛ فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثالية ، ولا حلما طائرا ، يعيش في الخيال !

هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة ؛ ولم تخلق بين يوم وليلة . كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة . بل نمت نموا طبيعيا بطيئا كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور . وأخذت الزمن اللازم لنموها ، كما أخذت الجهد الموصول الثابت المطرد الضروري لهذا النمو . واحتاجت إلى العناية الساهرة ، والصبر الطويل ، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب ، والتوجيه والدفع ، والتقوية والتثبيت . واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة والابتلاءات الشاقة المضنية ؛ مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات . . وفي هذا كله كانت تتمثل الرعاية الإلهية لهذه الجماعة المختارة - على علم - لحمل هذه الأمانة الكبرى ؛ وتحقيق مشيئة الله بها في الأرض . وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل ؛ وفي الظروف والأحوال المهيأة له على السواء . . وبهذا كله أشرقت تلك الومضة العجيبة في تاريخ البشرية ؛ ووجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد وكأنها حلم مرفرف في قلب ، أو رؤيا مجنحة في خيال !

( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله إن الله سميع عليم . يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، لهم مغفرة وأجر عظيم . إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون . ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ، والله غفور رحيم ) . .

تبدأ السورة بأول نداء حبيب ، وأول استجاشة للقلوب . ( يا أيها الذين آمنوا ) . . نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب . واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به ، وتشعرهم بأنهم له ، وأنهم يحملون شارته ، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده ، وأنهم هنا لأمر يقدره ويريده ، وأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختيارا لهم ومنة عليهم ، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا ، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره ، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم ، ويسلم ويستسلم :

( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله إن الله سميع عليم ) . .

يا أيها الذين آمنوا ، لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحا ، لا في خاصة أنفسكم ، ولا في أمور الحياة من حولكم . ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله ، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله .

قال قتادة : ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون : لو أنزل في كذا وكذا . لو صح كذا . فكره الله تعالى ذلك . وقال العوفي : نهوا أن يتكلموا بين يديه . وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه . وقال الضحاك : لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم . وقال علي بن طلحة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة .

فهو أدب نفسي مع الله ورسوله . وهو منهج في التلقي والتنفيذ . وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته . . وهو منبثق من تقوى الله ، وراجع إليها . هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم . . وكل ذلك في آية واحدة قصيرة ، تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصلية الكبيرة .

وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم ؛ فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله ؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يدلي به ؛ وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم ، إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول . .

روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه - باسناده - عن معاذ - رضي الله عنه - حيث قال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين بعثه إلى اليمن : " بم تحكم ? " قال : بكتاب الله تعالى . قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فإن لم تجد ? " قال : بسنة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " فإن لم تجد ? " قال - رضي الله عنه - : أجتهد رأيي . فضرب في صدره وقال " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لما يرضي رسول الله " .

وحتى لكأن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يسألهم عن اليوم الذي هم فيه ، والمكان الذي هم فيه ، وهم يعلمونه حق العلم ، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم : الله ورسوله أعلم . خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله !

جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي - رضي الله عنه - أن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] سأل في حجة الوداع :

" أي شهر هذا ? " . . قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : " أليس ذا الحجة ? " قلنا بلى ! قال : " أي بلد هذا ? " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : " أليس البلدة الحرام ? " قلنا : بلى ! قال : " فأي يوم هذا ? " قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه . فقال : أليس يوم النحر ? قلنا بلى ! . . الخ .

فهذه صورة من الأدب ، ومن التحرج ، ومن التقوى ، التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء ، وذلك التوجيه ، وتلك الإشارة إلى التقوى ، تقوى الله السميع العليم .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية ، وآياتها ثماني عشر

بسم الله الرحمان الرحيم

{ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } لا تقطعوا أمرا ، وتجترئوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم به ويأذنا فيه . وهو إرشاد عام في كل شيء . ومنع من الافتئات على الله ورسوله في أي أمر . و{ تقدموا } من قدم المتعدي . تقول : قدمت فلان على فلان ، جعلته متقدما عليه وحذف مفعوله قصدا إلى التعميم . و " بين يدي الله ورسوله " تمثيل للتعجل في الإقدام على قطع الحكم في أمر من أمور الدين بغير إذن من الله ورسوله – بحالة من تقدم بين يدي متبوعه إذا سار في طريق ؛ فإنه في العادة مستهجن . أو المراد : بين يدي رسول الله ؛ وذكر لفظ الجلالة تعظيما للرسول ، وإشعارا بأنه من الله تعالى بمكان يوجب إجلاله .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الحجرات مدنية وآياتها ثماني عشرة ، نزلت بعد سورة المجادلة . وهي من آخر ما نزل من القرآن الكريم ، إذ نزلت في السنة التاسعة من الهجرة . وتتضمن هذه السورة الكريمة حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، وتشمل مناهج التكوين والتنظيم وقواعد التربية والتهذيب ومبادئ التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها بمرات كثيرة ، حتى لقد سمّاها بعضهم " سورة الأخلاق " . وقد سميت " سورة الحجرات " لأن الله تعالى ذكر فيها بيوت النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، وهي الحجرات التي كان يُسكن فيها أزواجه الطاهرات ، وذلك في عام الوفود . وكان بعض الوافدين أعرابا جفاة ، فكانوا ينادون من وراء الحجرات بأصواتهم الجافية : يا محمد ، اخرج إلينا . فكره النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغلظة والجفوة ، ونزل القرآن الكريم بتعليم الناس حسن الأدب مع الرسول الكريم . { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون . . } .

والسورة مشتملة على تهذيب وتشريع من شأنها رسم معالم كاملة لعالم رفيع كريم . وذلك لما تحويه السورة من القواعد والأصول والمبادئ التي يقوم عليها هذا العالم ، وما فيها من جهد ضخم رصين ، تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة ، لإنشاء الجماعة المسلمة وتربيتها لإبداع ذلك العالم الرفيع الكريم .

وقد جاء في السورة الكريمة خمسة نداءات بلفظ { يا أيها الذين آمنوا } وجاء نداء واحد بلفظ { يا أيها الناس } لأن الخطاب كان عاما للمؤمنين والكافرين ، وذلك في الآية العظيمة التي تضع مبدأ أن الشرف والعظمة هو بالتقوى ، لا بالأحساب والأنساب ، في قوله تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم } .

افتتحت السورة بنهي المؤمنين عن الحكم بأي شيء قبل أن يأمر به الله ورسوله ، وعن رفع أصواتهم فوق صوت النبي الكريم ، وأثنت على الذين يخفضون أصواتهم في حضرته ، وندّدت بمن لا يتأدبون فينادونه من وراء الحجرات بأصواتهم الجافية . ثم أمرت المؤمنين بالتثبت من أخبار الفاسقين وضعاف الإيمان ، وبينت الحكم عندما يتقاتل فريقان من المؤمنين وماذا يفعل الباقون إزاء ذلك . ونهت المؤمنين عن استهزاء بعضهم ببعض ، وتعييب بعضهم بعضا ، وعن ظن السوء بأهل الخير ، وعن تتبع بعضهم بعضا ، ونهت الأعراب عن ادّعاء الإيمان قبل أن يستقر في قلوبهم . ثم بينت من هم المؤمنون الصادقون ، وختمت الحديث بالنهي عن المن على رسول الله بالإسلام ، فالمنة لله عليهم بهدايتهم إلى الإيمان ، إن كانوا صادقين { إن الله يعلم غيب السموات والأرض ، والله بصير بما تعملون } .

لا تقَدموا بين يدي الله ورسوله : لا تعجلوا بالأمر قبل أن يأمر به الله ورسوله . يا أيها الذين آمنوا لا تعجَلوا بأي أمر قبل أن يقضيَ الله ورسوله لكم فيه ، فلا تقترحوا على الله ورسوله أي شيء قبل أن يقول الله ورسوله فيه ، واتقوا الله وراقِبوه خَشيةَ أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به . إن الله سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون .

في هذه الآية الكريمة وما يليها تأديبٌ للصحابة وتعليم وتهذيب ، فقد طلَب الله إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه ، ولا يعجَلوا بقولٍ أو فعل قبل الرسول الكريم .

قراءات :

قرأ يعقوب : لا تقدموا بفتح التاء والدال ، والباقون : لا تُقْدموا بضم التاء وكسر الدال المشدَّدة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الحجرات وهي مدنية

{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ }

هذا متضمن للأدب ، مع الله تعالى ، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتعظيم له ، واحترامه ، وإكرامه ، فأمر [ الله ] عباده المؤمنين ، بما يقتضيه الإيمان ، بالله وبرسوله ، من امتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وأن يكونوا ماشين ، خلف أوامر الله ، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في جميع أمورهم ، و [ أن ] لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله ، ولا يقولوا ، حتى يقول ، ولا يأمروا ، حتى يأمر ، فإن هذا ، حقيقة الأدب الواجب ، مع الله ورسوله ، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه ، وبفواته ، تفوته السعادة الأبدية ، والنعيم السرمدي ، وفي هذا ، النهي [ الشديد ] عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم ، على قوله ، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب اتباعها ، وتقديمها على غيرها ، كائنا ما كان{[792]}

ثم أمر الله بتقواه عمومًا ، وهي كما قال طلق بن حبيب : أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، تخشى عقاب الله .

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } أي : لجميع الأصوات في جميع الأوقات ، في خفي المواضع والجهات ، { عَلِيمٌ } بالظواهر والبواطن ، والسوابق واللواحق ، والواجبات والمستحيلات والممكنات{[793]} .

وفي ذكر الاسمين الكريمين -بعد النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله ، والأمر بتقواه- حث على امتثال تلك الأوامر الحسنة ، والآداب المستحسنة ، وترهيب عن عدم الامتثال{[794]} .


[792]:- في ب: من كان.
[793]:- في ب: والجائزات.
[794]:- في ب: عن ضده.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة الحجرات مدنية.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مقصودها:

الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم بالأدب معه في نفسه وفي أمته، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر ليكون دليلا على الباطن فيسمى إيمانا، كما أن الإيمان بالله يشترط فيه فعل الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون بينة على الباطن وحجة شاهدة له {ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} فحاصل مقصودها مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم في الأدب معه لأنها أول المفصل الذي هو ملخص القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله... واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما دلت عليه آيته.

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

قال المهايميّ: سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام. وهو من أعظم مقاصد القرآن...

وقد انفردت هذه السورة بآداب جليلة، أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وسلم، من التوقير والتبجيل...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذه السورة التي لا تتجاوز ثماني عشرة آية، سورة جليلة ضخمة، تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة، ومن حقائق الوجود والإنسانية. حقائق تفتح للقلب وللعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة؛ وتثير في النفس والذهن خواطر عميقة ومعاني كبيرة؛ وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم، وقواعد التربية والتهذيب، ومبادئ التشريع والتوجيه، ما يتجاوز حجمها وعدد آياتها مئات المرات!

وهي تبرز أمام النظر أمرين عظيمين للتدبر والتفكير.

وأول ما يبرز للنظر عند مطالعة السورة، هو أنها تكاد تستقل بوضع معالم كاملة، لعالم رفيع كريم نظيف سليم؛ متضمنة القواعد والأصول والمبادئ والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم؛ والتي تكفل قيامه أولاً، وصيانته أخيراً.. عالم يصدر عن الله، ويتجه إلى الله، ويليق أن ينتسب إلى الله.. علم نقي القلب، نظيف المشاعر، عف اللسان، وقبل ذلك عف السريرة.. عالم له أدب مع الله، وأدب مع رسوله، وأدب مع نفسه، وأدب مع غيره. أدب في هواجس ضميره، وفي حركات جوارحه. وفي الوقت ذاته له شرائعه المنظمة لأوضاعه، وله نظمه التي تكفل صيانته. وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك الأدب، وتنبثق منه، وتتسق معه؛ فيتوافى باطن هذا العالم وظاهره، وتتلاقى شرائعه ومشاعره، وتتوازن دوافعه وزواجره؛ وتتناسق أحاسيسه وخطاه، وهو يتجه ويتحرك إلى الله.. ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم النظيف السليم وصيانته، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور؛ ولا يوكل كذلك لمجرد التشريع والتنظيم. بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق. كذلك لا يوكل لشعور الفرد وجهده، كما لا يترك لنظم الدولة وإجراءاتها. بل يلتقي فيه الأفراد بالدولة، والدولة بالأفراد؛ وتتلاقى واجباتهما ونشاطهما في تعاون واتساق.

هو عالم له أدب مع الله، ومع رسول الله. يتمثل هذا الأدب في إدراك حدود العبد أمام الرب، والرسول الذي يبلغ عن الرب: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله، إن الله سميع عليم).. فلا يسبق العبد المؤمن إلهه في أمر أو نهي، ولا يقترح عليه في قضاء أو حكم؛ ولا يتجاوز ما يأمر به وما ينهى عنه؛ ولا يجعل لنفسه إرادة أو رأيا مع خالقه.. تقوى منه وخشية، وحياء منه وأدبا.. وله أدب خاص فيه خطاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وتوقيره: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي. ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم. إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم، والله غفور رحيم)..

وهو عالم له منهجه في التثبت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها، قبل الحكم عليها. يستند هذا المنهج إلى تقوى الله، وإلى الرجوع بالأمر إلى رسول الله، في غير ما تقدم بين يديه، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين؛ واعلموا أن فيكم رسول الله، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم. ولكن الله حبب إليكم الإيمان، وزينه في قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون، فضلا من الله ونعمة، والله عليم حكيم)..

وهو عالم له نظمه وإجراءاته العملية في مواجهة ما يقع فيه من خلاف وفتن وقلاقل واندفاعات، تخلخل كيانه لو تركت بغير علاج. وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة بين المؤمنين، ومن حقيقة العدل والإصلاح، ومن تقوى الله والرجاء في رحمته ورضاه: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما؛ فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله؛ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا، إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون)..

وهو عالم له آدابه النفسية في مشاعره تجاه بعضه البعض؛ وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم؛ ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن؛ ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب. بئس الاسم: الفسوق بعد الإيمان. ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)..

وهو عالم نظيف المشاعر، مكفول الحرمات، مصون الغيبة والحضرة، لا يؤخذ فيه أحد بظنة، ولا تتبع فيه العورات، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى مساس: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضا. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ فكرهتموه! واتقوا الله، إن الله تواب رحيم).

وهو عالم له فكرته الكاملة عن وحدة الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب؛ وله ميزانه الواحد الذي يقوم به الجميع. إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير)..

والسورة بعد عرض هذه الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم، تحدد معالم الإيمان، الذي باسمه دعي المؤمنون إلى إقامة ذلك العالم. وباسمه هتف لهم ليلبوا دعوة الله الذي يدعوهم إلى تكاليفه بهذا الوصف الجميل، الحافز إلى التلبية والتسليم: يا أيها الذين آمنوا.. ذلك النداء الحبيب الذي يخجل من يدعى به من الله أن لا يجيب؛ والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة، ويشوق كل قلب فيسمع ويستجيب: (قالت الأعراب: آمنا. قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا. ولما يدخل الإيمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا، إن الله غفور رحيم. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون. قل: أتعلمون الله بدينكم، والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، والله بكل شيء عليم)..

وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الإلهية للبشر. هبة الإيمان التي يمن بها على من يشاء، وفق ما يعلمه فيه من استحقاق: يمنون عليك أن أسلموا. قل: لا تمنوا علي إسلامكم. بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون..

فأما الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة، ومن مراجعة المناسبات الواقعية التي صاحبت نزول آياتها، فهو هذا الجهد الضخم الثابت المطرد، الذي تمثله توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة، لإنشاء وتربية تلك الجماعة المسلمة، التي تمثل ذلك العالم الرفيع الكريم النظيف السليم، الذي وجدت حقيقته يوما على هذه الأرض؛ فلم يعد منذ ذلك الحين فكرة مثالية، ولا حلما طائرا، يعيش في الخيال!

هذه الجماعة المثالية التي تمثلت حقيقة واقعة في فترة من فترات التاريخ لم تنبت فجأة ولم توجد مصادفة؛ ولم تخلق بين يوم وليلة. كذلك لم تظهر نتيجة نفحة تغير طبائع الأشياء كلها في لحظة أو ومضة. بل نمت نموا طبيعيا بطيئا كما تنمو الشجرة الباسقة العميقة الجذور. وأخذت الزمن اللازم لنموها، كما أخذت الجهد الموصول الثابت المطرد الضروري لهذا النمو. واحتاجت إلى العناية الساهرة، والصبر الطويل، والجهد البصير في التهذيب والتشذيب، والتوجيه والدفع، والتقوية والتثبيت. واحتاجت إلى معاناة التجارب الواقعية المريرة والابتلاءات الشاقة المضنية؛ مع التوجيه لعبرة هذه التجارب والابتلاءات.. وفي هذا كله كانت تتمثل الرعاية الإلهية لهذه الجماعة المختارة -على علم- لحمل هذه الأمانة الكبرى؛ وتحقيق مشيئة الله بها في الأرض. وذلك مع الفضائل الكامنة والاستعدادات المكنونة في ذلك الجيل؛ وفي الظروف والأحوال المهيأة له على السواء.. وبهذا كله أشرقت تلك الومضة العجيبة في تاريخ البشرية؛ ووجدت هذه الحقيقة التي تتراءى من بعيد وكأنها حلم مرفرف في قلب، أو رؤيا مجنحة في خيال!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

سميت في جميع المصاحف وكتب السنة والتفسير (سورة الحجرات) وليس لها اسم غيره، ووجه تسميتها أنها ذكر فيها لفظ الحجرات. ونزلت في قصة نداء بني تميم رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته، فعرفت بهذه الإضافة.

وهي مدنية باتفاق أهل التأويل، أي مما نزل بعد الهجرة...

كان نزول هذه السورة سنة تسع، وأول آيها في شأن وفد بني تميم كما سيأتي عند قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} وقوله {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}...

أغراض هاته السورة:

تتعلق أغراضها بحوادث جدت متقاربة كانت سببا لنزول ما فيها من أحكام وآداب.

وأولها تعليم المسلمين بعض ما يجب عليهم من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته وخطابه ونداءه، دعا إلى تعليمهم إياها ما ارتكبه وفد بني تميم من جفاء الأعراب لما نادوا الرسول صلى الله عليه وسلم من بيوته كما سيأتي عند قوله تعالى {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون}.

ووجوب صدق المسلمين فيما يخبرون به، والتثبت في نقل الخبر مطلقا وأن ذلك من خلق المؤمنين، ومجانبة أخلاق الكافرين والفاسقين، وتطرق إلى ما يحدث من التقاتل بين المسلمين، والإصلاح بينهم لأنهم إخوة، وما أمر الله به من آداب حسن المعاملة بين المسلمين في أحوالهم في السر والعلانية، وتخلص من ذلك إلى التحذير من بقايا خلق الكفر في بعض جفاة الأعراب تقويما لأود نفوسهم.

وقال فخر الدين عند تفسير قوله تعالى {يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا}: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس، وهم على صنفين: إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة أو خارجين عنها وهو الفسوق، والداخل في طائفتهم: إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم فهذه خمسة أقسام، قال: فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يا أيها الذين آمنوا} وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة، وسنأتي على بقية كلامه عند تفسير الآية الأولى من هذه السورة.

وهذه السورة هي أول سور المفصل بتشديد الصاد ويسمى المحكم على أحد أقوال في المذهب، وهو الذي ارتضاه المتأخرون من الفقهاء...

