ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء ، متناوح من شتى الأرجاء . إنه صوت المنبوذين في جهنم :
وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعاً . . فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول . إنه يقول :
( ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ) . .
إنه الإنابة والاعتراف والندم إذن . ولكن بعد فوات الأوان . فها نحن أولاء نسمع الرد الحاسم يحمل التأنيب القاسي :
( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ? ) . .
فلم تنتفعوا بهذه الفسحة من العمر ، وهي كافية للتذكر لمن أراد أن يتذكر .
زيادة في التنبيه والتحذير . فلم تتذكروا ولم تحذروا .
( فذوقوا . فما للظالمين من نصير ) . .
إنهما صورتان متقابلتان : صورة الأمن والراحة ، تقابلها صورة القلق والاضطراب . ونغمة الشكر والدعاء تقابلها ضجة الاصطراخ والنداء . ومظهر العناية والتكريم ، يقابله مظهر الإهمال والتأنيب . والجرس اللين والإيقاع الرتيب ، يقابلهما الجرس الغليظ والإيقاع العنيف . فيتم التقابل ، ويتم التناسق في الجزئيات وفي الكليات سواء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وهم يصطرخون فيها} يعني يستغيثون فيها، والاستغاثة أنهم ينادون فيها.
{ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} من الشرك، ثم قيل لهم: {أولم نعمركم} في الدنيا {ما يتذكر فيه} في العمر.
{من تذكر وجاءكم النذير} الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
{فذوقوا} العذاب {فما للظالمين من نصير}: ما للمشركين من مانع يمنعهم من الله عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبّنا أخْرِجْنا نَعْمَلْ صَالِحا غيرَ الّذِي كُنّا نعملُ" يقول تعالى ذكره: هؤلاء الكفار يستغيثون، ويضجون في النار، يقولون: يا ربنا أخرجنا نعمل صالحا: أي نعمل بطاعتك "غَيرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ "قبلُ من معاصيك.
وقوله: "يَصْطَرخُونَ": يفتعلون من الصّراخ...
وقوله: "أوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ ما يَتَذَكّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكّرَ" اختلف أهل التأويل في مبلغ ذلك؛ فقال بعضهم: ذلك أربعون سنة... عن مجاهد، قال: سمعت ابن عباس يقول: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم "أوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ ما يَتَذَكّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكّرَ": أربعون سنة...
وقال آخرون: بل ذلك ستون سنة...
حدثنا أبو صالح الفزاري، قال: حدثنا محمد بن سوار، قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القاريّ الإسكندريّ، قال: حدثنا أبو حازم، عن سعيد المقبريّ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَمّرَهُ اللّهُ سِتّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذَرَ إلَيْهِ فِي العُمْرِ»...
وأشبه القولين بتأويل الآية إذ كان الخبر الذي ذكرناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرا في إسناده بعض من يَجِب التثبت في نقله، قول من قال ذلك أربعون سنة، لأن في الأربعين يتناهى عقل الإنسان وفهمه، وما قبل ذلك وما بعده منتقَص عن كماله في حال الأربعين.
وقوله: "وَجاءَكُمُ النّذيرُ" اختلف أهل التأويل في معنى النذير؛
فقال بعضهم: عنى به محمدا صلى الله عليه وسلم...
وقيل: عَنَى به الشيب. فتأويل الكلام إذن: أو لم نعمركم يا معشر المشركين بالله من قُرَيش من السنين، ما يتذكر فيه من تذكر، من ذوي الألباب والعقول، واتعظ منهم من اتعظ، وتاب من تاب، وجاءكم من الله منذر يُنذركم ما أنتم فيه اليوم من عذاب الله، فلم تتذكّروا مواعظ الله، ولم تقبلوا من نذير الله الذي جاءكم ما أتاكم به من عند ربكم.
