وأمام هذه الرؤية الواضحة لآية الوحدانية المطلقة ، وآية القدرة الكاملة ، يقفهم أمام أنفسهم . في مفرق الطريق بين الكفر والشكر . وأمام التبعة الفردية المباشرة في اختيار الطريق . ويلوح لهم بنهاية الرحلة ، وما ينتظرهم هناك من حساب ، يتولاه الذي يخلقهم في ظلمات ثلاث . والذي يعلم ما تكن صدورهم من خفايا الصدور :
( إن تكفروا فإن الله غني عنكم . ولا يرضى لعباده الكفر . وإن تشكروا يرضه لكم . ولا تزر وازرة وزر أخرى . ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون . إنه عليم بذات الصدور ) . .
إن هذه الرحلة في بطون الأمهات هي مرحلة في الطريق الطويل . تليها مرحلة الحياة خارج البطون . ثم تعقبها المرحلة الأخيرة مرحلة الحساب والجزاء . بتدبير المبدع العليم الخبير .
والله - سبحانه - غني عن العباد الضعاف المهازيل . إنما هي رحمته وفضله أن يشملهم بعنايته ورعايته . وهم من هم من الضعف والهزال !
( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ) . .
فإيمانكم لا يزيد في ملكه شيئاً . وكفركم لا ينقص منه فتيلاً . ولكنه لا يرضى عن كفر الكافرين ولا يحبه :
ويعجبه منكم ، ويحبه لكم ، و يجزيكم عليه خيراً .
وكل فرد مأخوذ بعمله ، محاسب على كسبه ؛ ولا يحمل أحد عبء أحد . فلكل حمله وعبؤه :
( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) . .
والمرجع في النهاية إلى الله دون سواه ؛ ولا مهرب منه ولا ملجأ عند غيره :
( ثم إلى ربِّكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون ) . .
هذه هي العاقبة . وتلك هي دلائل الهدى . وهذا هو مفرق الطريق . . ولكل أن يختار . عن بينة . وعن تدبر . وبعد العلم والتفكير . .
الوزر : الذنب . ولا تزر وازرة وزر أخرى : لا تحمل نفسٌ آثمة حمل أخرى .
بذات الصدور : بما يدور في نفس الإنسان .
وبعد أن أقام الدليل على وحدانيته ، وبيّن أن المشركين ذهبت عقولُهم حين عبدوا الأصنام بين هنا أن الله هو الغني عما سواه من المخلوقات ، فهو لا يريد بعبادته جَرَّ منفعة ، ولا دفع مضرة ، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر ، { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } فكل نفس مطالَبةٌ بما عملت ، وبعدئذ تُردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت .
وهذا مبدأ جاء به الإسلام ، وأصّله القرآن الكريم ، ولم يستقرّ في فقه القانون إلا في العصور الحديثة .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي : { وإن تشكروا يرضهُ لكم } بإشباع ضمة الهاء ، وقرأ يعقوب : { يرضهْ } بإسكان الهاء ، والباقون : { يرضهُ } بضم الهاء بدون مد ولا إشباع .
قوله تعالى : " إن تكفروا فإن الله غني عنكم " شرط وجوابه . " ولا يرضى لعباده الكفر " أي أن يكفروا أي لا يحب ذلك منهم . وقال ابن عباس والسدي : معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وهم الذين قال الله فيهم : " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " [ الإسراء : 65 ] . وكقوله : " عينا يشرب بها عباد الله " [ الإنسان : 6 ] أي المؤمنون . وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة . وقيل : لا يرضى الكفر وإن أراده ، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه ، فهو يريد كون ما لا يرضاه ، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه ، فالإرادة غير الرضا . وهذا مذهب أهل السنة .
قوله تعالى : " وإن تشكروا يرضه لكم " أي يرضى الشكر لكم ؛ لأن " تشكروا " يدل عليه . وقد مضى القول في الشكر في " البقرة " وغيرها .
ويرضى بمعنى يثيب ويثني ، فالرضا على هذا إما ثوابه فيكون صفة فعل " لئن شكرتم لأزيدنكم " [ إبراهيم : 7 ] وإما ثناؤه فهو صفة ذات . و " يرضه " بالإسكان في الهاء قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم . وأشبع الضمة ابن ذكوان وابن كثير وابن محيصن والكسائي وورش عن نافع . واختلس الباقون . " ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور " قد تقدم في غير موضع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.