تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقالوا آمنا به} حين رأوا العذاب يقول الله تعالى: {وأنى لهم التناوش} التوبة عند معاينة العذاب {من مكان بعيد} الرجعة إلى التوبة بعيد منهم لأنه لا يقبل منهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون حين عاينوا عذاب الله "آمنا به"، يعني: آمنا بالله وبكتابه ورسوله...
وقوله: "وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ "يقول: ومن أيّ وجه لهم التناوش.
واختلفت قرّاء الأمصار في ذلك؛ فقرأته عامة قرّاء المدينة "التّناوُشُ" بغير همز، بمعنى: التناول. وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة: «التّناؤُشُ» بالهمز، بمعنى: التنؤّش، وهو الإبطاء، يقال منه: تناءشت الشيء: أخذته من بعيد، ونشته: أخذته من قريب...
ويقال للقوم في الحرب، إذا دنا بعضهم إلى بعض بالرماح ولم يتلاقوا: قد تناوش القوم.
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان معروفتان في قرّاء الأمصار، متقاربتا المعنى، وذلك أن معنى ذلك: وقالوا آمنا بالله، في حين لا ينفعهم قيل ذلك، فقال الله "وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ" أي وأين لهم التوبة والرجعة: أي قد بعدت عنهم، فصاروا منها كموضع بعيد أن يتناولوها، وإنما وصفت ذلك الموضع بالبعيد، لأنهم قالوا ذلك في القيامة، فقال الله: أنى لهم بالتوبة المقبولة، والتوبة المقبولة إنما كانت في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا فصارت بعيدا من الآخرة، فبأية القراءتين اللتين ذكرت قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك...
عن الضحاك، في قوله: "وأنّى لَهُمُ التّناوُشُ" قال: وأنى لهم الرجعة.
وقوله: "مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ" يقول: من آخرتهم إلى الدنيا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقالوا آمنا به} هو كقوله: {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده} الآية
[غافر: 84] وكقول فرعون: {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} [يونس: 90] ونحوه.
{وأنّى لهم التناوش من مكان بعيد} قال بعضهم: {من مكان بعيد} إنهم سألوا الرجعة والرّد أن ينالوه: {من مكان بعيد} قال: من الآخرة إلى الدنيا.
وقال بعضهم: أي لا سبيل لهم إلى الإيمان في ذلك الوقت، وقد كفروا به من قبل في حال الدّعة والرخاء ولم يؤمنوا.
وقال بعضهم: {من مكان بعيد} أي من حيث لا ينال، ولا يكون، فذلك البعيد كقول الله {أولئك ينادون من مكان بعيد} [فصلت: 44] أي من حيث لا يكون أبدا، ليس على إرادة حقيقة المكان.
وقتادة يقول: هو عند الموت وعند نزول العذاب بهم، ليس من أحد بلغ ذلك الوقت إلا وهو يؤمن، ويتمنى الإيمان، لكن لا ينفع كقوله: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها} الآية [الأنعام: 158] على ما ذكر...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا تابوا -وقد أُغْلقَتْ الأبواب، وندمُوا- وقد تقطَّعَت الأسباب... فليس إلا الحسرات والندم، ولات حين ندامة! كذلك من استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه يُتَجَاوَزُ عنه مرةً، ويَعْفَى عنه كَرَّةً، فإذا استمكنت منه القسوةُ وتَجَاوَزَ سوءُ الأدبِ حَدَّ الغفلة، وزاد على مقدار الكثرة... يحصل له من الحقِّ رَدٌ، ويستقبله حجاب، وبعد ذلك لا يُسْمَعُ له دعاء، ولا يُرْحَمُ له بكاء...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
التناوش والتناول: أخوان؛ إلاّ أنّ التناوش تناول سهل لشيء قريب.
وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا: مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من قيس مقدار ذراع تناولاً سهلاً لا تعب فيه.
{وأنى لهم التناوش} أي كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب وذلك لا يكون إلا في الدنيا وهم في الآخرة والدنيا من الآخرة بعيدة، فإن قيل فكيف قال كثير من المواضع إن الآخرة من الدنيا قريبة، ولهذا سماها الله الساعة وقال: {لعل الساعة قريب}، نقول: الماضي كالأمس الدابر بعدما يكون إذ لا وصول إليه، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آت، فيوم القيامة الدنيا بعيدة لمضيها وفي الدنيا يوم القيامة قريب لإتيانه. والتناوش هو التناول عن قرب. وقيل عن بعد، ولما جعل الله الفعل مأخوذا كالجسم جعل ظرف الفعل وهو الزمان كظرف الجسم وهو المكان فقال: {من مكان بعيد} والمراد ما مضى من الدنيا...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم قال تعالى: {وقالوا آمنا به}، أي: عندما رأوا العذاب رأي العين آمنوا بالرسول ورسالته بحكم الاضطرار، لكن الإيمان من هذا النوع وفي مثل هذا الوقت ليس له أي اعتبار، {وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (52) وقد كفروا به من قبل} أي: أنى لهم أن يتداركوا في الآخرة ما ضيعوه في الدنيا، مع أن الدنيا هي دار التكليف والابتلاء، والآخرة إنما هي دار الجزاء، ثم قال تعالى: {ويقذفون بالغيب من مكان بعيد (53)} إشارة إلى أنهم كانوا يلقون الكلام على عواهنه دون تحفظ أو تثبيت، ويتفننون في إلقاء التهم دون تريث، فتارة يتهمون الرسول بأنه ساحر، وتارة أخرى يتهمونه بأنه شاعر، وتارة يتهمونه بأنه كاهن، وتارة أخرى يتهمونه بأنه مجنون، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام بريء من ذلك كله، بعيد عنه بعد السماء من الأرض، ولا سند لهم في ذلك إلا (الرجم بالغيب) والتحدي بالعناد والرفض.