والمفصل هو السور التي تستحب القراءة ببعضها في بعض الصلوات الخمس على ما هو مبين في كتب الفقه.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة فصول تأديبية وتعليمية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوكية فيما يجب على المسلمين تجاه النبي صلى الله عليه وسلم وتجاه بعضهم. وفيها مشهد من مشاهد الأعراب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتبجحهم بالإسلام. وميزان لصدق إيمان المؤمنين وإفساح المجال للأعراب لدخولهم حظيرة الإسلام والدولة الإسلامية. والتساوق الموضوعي بين الفصول يسوغ ترجيح نزولها دفعة واحدة أو متتابعة، أما المناسبات المروية لنزول آياتها فالراجح أنها حدثت قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول آياتها...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا": يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله، وبنبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم "لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّه وَرَسُولِهِ "يقول: لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله، محكيّ عن العرب فلان يقدّم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل بالأمر والنهي دونه... عن ابن عباس، قوله: "لا تُقَدّموا بينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ" يقول: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة...

عن مجاهد، في قوله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ" قال: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه...

وقال: الحسن: أناس من المسلمين ذبحوا قبل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر، فأمرهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحا آخر...

عن قتادة، في قوله "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ" قال: إن أُناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لو أنزل في كذا...

قال ابن زيد، في قوله جلّ ثناؤه: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدّمُوا بَينَ يَدَي اللّهِ وَرَسُولِهِ" قال: لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله...

وقوله: "وَاتّقُوا اللّهَ إنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" يقول: وخافوا الله أيها الذين آمنوا في قولكم، أن تقولوا ما لم يأذن لكم به الله ولا رسوله، وفي غير ذلك من أموركم، وراقبوه، إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا لا تُقدّموا بين يدي الله ورسوله} قال بعضهم: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختلفا في شيء، بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتفعت أصواتهما، فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله} إلى آخر ما ذكر من قوله: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ}.

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

قال أبو بكر: يُحتجُّ بهذه الآية في امتناع جواز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في تقديم الفروض على أوقاتها وتأخيرها عنها وفي تركها، وقد يَحْتَجُّ بها من يوجب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في تَرْكِ ما فَعَلَهُ تقدماً بين يديه، كما أن في ترك أمره تقدماً بين يديه. وليس ذلك كما ظنوا؛ لأن التقدم بين يديه إنما هو فيما أراد منا فعله ففعلنا غيره، فأما ما لم يثبت أنه مراد منه فليس في تركه تقديم بين يديه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}: شهادةٌ للمنادَى بالشَّرف...

{لاَ تُقَدِّمُواْ} أَمْرٌ بتحمُّل الكُلَف. قدَّمَ الإكرام بالشرف على الإلزام بالكُلَف أي لا تقدموا بحكمكم {بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}: أي لا تقضوا أمراً من دون الله ورسوله أي لا تعملوا من ذات أنفسِكم شيئاً. ويقال: قفوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، وكونوا أصحابَ الاقتداءِ والاتّباع.. لا أربابَ الابتداءِ والابتداع...

أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :

وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي دونه...

ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل ورد وصدر...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى: أن لا تقطعوا أمراً إلا بعدما يحكمان به ويأذنان فيه، فتكونوا إما عاملين بالوحي المنزل، وإما مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم...

{واتقوا} فإنكم إن اتقيتموه عاقتكم التقوى عن التقدمة المنهي عنها وعن جميع ما تقتضي مراقبة الله تجنبه، فإن التقيّ حذر لا يشافه أمراً إلا عن ارتفاع الريب وانجلاء الشك في أن لا تبعة عليه فيه...

{إِنَّ الله سَمِيعٌ} لما تقولون {عَلِيمٌ} بما تعملون، وحق مثله أن يتقى ويراقب...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

قوله تعالى: {لا تقدموا} يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون من التقديم الذي هو متعد، وعلى هذا ففيه وجهان:

أحدهما: ترك مفعوله برأسه كما في قوله تعالى: {يحيي ويميت} وقول القائل فلان يعطي ويمنع ولا يريد بهما إعطاء شيء معين ولا منع شيء معين وإنما يريد بهما أن له منعا وإعطاء كذلك هاهنا، كأنه تعالى يقول لا ينبغي أن يصدر منكم تقديم أصلا. والثاني أن يكون المفعول الفعل أو الأمر كأنه يقول {لا تقدموا} يعني فعلا {بين يدي الله ورسوله} أو لا تقدموا أمرا.

الثاني: أن يكون المراد {لا تقدموا} بمعنى لا تتقدموا، وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد هو نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفسكم تقدما عند النبي صلى الله عليه وسلم، يقال فلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمره وعلا شأنه، والسبب فيه أن من ارتفع يكون متقدما في الدخول في الأمور العظام، وفي الذكر عند ذكر الكرام، وعلى هذا نقول سواء جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيدا، فالمعنى واحد لأن قوله {لا تقدموا} إذا جعلناه متعديا أو لازما لا يتعدى إلى ما يتعدى إليه التقديم في قولنا قدمت زيدا، فتقديره لا تقدموا أنفسكم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أي لا تجعلوا لأنفسكم تقدما ورأيا عنده، ولا نقول بأن المراد لا تقدموا أمرا وفعلا، وحينئذ تتحد القراءتان في المعنى، وهما قراءة من قرأ بفتح التاء والدال وقراءة من قرأ بضم التاء وكسر الدال.

وقوله تعالى: {بين يدي الله ورسوله} أي بحضرتهما لأن ما بحضرة الإنسان فهو بين يديه وهو ناظر إليه وهو نصب عينيه وفي قوله {بين يدي الله ورسوله} فوائد: أحدها أن قول القائل فلان بين يدي فلان، إشارة إلى كون كل واحد منهما حاضرا عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغلمان، لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تقليب الحدقة إليه وتحريك الرأس إليه عند الكلام والأمر، ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك، ولأن اليدين تنبئ عن القدرة يقول القائل هو بين يدي فلان، أي يقلبه كيف شاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعا بين يديه، وذلك مما يفيد وجوب الاحتراز من التقدم، وتقديم النفس لأن من يكون كمتاع يقلبه الإنسان بيديه كيف يكون له عنده التقدم. وثانيها ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد لأوامره، وذلك لأن احترام الرسول صلى الله عليه وسلم قد يترك على بعد المرسل وعدم اطلاعه على ما يفعل برسوله فقال: {بين يدي الله} أي أنتم بحضرة من الله تعالى وهو ناظر إليكم، وفي مثل هذه الحالة يجب احترام رسوله. وثالثها هو أن هذه العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر معنى الأمر المتأخر وهو قوله {واتقوا} لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يفعل به ما يشاء يكون جديرا بأن يتقيه.

