مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمۡۖ وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (7)

ثم قال تعالى : { إن تكفروا فإن الله غنى عنكم } والمعنى أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة ، وذلك لأنه تعالى غني على الإطلاق ، ويمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ، وإنما قلنا إنه غني لوجوه : الأول : أنه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته ، ومن كان كذلك كان غنيا على الإطلاق الثاني : أنه لو كان محتاجا لكانت تلك الحاجة إما قديمة وإما حادثة . والأول باطل وإلا لزم أن يخلق في الأزل ما كان محتاجا إليه وذلك محال ، لأن الخلق والأزل متناقض . والثاني باطل لأن الحاجة نقصان والحكيم لا يدعوه الداعي إلى تحصيل النقصان لنفسه الثالث : هب أنه يبقى الشك في أنه هل تصح الشهوة والنفرة والحاجة عليه أم لا ؟ أما من المعلوم بالضرورة أن الإله القادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة ، والمواليد الثلاثة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو ، وأن يضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك ، فثبت بما ذكرنا أن جميع العالمين لو كفروا وأصروا على الجهل فإن الله غني عنهم .

ثم قال تعالى بعده : { ولا يرضى لعباده الكفر } يعني أنه وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفران إلا أنه لا يرضى بالكفر ، واحتج الجبائي بهذه الآية من وجهين : الأول : أن المجبرة يقولون إن الله تعالى خلق كفر العباد وإنه من جهة ما خلقه حق وصواب ، قال ولو كان الأمر كذلك لكان قد رضي الكفر من الوجه الذي خلقه ، وذلك ضد الآية الثاني : لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب ، وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضا برضاء الله تعالى ، وأجاب الأصحاب عن هذا الاستدلال من وجوه الأول : أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين ، قال الله تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا } وقال : { عينا يشرب بها عباد الله } وقال : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } فعلى هذا التقدير قوله : { ولا يرضى لعباده الكفر } ولا يرضى للمؤمنين الكفر ، وذلك لا يضرنا الثاني : أنا نقول الكفر بإرادة الله تعالى ولا نقول إنه برضا الله لأن الرضا عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله ، قال الله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين } أي يمدحهم ويثني عليهم الثالث : كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول : الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض ، وليس عبارة عن الإرادة ، والدليل عليه قول ابن دريد :

رضيت قسرا وعلى القسر رضا *** من كان ذا سخط على صرف القضا

أثبت الرضا مع القسر وذلك يدل على ما قلناه والرابع : هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله : { ولا يرضى لعباده الكفر } عام ، فتخصيصه بالآيات الدالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر كقوله تعالى : { وما تشاءون إلا أن يشاء الله } ، والله أعلم .

ثم قال تعالى : { وإن تشكروا يرضه لكم } والمراد أنه لما بين أنه لا يرضى الكفر بين أنه يرضى الشكر ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : اختلف القراء في هاء { يرضه } على ثلاثة أوجه أحدها : قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء مختلسة غير متبعة وثانيها : قرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات يرضه ساكنة الهاء للتخفيف وثالثها : قرأ نافع في بعض الروايات وابن كثير وابن عامر والكسائي مضمومة الهاء مشبعة ، قال الواحدي رحمه الله من القراء من أشبع الهاء حتى ألحق بها واوا ، لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه وله ، فكما أن هذا مشبع عند الجميع كذلك يرضه ، ومنهم من حرك الهاء ولم يلحق الواو ، لأن الأصل يرضاه والألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها فكانت كالباقية ، ومع بقاء الألف لا يجوز إثبات الواو فكذا ههنا .

المسألة الثانية : الشكر حالة مركبة من قول واعتقاد وعمل أما القول فهو الإقرار بحصول النعمة وأما الاعتقاد فهو اعتقاد صدور النعمة من ذلك المنعم .

ثم قال تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } قال الجبائي هذا يدل على أنه تعالى لا يعذب أحدا على فعل غيره ، فلو فعل الله كفرهم لما جاز أن يعذبهم عليه ، وأيضا لا يجوز أن يعذب الأولاد بذنوب الآباء ، بخلاف ما يقول القوم . واحتج أيضا من أنكر وجوب ضرب الدية على العاقلة بهذه الآية .

ثم قال تعالى : { ثم إلى ربكم مرجعكم } واعلم أنا ذكرنا كثيرا أن أهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان ، وأن يعرف ما يضره وما ينفعه في هذه الحياة الدنيوية ، وأن يعرف أحواله بعد الموت ، ففي هذه الآية ذكر الدلائل الكثيرة من العالم الأعلى والعالم الأسفل على كمال قدرة الصانع وعلمه وحكمته ، ثم أتبعه بأن أمره بالشكر ونهاه عن الكفر ثم بين أحواله بعد الموت بقوله : { ثم إلى ربكم مرجعكم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : المشبهة تمسكوا بلفظ إلى على أن إله العالم في جهة وقد أجبنا عنه مرارا .

المسألة الثانية : زعم القوم أن هذه الأرواح كانت قبل الأجساد وتمسكوا بلفظ الرجوع الموجود في هذه الآية وفي سائر الآيات .

المسألة الثالثة : دلت هذه الآية على إثبات البعث والقيامة .

ثم قال : { فينبئكم بما كنتم تعملون } وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع ، وقوله تعالى : { إنه عليم بذات الصدور } كالعلة لما سبق ، يعني أنه يمكنه أن ينبئكم بأعمالكم ، لأنه عالم بجميع المعلومات ، فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » .