فهاهم أولاء المنافقون ينادون المؤمنين : ( ألم نكن معكم ? ) . . فما بالنا نفترق عنكم ? ألم نكن معكم في الدنيا نعيش في صعيد واحد ? وقد بعثنا معكم هنا في صعيد واحد ? ( قالوا : بلى ! )كان الأمر كذلك . ( ولكنكم فتنتم أنفسكم ) . . فصرفتموها عن الهدى . ( وتربصتم ) . . فلم تعزموا ولم تختاروا الخيرة الحاسمة . ( وارتبتم ) . . فلم يكن لكم من اليقين ما تعزمون به العزمة الأخيرة . ( وغرتكم الأماني ) . . الباطلة في أن تنجوا وتربحوا بالذبذبة وإمساك العصا من طرفيها ! ( حتى جاء أمر الله ) . . وانتهى الأمر . ( وغركم بالله الغرور ) . . وهو الشيطان الذي كان يطمعكم ويمنيكم " .
تربصتم : انتظرتم بالمؤمنين الشرّ والمصائب .
الغَرور ( بفتح الغين ) : الشيطان .
ثم ينادِي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم : ألَمْ نكُنْ مَعَكم في الدنيا ! ؟ فيقول لهم المؤمنون :
{ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بالله الغرور } .
لقد كنتم معنا ولكنكم لم تؤمنوا ، وأهلكتم أنفسكم بالنفاق ، وتربصتم بالمؤمنين الشرَّ والحوادثَ المهلكة ، وشككتم في أمور الدينِ . لقد خدعتكم الآمالُ الكاذبة حتى جاءكم الموتُ ، وخدعكم الشيطان .
قوله تعالى : { ينادونهم } روي عن عبد الله بن عمر قال : إن السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن { فضرب بينهم بسور له باب } هو سور بيت المقدس الشرقي ، { باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب } ، وادي جهنم . وقال شريح : كان كعب يقول : في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس : إنه الباب الذي قال الله عز وجل : { فضرب بينهم بسور له باب }الآية . { ينادونهم } يعني : ينادي المنافقون المؤمنين من وراء السور حين حجز بينهم بالسور وبقوا في الظلمة : { ألم نكن معكم } في الدنيا نصلي ونصوم ؟ { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات ، وكلها فتنة ، { وتربصتم } بالإيمان والتوبة . قال مقاتل : وتربصتم بمحمد الموت وقلتم يوشك أن يموت فنستريح منه ، { وارتبتم } ، شككتم في نبوته وفيما أوعدكم به ، { وغرتكم الأماني } الأباطيل وما كنتم تتمنون من نزول الدوائر بالمؤمنين ، { حتى جاء أمر الله } يعني الموت ، { وغركم بالله الغرور } يعني الشيطان ، قال قتادة : ما زالوا على خدعة من الشيطان حتى قذفهم الله في النار .
{ ينادونهم } ينادي المنافقون المؤمنين { ألم نكن معكم } في الدنيا نناكحكم ونوارثكم { قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم } آثمتموها بالنفاق { وتربصتم } بمحمد عليه السلام الموت { وارتبتم } شككتم في الايمان { وغرتكم الأماني } ما كنتم تمنون من نزول الدوابر بالمؤمنين { حتى جاء أمر الله } الموت { وغركم بالله } أي بحلمه وامهاله { الغرور } الشيطان
ودل على ما أفهمه التعبير بالمضارع في " يقول " من التكرير بقوله استئنافاً : { ينادونهم } أي المنافقون والمنافقات ، يواصلون النداء وهم في الظلمة للذين آمنوا يترفقون لهم في مدة هذا القول والضرب : { ألم نكن } أي بكليتنا { معكم } أي فيما كنتم فيه من الدين فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الدين{[62474]} الذي كنا معكم فيه { قالوا } أي الذين آمنوا { بلى } قد كنتم معنا { ولكنكم فتنتم } أي كنتم بما كان لكم من الذبذبة تختبرون { أنفسكم } فتخالطونها{[62475]} باختبار أحوال الدين{[62476]} مخالطة محيلة لها مميلة عما كانت عليه من أصل الفطرة من الاستقامة ، تريدون بذلك أن تظهر لكم فيه أمور محسوسة لتخلصوا فيه من الشكوك فتخلصوا ، فما آمنتم بالغيب فأهلكتموها{[62477]} وتبعتم أيضاً الأمور التي كنتم تفتنون بها من{[62478]} الشهوات ، فأوجبتم لكم الإعراض عن المعالي الباطنات { وتربصتم } أي كلفتم أنفسكم أن أخرجتموها عن الفطرة الأولى فأمهلتم وانتظرتم لتروا الأمر عياناً أو لم تفعلوا كما فعلنا من الإيمان بالغيب وترك التجربة ونسبة ما يحصل لنا مما فيه فتنة إلى أنفسنا بتقصيرنا ، وكنا كلما حصل لنا ما يزلزل نقول : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ولا يزيدنا ذلك إلاّ إيماناً وتسليماً وانتظرتم أيضاً الدوائر بأهل الإيمان لتظهروا النفاق { وارتبتم } أي شككتم بتكليف أنفسكم الشك بذلك التربص { وغرتكم الأماني } أي ما تتمنون أي تريدون وتقدرون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء { حتى جاء أمر الله } أي قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفوء له ولا خلف لقوله من الموت ومقدمات من الأمور الدهشة ، فكما كنتم في الدنيا مقصرين كنتم في هذا الموطن { وغركم بالله } أي الملك الذي له جميع العظمة ، فهو بحيث لا يخلف الميعاد وهو الولي الودود { الغرور } أي من لا{[62479]} صنع له إلا الكذب وهو الشيطان وهو العدو الحسود ، فإنه ينوع لكم بغروره التسويف ويقول : إن الله غفور رحيم و{[62480]}عفو كريم ، وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنه وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو هذا ، فلا يزال حتى يوقع الإنسان ، فإذا أوقع واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى ، فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده .
قوله : { ينادونهم ألم نكن معكم } ينادي المنافقون المؤمنين : أما كنا معكم في الدنيا رفاقا صحابا نشهد معكم الصلوات ونعمل وإياكم الواجبات { قالوا بلى } بلى قد كنتم معنا { ولكنكم فتنتم أنفسكم } أركستم أنفسكم في فتنة النفاق فهلكتم { وتربصتم } بالإسلام والمسلمين الدوائر { وارتبتم } أي شككتم في البعث وفي قيام الناس من قبورهم للحساب { وغرّتكم الأماني } أي غركم الطمع وطول الآمال والرغبة في امتداد الآجال وخدعتكم الدنيا بمتاعها وزخرفها وزينتها { حتى جاء أمر الله } يعني جاءكم الموت { وغركم بالله الغرور } غركم ، أي خدعكم ، وأطمعكم بالباطل . والغرور ، بقتح الغين ، معناه الدنيا{[4459]} والمراد به ههنا الشيطان .
والمعنى المراد للآية ، أنه قد خدعكم الشيطان ، إذ فتنكم عن دين الله وسول لكم النفاق وفعل المنكرات والمعاصي وأوهمكم بأنه لا بعث ولا حساب .