وقوله تعالى: {واتقوا الله} يحتمل أن يكون ذلك عطفا يوجب مغايرة مثل المغايرة التي في قول القائل لا تتم واشتغل، أي فائدة ذلك النهي هو ما في هذا الأمر، وليس المطلوب به ترك النوم كيف كان، بل المطلوب بذلك الاشتغال فكذلك لا تقدموا أنفسكم ولا تتقدموا على وجه التقوى، ويحتمل أن يكون بينهما مغايرة أتم من ذلك، وهي التي في قول القائل احترم زيدا واخدمه، أي ائت بأتم الاحترام، فكذلك هاهنا معناه لا تتقدموا عنده وإذا تركتم التقدم فلا تتكلوا على ذلك فلا تنتفعوا بل مع أنكم قائمون بذلك محترمون له اتقوا الله واخشوه وإلا لم تكونوا أتيتم بواجب الاحترام. وقوله تعالى: {إن الله سميع عليم} يؤكد ما تقدم لأنهم قالوا آمنا، لأن الخطاب يفهم بقوله {يأيها الذين آمنوا} فقد يسمع قولهم ويعلم فعلهم وما في قلوبهم من التقوى والخيانة، فلا ينبغي أن يختلف قولكم وفعلكم وضمير قلبكم، بل ينبغي أن يتم ما في سمعه من قولكم آمنا وسمعنا وأطعنا وما في علمه من فعلكم الظاهر، وهو عدم التقدم وما في قلوبكم من الضمائر وهو التقوى.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {لا تقدموا} وحذف المفعول ليعم كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم- كل مذهب، ويجوز أن يكون حذفه من قصد إليه أصلاً، بل يكون النهي موجهاً إلى نفس التقدمة أي لا تتلبسوا بهذا الفعل،...

{بين يدي الله} أي الملك الذي لا يطاق انتقامه...

{ورسوله} أي الذي عظمته ظاهرة جداً، ولذلك قرن اسمه باسمه وذكره بذكره، فهو تمهيد لما يأتي من تعظيمه، فالتعبير بذلك إشارة إلى أن النفس إذا خليت وفطرتها الأولى، امتلأت بمجرد رؤيته هيبة منه، وإجلالاً له...

فالمعنى: لا تكونوا متقدمين في شيء من الأشياء والله يقول الحق ويهدي السبيل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه لا ينطق عن الهوى، فعلى الغير الاقتداء والاتباع، لا الابتداء والابتداع، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم غائباً أو حاضراً بموت أو غيره. فإن آثاره كعينه...

{واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين غضب- الملك الأعظم وقاية، فإن التقوى مانعة من أن تضيعوا حقه وتخالفوا أمره وتقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه...

.

{إن الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال. ولما كان- ما يتقدم فيه إما قولاً أو فعلاً قال: {سميع} أي لأقوالكم أن تقولوها {عليم} أي بأعمالكم قبل أن تعملوها...

.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{يا أَيُّهَا الذين آمَنُوا} تصديرُ الخطابِ بالنداءِ لتنبيهِ المخاطبينَ عَلى أنَّ مَا في حيزهِ أمرٌ خطيرٌ يستدعِي مزيدَ اعتنائِهم بشأنِه وفرطَ اهتمامِهم بتلقّيهِ ومراعاتِه، ووصفهُمْ بالإيمانِ لتنشيطِهمْ والإيذانِ بأنَّه داعٍ إلى المحافظةِ عليهِ ووازعٌ عن الإخلالِ بهِ {لاَ تُقَدّمُوا} أيْ لا تفعلُوا التقديمَ عَلى أنَّ تركَ المفعولِ للقصدِ إلى نفسِ الفعلِ منْ غيرِ اعتبارِ تعلقِه بأمرٍ منَ الأمورِ عَلى طريقةِ قولِهم فلانٌ يُعطِي ويمنعُ أيْ يفعلُ الإعطاءَ والمنعَ، أو لا تقدّمُوا أمراً منَ الأمورِ عَلى أنَّ حذفَ المفعولِ للقصدِ إلى تعميمهِ، والأولُ أَوفى بحقِّ المقامِ لإفادتِه النهيَ عنِ التلبسِ بنفسِ الفعلِ الموجبِ لانتفائِه بالكليةِ المستلزِمِ لانتفاءِ تعلقهِ بمفعولِه بالطريقِ البرهانيِّ وقدْ جُوِّز أنْ يكونَ التقديمُ بمعَنى التقدمِ ومنْهُ مقدمةُ الجيشِ للجماعةِ المتقدمةِ ويعضُده قراءةُ منْ قَرأ لا تَقدّمُوا بحذفِ إحْدَى التاءينِ منْ تتقدمُوا منَ القدومِ وقوله تعالى: {بَيْنَ يَدَي الله وَرَسُولِهِ} مستعارٌ ممَّا بينَ الجهتينِ المسامتتينِ ليدي الإنسانِ تهجيناً لِما نُهوا عنْهُ

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

تبدأ السورة بأول نداء حبيب، وأول استجاشة للقلوب. (يا أيها الذين آمنوا).. نداء من الله للذين آمنوا به بالغيب. واستجاشة لقلوبهم بالصفة التي تربطهم به، وتشعرهم بأنهم له، وأنهم يحملون شارته، وأنهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده، وأنهم هنا لأمر يقدره ويريده، وأنه حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم اختيارا لهم ومنة عليهم، فأولى لهم أن يقفوا حيث أراد لهم أن يكونوا، وأن يقفوا بين يدي الله موقف المنتظر لقضائه وتوجيهه في نفسه وفي غيره، يفعل ما يؤمر ويرضى بما يقسم، ويسلم ويستسلم:

(يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، واتقوا الله إن الله سميع عليم)..

يا أيها الذين آمنوا، لا تقترحوا على الله ورسوله اقتراحا، لا في خاصة أنفسكم، ولا في أمور الحياة من حولكم. ولا تقولوا في أمر قبل قول الله فيه على لسان رسوله، ولا تقضوا في أمر لا ترجعون فيه إلى قول الله وقول رسوله...

فهو أدب نفسي مع الله ورسوله. وهو منهج في التلقي والتنفيذ. وهو أصل من أصول التشريع والعمل في الوقت ذاته.. وهو منبثق من تقوى الله، وراجع إليها. هذه التقوى النابعة من الشعور بأن الله سميع عليم.. وكل ذلك في آية واحدة قصيرة، تلمس وتصور كل هذه الحقائق الأصلية الكبيرة.