يقول تعالى ذكره: "فَذُوقُوا" نار عذاب جهنم الذي قد صَلِيتموه أيها الكافرون بالله، "فَمَا للظّالِمِينَ مِنْ نَصِير" يقول: فما للكافرين الذين ظلموا أنفسهم فأكسَبُوها غضب الله بكفرهم بالله في الدنيا من نصير ينصرهم من الله ليستنقذهم من عقابه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اصطراخهم: {ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل}، يفزعون أولا إلى كبرائهم الذين اتبعوهم في الدنيا، يطلبون منهم دفع بعض ما هم فيه من العذاب والتخفيف عنهم حين قالوا: {إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مُغنون عنا من عذاب الله من شيء} فأجابوا لهم {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} [إبراهيم: 21] وقالوا في آية أخرى {إنا كل فيها} الآية [غافر: 48]، فلما أيِسوا منهم، وانقطع رجاؤهم، فزِعوا عند ذلك إلى خزنة جهنم، وقالوا: {ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب} {قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات} [غافر: 49 و50]. فلما أيسوا منهم، وانقطع رجاؤهم، فزعوا إلى مالك يطلبون منه أن يسأل ربه ليقضي عليهم بالموت، حين قال: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف: 77]، فلما أيِسوا سألوا ربهم الإخراج عنها ليعملوا غير الذي عملوا {ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} فاحتج عليهم {أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكّر} أي أولم نعمّركم فيها من العُمر مثل العُمر الذي يتّعظ فيه من يتعظ؟ فهلا اتعظتم فيه ما اتعظ من اتعظ فيه، وقد أعمرناكم مثل ما أعمرنا أولئك...
{وجاءكم النذير}... قد رأيتم، وعاينتم تغيير الأحوال في أنفسكم من حال إلى حال من حال الصغر إلى الكبر من الشباب إلى المشيب، والرّد إلى أرذل العمر فهلاّ اتعظتم به كما اتعظ أولئك {فذوقوا فما للظالمين من نصير}...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يصطرخون "يتصارخون: يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدة...
فإن قلت: هلا اكتفى بصالحا كما اكتفى به في قوله تعالى: "فارجعنا نعمل صالحا "(السجدة: 12.) وما فائدة زيادة "غير الذي كنا نعمل "على أنه على أنه يؤذن أنهم يعلمون صالحا آخر غير الصالح الذي عملوه؟
قلت: فائدة زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به.
وأما الوهم فزائل لظهور حالهم في الكفر وركوب المعاصي؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال الله تعالى:"وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ") الكهف: 104) فقالوا: أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله. "أولم نعمركم "توبيخ من الله يعني: فنقول لهم.
وقرئ: وما يذكر فيه من أذكر على الإدغام، وهو متناول لكل عمر، تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر؛ إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم...
فإن قلت: علام عطف وجاءكم النذير؟ قلت: على معنى: أو لم نعمركم؛ لأن لفظه لفظ استخبار، ومعناه معنى إخبار كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النذير...
{وهم يصطرخون فيها} أي لا يخفف وإن اصطرخوا واضطربوا لا يخفف الله من عنده إنعاما إلى أن يطلبوه، بل يطلبون ولا يجدون، والاصطراخ من الصراخ والصراخ صوت المعذب.
{ربنا أخرجنا}... فيه إشارة إلى أن إيلامهم تعذيب لا تأديب، وذلك لأن المؤدب إذا قال لمؤدبه: لا أرجع إلى ما فعلت وبئسما فعلت يتركه، وأما المعذب فلا، وترتيبه حسن وذلك لأنه لما بين أنه لا يخفف عنهم بالكلية ولا يعفو عنهم، بين أنه لا يقبل منهم وعدا، وهذا لأن المحبوس يصبر لعله يخرج من غير سؤال، فإذا طال لبثه تطلب الإخراج من غير قطيعة على نفسه، فإن لم يقده يقطع على نفسه قطيعة، ويقول أخرجني أفعل كذا وكذا.
واعلم أن الله تعالى قد بين أن من يكون في الدنيا ضالا فهو في الآخرة ضال كما قال تعالى: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى، ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار، وعلى هذا قالوا: {نعمل صالحا} جازمين من غير استعانة بالله ولا مثنوية فيه، ولم يقولوا إن الأمر بيد الله، فقال الله لهم إذا كان اعتمادكم على أنفسكم فقد عمرناكم مقدارا يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال.
{وما للظالمين من أنصار} يحتمل أن يكون المراد من الظالم الجاهل جهلا مركبا، وهو الذي يعتقد الباطل حقا في الدنيا، وما له من نصير أي من علم ينفعه في الآخرة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
ترجم البخاري: (باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل "أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير "يعني الشيب)... والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار... وقال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التفكر بعد البعث غير نافع لأنه بعد كشف الغطاء، عبر بالماضي فقال: {من تذكر} إعلاماً بأنه قد ختم على ديوان المتذكرين، فلا يزاد فيهم أحد...
