ويؤكد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة :
فهذا هو الأصل في الجزاء . مقابلة السيئة بالسيئة ، كي لا يتبجح الشر ويطغى ، حين لا يجد رادعاً يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن !
ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ ، وإصلاح الجماعة من الأحقاد . وهو استثناء من تلك القاعدة . والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة . فهنا يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء . فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجيء ضعفا يخجل ويستحيي ، ويحس بأن خصمه الذي عفا هو الأعلى . والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو . فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا . ولا كذلك عند الضعف والعجز . وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز . فليس له ثمة وجود . وهو شر يطمع المعتدي ويذل المعتدى عليه ، وينشر في الأرض الفساد !
وهذا توكيد للقاعدة الأولى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها )من ناحية . وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها . وعدم تجاوز الحد في الاعتداء ، من ناحية أخرى .
ثم بين الله تعالى أن ذلك الانتصار للأنفس مقيَّد بالمِثْل :
{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }
فالزيادة ظلم ، والتساوي هو العدل الذي قامت به السمواتُ والأرض .
ثم بين الله أن من الأفضل العفو والتسامح فقال :
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } . ومثل هذا قوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ، ومثله أيضا { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] ، إلى آياتٍ كثيرة وأحاديثَ تحثّ على الصبر والعفو . وهذا سبيل الإسلام .
الثانية- قوله تعالى : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " قال العلماء : جعل الله المؤمنين صنفين : صنف يعفون عن الظالم فبدأ بذكرهم في قول " وإذا ما غضبوا هم يغفرون " [ الشورى : 37 ] . وصنف ينتصرون من ظالمهم . ثم بين حد الانتصار بقول : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " فينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي . قال مقاتل وهشام بن حجير : هذا في المجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره من سب أو شتم . وقاله الشافعي وأبو حنيفة وسفيان . قال سفيان : وكان ابن شبرمة يقول : ليس بمكة مثل هشام . وتأول الشافعي في هذه الآية أن للإنسان أن يأخذ من مال من خانه مثل ما خانه من غير علمه ، واستشهد في ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان : ( خذي من ماله ما يكفيك وولدك ) فأجاز لها أخذ ذلك بغير إذنه . وقد مضى الكلام في هذا مستوفى في " البقرة " {[13540]} . وقال ابن أبي نجيح : إنه محمول على المقابلة في الجراح . وإذا قال : أخزاه الله أو لعنه الله أن يقول مثله . ولا يقابل القذف بقذف ولا الكذب بكذب . وقال السدي : إنما مدح الله من انتصر ممن بغى عليه من غير اعتداء بالزيادة على مقدار ما فعل به ، يعني كما كانت العرب تفعله . وسمي الجزاء سيئة لأنه في مقابلتها ، فالأول ساء هذا في مال أو بدن ، وهذا الاقتصاص يسوءه بمثل ذلك أيضا ، وقد مضى هذا كله في " البقرة " مستوفى{[13541]} .
الثالثة- قوله تعالى : " فمن عفا وأصلح " قال ابن عباس : من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو " فأجره على الله " أي إن الله يأجره على ذلك . قال مقاتل : فكان العفو من الأعمال الصالحة وقد مضى في " آل عمران " {[13542]} في هذا ما فيه كفاية ، والحمد لله . وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين رضي الله عنهم قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل ؟ فيقوم ناس من الناس ، فيقال : انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون إلى أين ؟ فيقولون إلى الجنة ، قالوا : قبل الحساب ؟ قالوا : من أنتم ؟ قالوا أهل الفضل ، قالوا وما كان فضلكم ؟ قالوا : كنا إذا جهل علينا حلمنا وإذا ظلمنا صبرنا وإذا سيء إلينا عفونا . قالوا : ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين . وذكر الحديث . " إنه لا يحب الظالمين " أي من بدأ بالظلم . قاله سعيد بن جبير . وقيل : لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد . قاله ابن عيسى .
قوله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 40 ) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ( 41 ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 42 ) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } .
شرع الله القصاص لعباده وهو عدل . فمن وقع عليه اعتداء مُتَعَمَّد من غيره ، كان للمعتدى عليه أن يقتص من الجاني بمثل جنايته لا أنْقَص ولا أزْيَد . وقد نَدَب الله لفعل ما هو أفضل وهو العفو والصفح عن مساءات المسيئين . وبذلك فإن الفضل خير وأحب إلى الله من العدل . فالفضل وهو العفو مندوب إليه شرعا ، وبذلك فإن فاعله مأجور . أما الاقتصاص من أجل التشفي والانتقام للنفس من المعتدي فهو في حق المعتدى عليه مباح . والمباح قسم من أقسام الحكم لا يؤجر فاعله ولا يأثم تاركه . وعلى هذا يجدر القول إن العفو عن المسيء خير وأفضل من أخذ الحق منه بالانتقام . وهو قوله سبحانه : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } فيكتب الله الأجر وحسن المثوبة للعافين عن المسيئين إليهم ، شريطة أن يكون عفوهم عن مقدرة ، وهو أنهم قادرون على الانتقام .
وذلك يكشف عن حقيقة ساطعة ظاهرة وهي أن شريعة الإسلام أكمل الشرائع كافة ؛ فهي الشريعة المثلى التي تناسب البشر على اختلاف طبائعهم وتفاوت أهوائهم وفِطَرِهم . لا جرم أن هذه سمة هامة من سمات الصلوح في الإسلام ؛ أي صلوحه للإنسانية في كل زمان ومكان . وقد بينا فيما مضى أن الشرائع والملل السابقة كانت تتأرجح بين الإفراط والتفريط ، أو بين المغالاة والتنطُّع بعيدا عن ظاهرة الوسط الذي تصلح عليه البشرية على الدوام . فتلكم شرائع بني إسرائيل لا تُقرُّ العفو عن الجاني بل توجب القصاص دون غيره ، خلافا لأناجيل النصارى الأربعة فإنها توجب العفو وحده وتأبى لمقلديها أن يقتصوا من الظالمين المعتدين . وكِلا السبيلين مخالف للسداد والاعتدال ؛ فإن التشريع السديد هو الذي يأخذ في الاعتبار طبائع الناس جميعا . وهي طبائع كثيرة ومختلفة ومتفاوتة . فمن الناس من يجنح للاقتصاص والانتقام وإشفاء الغليل عقب الاعتداء عليه . وذلك حق . ومنهم من يجنح للصفح والإحسان مترفعا عن شهوة الانتقام ، فله ذلك وهو عند الله خير وأفضل .
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي المعتدين المبتدئين بالسيئة . فإنه ليس المبتدئ بالظلم والعدوان بمحمود .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.