وكذلك تأدب المؤمنون مع ربهم ومع رسولهم؛ فما عاد مقترح منهم يقترح على الله ورسوله؛ وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يدلي به؛ وما عاد أحد منهم يقضي برأيه في أمر أو حكم، إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول الرسول..

روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه -باسناده- عن معاذ -رضي الله عنه- حيث قال له النبي [صلى الله عليه وسلم] حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى. قال [صلى الله عليه وسلم]: " فإن لم تجد؟ " قال: بسنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قال [صلى الله عليه وسلم]: " فإن لم تجد؟ " قال -رضي الله عنه -: أجتهد رأيي. فضرب في صدره وقال " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله [صلى الله عليه وسلم] لما يرضي رسول الله".

وحتى لكأن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يسألهم عن اليوم الذي هم فيه، والمكان الذي هم فيه، وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم. خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله!

جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي- رضي الله عنه -أن النبي [صلى الله عليه وسلم] سأل في حجة الوداع:

" أي شهر هذا؟".. قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: " أليس ذا الحجة؟ " قلنا بلى! قال: " أي بلد هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: " أليس البلدة الحرام؟ " قلنا: بلى! قال: " فأي يوم هذا؟ " قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. فقال: أليس يوم النحر؟ قلنا بلى!.. الخ.

فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى، التي انتهى إليها المسلمون بعد سماعهم ذلك النداء، وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى، تقوى الله السميع العليم.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق. ووَصْفُهم ب {الذين آمنوا} جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذِن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال...

فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعرض الغفلة عنها.

والتقدم حقيقته: المشي قبل الغير، وفعله المجرد: قَدُم من باب نصر قال تعالى: {يَقْدُم قومه يوم القيامة} [هود: 98]. وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعدياً إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدّى إلى المفعول الثاني بحرف على.

ويقال: قدَّم بمعنى تَقدم كأنه قدّم نفسه، فهو مضاعف صار غير متعد. فمعنى {لا تقدموا} لا تتقدموا.

ففعل {لا تقدموا} مضارع قَدَّم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول، ومنه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة. ومنه سميت مقدمةَ الكتاب الطائفةُ منه المتقدمة على الكتاب. ومادة فَعَّل تجيء بمعنى تفعّل مثل وجّه بمعنى توجّه وبَيَّن بمعنى تبيّن، ومن أمثالهم بَيّن الصبح لذي عينين.

والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلاً دون إذن مِن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال من يتقدم مُماشِيَه في مَشيه ويتركه خلفه. ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق. والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتياتا على الشرع.

ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله فيومئ إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا حرج فيه.

وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء: إن المكلف لا يقدِم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه. وعدّ الغزالي العلمَ بحكم ما يُقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على الأعيان الذين تعرض لهم.

والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حصل من قوله: {لا تقدموا} الخ معنى اتبعوا الله ورسوله.

وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في « صحيحه» في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال « قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمَّرْ عليهم القعقاع بن معبد بن زُرارة. وقال عُمر: بل أمِّر الأقرعَ بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلاّ خلافي أو إلَى خلافي قال عمر: ما أردت خِلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 1، 2].

فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهرِ له بالقول وندائه من وراء الحجرات. وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بَعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرية فقتلتْ بنُو عامر رجالَ السرية إلا ثلاثة نَفرٍ نَجَوا فلقُوا رجلين من بين سُليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنّاً منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعزُّ من بني سليم، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: "بئسما صنعتم كانَا من بني سليم، والسلَب ما كَسَوْتُهما " أي عرف ذلك لما رأى السلب فعَرَفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا} الآية، أي لا تعملوا شيئاً من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول. وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها. وأيَّا مَّا كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد.

وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدَّمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمرَ وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيداً لقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الآية، لأن من خصه الله بهذه الحظوة، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه.

وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب...

وعَطْف {واتقوا اللَّه} تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم من تقوى الله وحده، أي ضده ليس من التقوى.

وجملة {إن اللَّه سميع عليم} في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله.

والسميع: العليم بالمسموعات، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر.

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

مدنية وهي ثماني عشر آية بلا خلاف

{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أي لا تقدموا خلاف الكتاب والسنة وقيل لا تذبحوا قبل أن يذبح النبى عليه السلام في الأضحى وقيل لا تصوموا قبل صومه نزلت في النهي عن صوم يوم الشك والمعنى لا تسبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يكون هو الذي يأمركم به { واتقوا الله } في مخالفة أمره { إن الله سميع } لأقوالكم { عليم } بأحوالكم

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم{[1]} .

سورة الحجرات{[2]} .

مقصودها الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي صلى الله عليه وسلم بالأدب معه في نفسه وفي أمته ، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر [ ليكون-{[3]} ] دليلا على الباطن فيسمى إيمانا ، كما أن الإيمان [ بالله- ] يشترط فيه فعل{[4]} الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون{[5]} بينة على الباطن وحجة شاهدة له { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا [ و-{[6]} ] هم لا يفتنون } فحاصل مقصودها مراقبة النبي صلى الله عليه وسلم في الأدب معه لأنها أول المفصل الذي هو{[7]} ملخص القرآن كما كان مقصود الفاتحة التي هي أول القرآن مراقبة الله ، وابتدئي ثاني{[8]} المفصل بحرف من الحروف المقطعة كما ابتدئي ثاني{[9]} ما عداه بالحروف المقطعة ، واسمها الحجرات واضح الدلالة على ذلك بما{[10]} دلت عليه [ آيته-{[11]} ] { بسم الله } الملك الجبار المتكبر الذي من أخل بتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم لم يرض عنه عملا { الرحمن } الذي من عموم رحمته إقامة الآداب للتوصل إلى حسن المآب { الرحيم } الذي خص أولى الألباب بالإقبال على ما يوجب [ لهم-{[12]} ] جميل الثواب{[13]} .

ولما نوه سبحانه في القتال بذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصرح في ابتدائها باسمه الشريف وسمى السورة به ، وملأ سورة محمد بتعظيمه ، وختمها{[60614]} باسمه ، ومدح أتباعه لأجله ، افتتح هذه باشتراط الأدب معه في القول والفعل للعد{[60615]} من حزبه والفوز بقربه ، ومدار ذلك معالي الأخلاق ، وهي إما مع الله سبحانه وتعالى أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما وإن كان كل قسم لا يخلو عن لحظ الآخر ، وغيرهما إما أن يكون داخلاً مع المؤمنين في رتبة الطاعة أو خارجاً عنها ، وهو الفاسق ، والداخل في طاعة المؤمنين السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضراً عندهم أو غائباً عنهم ، فهذه خمسة أقسام ، فصل النداء بسببها خمس مرات ، كل مرة لقسم منها ، وافتتح بالله لأن الأدب معه هو الأصل الجامع للكل والأس{[60616]} الذي لا يبنى إلا عليه ، فقال منادياً للمتسمين بأول أسنان القلوب تنبيهاً{[60617]} على أن سبب نزولها من أفعالهم لا-{[60618]} من أفعال أهل الكمال ، فهو هفوة تقال ، وما كان-{[60619]} ينبغي أن يقال{[60620]} ، وليشمل الخطاب المعهود للأدنى - ولو مع النفاق - من فوقه من باب الأولى : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان { لا تقدموا } وحذف المفعول ليعم{[60621]} كل ما يصح تقديمه فيذهب الوهم-{[60622]} كل مذهب ، ويجوز أن يكون حذفه من قصد إليه أصلاً ، بل يكون النهي موجهاً إلى {[60623]}نفس التقدمة{[60624]} أي لا تتلبسوا{[60625]} بهذا الفعل ، ويجوز أن يكون من قدم - بالتشديد بمعنى أقدم وتقدم أي شجع نفسه على التقدم ، ومنه مقدمة الجيش ، وهم متقدموه{[60626]} ، وأشار إلى تهجين{[60627]} ما نهوا عنه وتصوير شناعته ، وإلى أنهم في القبضة{[60628]} ترهيباً لهم{[60629]} فقال : { بين يدي الله } أي الملك الذي لا يطاق انتقامه .

ولما كان السياق للنهي عن التقديم والتقدم ، وكان مقتضى الرسالة إنفاذ الأوامر والنواهي عن الملك من غير أن يكون من المرسل إليهم اعتراض{[60630]} أصلاً ، وبذلك استحق أن لا يتكلم بحضرته في مهم ولا يفعل مهم إلا بإذنه ، لأن العبيد{[60631]} لما لهم من النقص لا استقلال لهم بشيء أصلاً ، عبر بالرسول دون النبي بعد أن ذكر اسمه تعالى الأعظم زيادة في تصوير التعظيم فقال : { ورسوله } أي الذي عظمته ظاهرة جداً ، ولذلك قرن اسمه باسمه وذكره بذكره ، فهو تمهيد لما يأتي من تعظيمه ، فالتعبير بذلك إشارة إلى أن النفس إذا خليت وفطرتها الأولى ، امتلأت بمجرد رؤيته هيبة منه ، وإجلالاً له ، فلا يفعل أحد غير ذلك إلا بتشجيع منه لنفسه وتكليفها ضد{[60632]} ما تدعو إليه الفطرة الأولى القويمة ، فالمعنى : لا تكونوا{[60633]} متقدمين في شيء من الأشياء والله يقول الحق ويهدي السبيل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه لا ينطق عن الهوى ، فعلى الغير{[60634]} الاقتداء والاتباع ، لا الابتداء والابتداع ، سواء كان النبي صلى الله عليه وسلم غائباً أو حاضراً بموت أو غيره .

فإن {[60635]}آثاره كعينه{[60636]} ، فمن بذل الجهد فيها هدي للأصلح{[60637]} ،

{ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا }[ العنكبوت : 69 ] .

ولما استعار للدلالة على القدرة التعبير باليدين وصور البينة ترهيباً من انتقام القادر إذا خولف ، صرح بذلك بقوله تعالى : { واتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين غضب-{[60638]} الملك الأعظم وقاية ، فإن التقوى مانعة من أن تضعيوا حقه وتخالفوا أمره وتقدموا على شيء لم تعلموا رضاه فيه .

ولما كان سبحانه مع كل بعلمه ، وأقرب إليه من نفسه ، فكان مع ذلك غيباً محضاً لكونه محتجباً برداء الكبر وإزار العظمة والقهر ، وكان الإنسان لما غاب عنه نساء{[60639]} ، ذكره مرهباً{[60640]} بقوله مستأنفاً أو معللاً مؤكداً{[60641]} تنبيهاً على ما في ذلك من الغرابة والعظمة التي يحق للإنسان مجاهدة نفسه لأجلها في الإيمان به{[60642]} والمواظبة على الاستمرار على استحضاره ، لأن أفعال العاصي أفعال من ينكره : { إن الله } أي الذي له الإحاطة بصفات{[60643]} الكمال . ولما كان-{[60644]} ما يتقدم{[60645]} فيه إما قولاً أو فعلاً قال : { سميع } أي لأقوالكم أن تقولوها{[60646]} { عليم * } أي بأعمالكم{[60647]} قبل أن تعملوها .