ولما أشار إلى دليل العقل ابتداء ودواماً، أشار إلى أدلة النقل المنبه على ما قصر عنه العقل، فقال معبراً بالماضي تصريحاً بالمقصود عطفاً على معنى: أو لم نعمركم الذي هو قد عمرناكم.
{وجاءكم النذير}... تأييداً للعقول بالدليل المنقول.
ولما كانت العادة جارية بأن من أيس من خصمه فزع إلى الاستغاثة عليه، تسبب عن ذلك قوله: {فما} وكان الأصل: لكم، ولكنه أظهر تعليقاً للحكم بالوصف للتعميم فقال: {للظالمين} أي الواضعين الأشياء في غير مواضعها {من نصير} أي يعينهم ويقوي أيديهم، فلا براح لكم عن هذا الذواق، وهذا عام في كل ظالم، فإن من ثبت له نصر عليه؛ لأن ظلمه في كل يوم يضعف ويهن والحق في كل حين يقوى ويضخم...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
احتج عليهم بأمرين: طول الأمل، وإرسال الرسل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ها نحن أولاء يطرق أسماعنا صوت غليظ محشرج مختلط الأصداء، متناوح من شتى الأرجاء، إنه صوت المنبوذين في جهنم: (وهم يصطرخون فيها) وجرس اللفظ نفسه يلقي في الحس هذه المعاني جميعاً.. فلنتبين من ذلك الصوت الغليظ ماذا يقول، إنه يقول: (ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل).. إنه الإنابة والاعتراف والندم إذن، ولكن بعد فوات الأوان.
إنهما صورتان متقابلتان: صورة الأمن والراحة، تقابلها صورة القلق والاضطراب. ونغمة الشكر والدعاء تقابلها ضجة الاصطراخ والنداء، ومظهر العناية والتكريم، يقابله مظهر الإهمال والتأنيب، والجرس اللين والإيقاع الرتيب، يقابلهما الجرس الغليظ والإيقاع العنيف، فيتم التقابل ويتم التناسق في الجزئيات وفي الكليات سواء...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستفهام تقريع للتوبيخ، وجُعل التقرير على النفي توطئة ليُنكره المقرَّر حتى إذا قال: بلى علم أنه لم يسعه الإِنكار حتى مع تمهيد وطاء الإِنكار إليه، ووصف الرسول بالنذير لأن الأهم من شأنه بالنسبة إليهم هو النذارة، والأمر في قوله {فذوقوا} مستعمل في معنى الدوام وهو كناية عن عدم الخلاص من العذاب.
وعدل عن ضمير الخطاب أن يقال: فما لكم من نصير، إلى الاسم الظاهر بوصف « الظالمين» لإِفادة سبب انتفاء النصير عنهم؛ ففي الكلام إيجاز، أي لأنكم ظالمون وما للظالمين من نصير، فالمقصود ابتداء نفي النصير عنهم ويتبعه التعميم بنفي النصير عن كل من كان مثلهم من المشركين.
والظلم: هو الاعتداء على حق صاحب حق، وأعظمه الشرك لأنه اعتداء على الله بإنكار صفته النفيسة وهي الوحدانية، واعتداء المشرك على نفسه إذْ أقحمها في العذاب قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
وتعميم « الظالمين» وتعميم « النصير» يقتضي أن نصر الظالم تجاوزٌ للحق، لأن الحق أن لا يكون للظالم نصير، إذ واجب الحكمة والحقِّ أن يأخذ المقتدر على يد كل ظالم؛ لأن الأمة مكلفة بدفع الفساد عن جماعتها، وفي هذا إبطال لخُلُق أهل الجاهلية القائلين في أمثالهم "انصُرْ أخاك ظالماً أو مظلوماً". وقد ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه إبطال ذلك فساق لهم هذا المثلَ حتى سألوا عنه ثم أصلح معناه مع بقاء لفظه فقال: "إذا كان ظالماً تنصره على نفسه فتكفه عن ظلمه".
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التعبير ب «صالحاً» بصيغة النكرة إشارة إلى أنّهم لم يعملوا أقلّ القليل من العمل الصالح، ولازم هذا المعنى أنّ كلّ هذا العذاب والألم إنّما هو لمن لم تكن لهم أيّة رابطة مع الله سبحانه في حياتهم، وكانوا غرقى في المعاصي والذنوب، وعليه فإنّ القيام بقسم من الأعمال الصالحة أيضاً يمكن أن يكون سبباً في نجاتهم.