قوله تعالى : " وقالوا آمنا به " أي القرآن . وقال مجاهد : بالله عز وجل . الحسن : بالبعث . قتادة : بالرسول صلى الله عليه وسلم " وأنى لهم التناوش من مكان بعيد " قال ابن عباس والضحاك : التناوش الرجعة ، أي يطلبون الرجعة إلى الدنيا ليؤمنوا ، وهيهات من ذلك ! ومنه قول الشاعر :
تمنى أن تؤوبَ إليّ مَيٌّ*** وليس إلى تناوشِهَا سبيل
وقال السدي : هي التوبة ، أي طلبوها وقد بعدت ، لأنه إنما تقبل التوبة في الدنيا . وقيل : التناوش التناول . قال ابن السكيت : يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته : ناشه ينوشه نوشا . وأنشد :
فهي تنوش الحوض نَوْشًا من عَلاَ *** نوشًا به تقطع أجوازَ الفَلاَ{[13082]}
أي تتناول ماء الحوض من فوق وتشرب شربا كثيرا ، وتقطع بذلك الشرب فلوات فلا تحتاج إلى ماء آخر . قال : ومنه المناوشة في القتال ؛ وذلك إذا تدانى الفريقان . ورجل نووش أي ذو بطش . والتناوش . التناول : والانتياش مثله . قال الراجز :
قوله تعالى : " وأنى لهم التناوش من مكان بعيد " يقول : أنى لهم تناول الإيمان في الآخرة وقد كفروا في الدنيا . وقرأ أبو عمرو والكسائي والأعمش وحمزة : " وأنى لهم التناوش " بالهمز . النحاس : وأبو عبيدة يستبعد هذه القراءة ؛ لأن " التناوش " بالهمز البعد ، فكيف يكون : وأنى لهم البعد من مكان بعيد . قال أبو جعفر : والقراءة جائزة حسنة ، ولها وجهان في كلام العرب ، ولا يتأول بها هذا المتأول البعيد . فأحد الوجهين أن يكون الأصل غير مهموز ، ثم همزت الواو لأن الحركة فيها خفية ، وذلك كثير في كلام العرب . وفي المصحف الذي نقلته الجماعة عن الجماعة " وإذا الرسل أقتت " {[13083]} [ المرسلات : 11 ] والأصل " وقتت " لأنه مشتق من الوقت . ويقال في جمع دار : أدؤر . والوجه الآخر ذكره أبو إسحاق قال : يكون مشتقا من النئيش وهو الحركة في إبطاء ، أي من أين لهم الحركة فيما قد بعد ، يقال : نأشت الشيء أخذته من بعد والنئيش : الشيء البطيء . قال الجوهري : التناؤش ( بالهم ) التأخر والتباعد . وقد نأشت الأمر أنأشه نأشا أخرته ؛ فانتأش . ويقال : فعله نئيشا أي أخيرا . قال الشاعر :
تمنّى نئيشا أن يكون أطاعني *** وقد حدثت{[13084]} بعد الأمور أمور
قعدت زمانا عن طلابك للعلا *** وجئت نئيشا بعدما فاتك الخُبْرُ{[13085]}
وقال الفراء : الهمز وترك الهمز في التناؤش متقارب . مثل : ذمت{[13086]} الرجل وذأمته أي عبته . " من مكان بعيد " أي من الآخرة . وروى أبو إسحاق عن التميمي عن ابن عباس قال : " وأنى لهم " قال : الرد ، سألوه وليس بحين رد .
والأقرب أن يكون القرآن{[57165]} الذي قالوا إنه إفك مفترى { وأنّى } أي وكيف ومن أين { لهم التناوش } أي تناول الإيمان أو شيء من ثمراته ، وكأنه عبر به لأنه يطلق على الرجوع ، فكان المعنى أن ذلك بعد عليهم من جهة أنه لا يمكن إلا برجوعهم إلى الدنيا التي هي دار العمل ، و{[57166]} أنى لهم ذلك ؟ وهو تمثيل{[57167]} لحالهم - في طلبهم أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا - بحال من يريد أن يتناول شيئاً من علوه كما يتناوله الآخر من قدر ذراع تناولاً سهلاً ، لا نصب فيه ، ومده أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم{[57168]} لهمزهم إياه فقيل : إن الهمز على الواو المضمومة كما همزت في وجوه ووقتت{[57169]} فيكون لفظه موافقاً لمعناه ، والصحيح أنه ليس من هذا{[57170]} ، لأن شرط همز الواو المضمومة ضمةً لازمةً أن لا يكون مدغماً فيها إذا كانت وسطاً كالتعود{[57171]} ، وأن لا يصح في الفعل نحو تناول وتعاون ، وقد حكى عن أبي عمرو أن معناه بالهمز التناول من بعد ، من قولهم نأش - بالهمز - إذا أبطل وتأخر ، والنيش حركة في إبطاء ، والنأش أيضاً : الأخذ ، فيكون الهمز أصلياً ، وقرأه الباقون بالواو مثل التناول لفظاً ومعنى ، فقراءة الواو المحضة تشير إلى أنهم يريدون تناولاً سهلاً مع{[57172]} بعد المتناول في المكان ، وقراءة الهمز إلى أن إرادتهم تأخرت وأبطأت حتى فات وقتها ، فجمعت إلى بعد المكان بعد الزمان .
ولما كان البعيد لا يمكن{[57173]} الإنسان تناوله مع بعده قال : { من مكان بعيد * } فإنه بعد كشف الغطاء{[57174]} عند مجيء البأس لا ينفع الإيمان