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما وصف سبحانه عباده المصطفين صحابة نبيه والمخصوصين {[60648]}بفضيلة مشاهدته{[60649]} وكريم عشرته فقال{ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم }[ الفتح : 29 ] " {[60650]}إلى آخره{[60651]} " ، فأثنى سبحانه عليهم وذكر وصفه تعالى بذلك في التوراة والإنجيل ، وهذه خصيصة {[60652]}انفردوا بمزية تكريمها{[60653]} وجرت على واضح قوله تعالى{ كنتم خير أمة أخرجت{[60654]} للناس تأمرون بالمعروف }[ آل عمران : 110 ] إلى آخره{[60655]} ، وشهدت لهم بعظيم{[60656]} المنزلة لديه ، ناسب هذا طلبهم بتوفية الشعب الإيمانية{[60657]} قولاً وعملاً ظاهراً وباطناً على أوضح عمل وأخلص نية ، وتنزيههم{[60658]} عما وقع من{[60659]} قبلهم في{[60660]} مخاطبات أنبيائهم كقول بني إسرائيل{ يا موسى ادع لنا ربك }[ الأعراف : 134 ] إلى-{[60661]} ما شهد من هذا الضرب بسوء حالهم فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } الآية و-{[60662]} { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول } - إلى قوله - { والله غفور رحيم } فطلبوا بآداب تناسب عليّ إيمانهم{[60663]} وإن اغتفر بعضه لغيرهم من ليس في درجتهم وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين فكأن قد قيل-{[60664]} لهم : لا تغفلوا ما منح{[60665]} لكم في التوراة والإنجيل ، فإنها{[60666]} درجة لم ينلها غيركم{[60667]} من الأمم فقابلوها بتنزيه أعمالكم عن أن يتوهم في ظواهرها أنها صدرت عن عدم اكتراث{[60668]} في الخطاب ، أو{[60669]} سوء قصد في الجواب ، وطابقوا بين {[60670]}ظواهركم وبواطنكم{[60671]} و{[60672]}ليكن علنكم{[60673]} منبئاً بسليم سرائركم { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } ثم عرفوا بسوء حال من عدل به عن هذه الصفة فقال تعالى { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } ثم أمروا بالتثبت عند نزغة الشيطان ، أو تقول ذي بهتان { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية ، ثم أمرهم بصلاح ذات بينهم والتعاون في ذلك بقتال الباغين العتاة{[60674]} وتحسين العشرة والتزام{[60675]} ما يثمر الحب والتودد الإيماني والتواضع ، وأن الخير كله في التقوى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وكل ذلك محذر لعلي صفاتهم التي وصفوا بها في خاتمة سورة الفتح .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[10]:- في م وظ: اخرجه.
[11]:- ليس في م.
[12]:- ليس في م.
[13]:- في النسخ كلها: لا، وفي البخاري: ما، وقول علي رضي الله عنه نقل من البخاري فأثبتناها.
[60614]:من مد، وفي الأصل: ختم.
[60615]:من مد، وفي الأصل: المعتد.
[60616]:من مد، وفي الأصل: الآمن-كذا.
[60617]:من مد، وفي الأصل: بينهما.
[60618]:زيد من مد.
[60619]:زيد من مد.
[60620]:في مد: تقال.
[60621]:من مد، وفي الأصل: يعم.
[60622]:زيد من مد.
[60623]:من مد، وفي الأصل: التقديم.
[60624]:من مد وفي الأصل: التقديم.
[60625]:من مد، وفي الأصل: لا تتسلبوا.
[60626]:من مد، وفي الأصل: مقدموه.
[60627]:من مد، وفي الأصل: التهجيس.
[60628]:من مد، وفي الأصل: العنعنة-كذا.
[60629]:من مد، وفي الأصل: له.
[60630]:من مد، وفي الأصل: إعراض.
[60631]:من مد، وفي الأصل: الصيد.
[60632]:من مد، وفي الأصل: منه.
[60633]:من مد، وفي الأصل: لا يكونون.
[60634]:من مد، وفي الأصل: المعبر-كذا.
[60635]:من مد، وفي الأصل: إشارة كهيئة.
[60636]:من مد، وفي الأصل: إشارة كهيئة.
[60637]:من مد، وفي الأصل: للإصلاح.
[60638]:زيد من مد.
[60639]:من مد، وفي الأصل: بسا-كذا.
[60640]:من مد، وفي الأصل: ترهبا.
[60641]:زيد في الأصل: بقوله، ولم تكن الزيادة في مد فحذفناها.
[60642]:من مد، وفي الأصل: بها.
[60643]:من مد، وفي الأصل: "و".
[60644]:زيد من مد.
[60645]:من مد، وفي الأصل: تقدم.
[60646]:في مد: تقولها.
[60647]:من مد، وفي الأصل: لإعمالكم.
[60648]:من مد، وفي الأصل: بمشاهدته.
[60649]:من مد، وفي الأصل: بمشاهدته.
[60650]:ليس ما بين الرقمين في مد.
[60651]:ليس ما بين الرقمين في مد.
[60652]:من مد، وفي الأصل: أتقدروا بتكريمها.
[60653]:من مد، وفي الأصل: أتقدروا بتكريمها.
[60654]:ليس ما بين الرقمين من مد.
[60655]:ليس ما بين الرقمين من مد.
[60656]:من مد، وفي الأصل: بتعظيم.
[60657]:زيد في مد: وأخرى.
[60658]:من مد، وفي الأصل: نزههم-كذا.
[60659]:من مد، وفي الأصل: ممن.
[60660]:من مد، وفي الأصل : من.
[60661]:زيد من مد.
[60662]:زيد من مد.
[60663]:من مد، وفي الأصل: آدابهم.
[60664]:زيد من مد.
[60665]:من مد، وفي الأصل: صح.
[60666]:من مد، وفي الأصل: فإنهم.
[60667]:زيدت الواو في الأصل ولم تكن في مد فحذفناها.
[60668]:من مد، وفي الأصل: اكتساب-كذا.
[60669]:من مد، وفي الأصل "و".
[60670]:في مد: بواطنكم وظواهركم.
[60671]:في الأصل: بواطنكم وظواهركم.
[60672]:من مد، وفي الأصل: لكم عليكم.
[60673]:من مد، وفي الأصل: لكم عليكم.
[60674]:من مد، وفي الأصل: العصاة.
[60675]:من مد، وفي الأصل: إلزام.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة

هذه السورة مدنية وعدد آياتها ثماني عشرة ، وهي - على قلة آياتها- جاءت زاخرة بمختلف المعاني في السلوك والآداب والأحكام والمواعظ ، وقد جاءت السورة مبدوءة بوجوب التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومخاطبته في غاية التوقير والتعظيم .

وقد تضمنت السورة تنديدا بأولي الطبائع الغليظة من قساة الأعراب وأجلافهم الذين لم يوقروا النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ كانوا ينادونه من وراء بيوته بأصوات مستهجنة لا أدب فيها ولا تواضع .

وفي السورة يأمر الله عباده المؤمنين أن يتثبتوا لدى سماعهم أخبارا يحملها فاسقون ، فلا يبادروا التصديق واليقين لما سمعوه لاحتمال الكذب أو الخطأ ، ومن شأن ذلك أن يورث الزلل والندامة .

ويأمر الله عباده المؤمنين أن يصلحوا بين إخوانهم المقتتلين بالعدل ، والمؤمنون في ميزان الإسلام أخوة على الدوام .

وفي السورة نهي عن جملة رذائل قد ندد بها الإسلام تنديدا ، وهي السخرية من الناس ، والتنابز بالألقاب ، وكذلك الكثير من الظن ثم التجسس والغيبة ، وهذه رذائل وصفات ذميمة تذهب بالحسنات وتورث السيئات والمباغضات وفساد ذات البين .

وفي السورة إعلان من الله ظاهر يرسخ فيه المساواة بين الناس وأنه ليس من تفاضل بينهم لسبب من الأسباب التي يعتبرها البشر ، وإنما التفاضل في ميزان الله ، بالتقوى دون غيره . إلى غير ذلك من الأحكام والمعاني .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم 1 يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون 2 إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم } .

هذه جملة آداب ، خليق بالمؤمنين أن يتأدبوا بها لدى تعاملهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل أو خطاب ، فيكون ذلك في غاية التكريم له والتوقير والتعظيم وهو قوله سبحانه : { ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } أي لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء أو أمر من الأمور حتى يحكم الله على لسانه صلى الله عليه وسلم أو لا تبادروا القول أو الفعل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كونوا تبعا له في كل ذلك .

قوله : { واتقوا الله إن الله سميع عليم } أي اخشوا ربكم وافعلوا ما أمركم به واجتنبوا ما نهاكم عنه ، فإنه يسمع ما تقولون وتعلنون ويعلم ما تخفون وتكتمون .