فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمۡۖ وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (7)

ولما ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده ، وبين لهم من بديع صنعه ، وعجيب فعله ، ما يوجب على كل عاقل أن يؤمن به عقبه بقوله : { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( 7 ) }{ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ } أي غير محتاج إليكم ولا إلى إيمانكم ولا عبادتكم له ، فإنه الغني المطلق .

{ وَ } مع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن ، فهو أيضا { لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } أي لا يرضى لأحد من عباده الكفر ، ولا يحبه ، ولا يأمر به ، ولا يفعل فعل الراضي بأن يأذن فيه ويقر عليه ، ويثيب فاعله ويمدحه ، بل يفعل فعل الساخط بأن ينهي عنه ويذم عليه ، ويعاقب مرتكبه ، وإن كان بإرادته إذ لا يخرج شيء عنها .

قال أبو السعود : عدم رضاه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرتهم ، رحمة عليهم لا لتضرره تعالى به انتهى . ومثل هذه الآية قوله { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم : ( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ) .

وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها ؟ وأن الكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر ، أو هي خاصة ، والمعنى لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر ، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وتابعه على ذلك عكرمة والسدي وغيرهما ، ثم اختلفوا في الآية اختلافا آخر ، فقال قوم : إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه وقال الآخرون : إنه لا يريده ولا يرضاه ، والكلام في تحقيق مثل هذا يطول جدا .

وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } ونحو هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز .

قال ابن عباس في قوله : { وإن تكفروا } الخ يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ، فيقولوا لا إله إلا الله ، ثم قال : { ولا يرضى لعباده الكفر } وهم عباده المخلصون ، الذين قال فيهم { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله ، وحببها إليهم أخرجه ابن جرير فيكون عاما في اللفظ خاصا في المعنى ، كقوله { عينا يشرب بها عباد الله } يريد بعض العباد وقال عكرمة لا يرضى لعباده المسلمين الكفر ، وعن قتادة قال ، والله ما رضي الله لعبد صلاته ، ولا أمره بها ، ولا دعاه إليها ، ولكن رضي لكم طاعته ، وأمركم بها ، ونهاكم عن معصيته ، ثم لما ذكر سبحانه أنه لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر فقال :

{ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } أي يرضى لكم الشكر ، المدلول عليه بقوله . وإن تشكروا أي يثبكم عليه ، وإنما رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة . كما قال سبحانه { لئن شكرتم لأزيدنكم } لا لانتفاعه به ، قرئ بإسكان الهاء من يرضه ، وبإشباع الضمة على الهاء . واختلف الباقون والقراءات كلها سبعية .

{ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي لا تحمل نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى ، وهذا بيان لعدم سراية كفر الكافر لغيره أصلا ، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ } يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من خير وشر ، وفيه تهديد شديد { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي بما تضمره القلوب وتستره ، فكيف بما تظهره وتبديه ، وهذا تعليل بالتنبيه بالأعمال .