اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِن تَكۡفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمۡۖ وَلَا يَرۡضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلۡكُفۡرَۖ وَإِن تَشۡكُرُواْ يَرۡضَهُ لَكُمۡۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (7)

قوله : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ } أي إنه تعالى ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعةً أو ليَدْفَع عن نفسه مضرَّة لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الوجود لذاته في جميع صفاته يكون غنياَ على الإطلاق وأيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة «زَيْدٍ » وصيامِ «عَمْرٍو » وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك .

ثم قال : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } أي وإن كَان لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ، إلا أنه لا يرضى بالكفر . قال ابن عباس والسدي : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى كقوله : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] يريد بعض العباد ، وقال قتادة : لا يرضى لأحد من عباده الكفر أي لا يرضى لعباده أن يكفروا به . وهو قول السَّلَفِ قالوا : كُفر الكافر غير مرضي لله وإن كان بإرادته .

واحتج الجبائيّ بهذه الآية من وجهين :

الأول : أن المُجبرة يقولون : إن الله تعالى خلق العباد وأفعالهم وأقوالهم وكل ما خلقه حقّ وصواب ، وإذا كان كذلك كان قد رَضِي بالكفر من التوجه الذي خلقه وذلك ضد الآية .

الثاني : لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله واجب وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضاً برضا الله تعالى . وأجيب بوجوه :

أحدها : إن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين كما قدمناه عن ابْنِ عَبَاسٍ .

وثانيها : قول السلف المتقدم وأنشد ابنُ دُرَيْدٍ :

رَضِيتُ قَسْراً أو عَلَى القَسْرِ رِضا*** مَنْ كَانَ ذَا سُخْطٍ علَى صَرْفِ القضا

أثبت الرضا مع القَسْر .

وثالثها : هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } عام فيتخصص بالآيات الدالة على أنه تعالى لا يريد الكفر لقوله تعالى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الإنسان : 30 ] .

قوله : { وَإِن تَشْكُرُواْ } أي تؤمنوا بربكم وتُطِيعُوه «يَرْضَهُ لَكُمْ » فَيثيبكم عليه . قرأ ابن كثير والكسائي وابن ذكوان يَرْضَهُو بالصلة . وهي الأصل من غير خلاف وهي قراءة واضحةٌ . قال الواحدي : من أشبع الهاء حتى ألحق فيها واواً لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه ، وقرأ «يَرْضَهُ » بضم الهاء ) من غير صلة بلا خلاف نافعٌ وعاصمٌ وحمزة . وقرأ «يَرْضَهُ » بإسكانها وصلاً من غير خلاف السُّوسِيُّ عن أبي عمرو ، وقرأ بالوجهين أعني الإسكان والصلة الدّورِيّ عن أبي عمرٍو . وقرأ بالإسكان والتحريك من غير صلة هشام عن ابن عامر . فهذه خمس مراتب للقراءة وقد تقدم توجيه الإسكان والقصر والإشباع أول الكتاب وما أنشد عليه ، ولا يلتفت إلى أبي حاتم في تَغْليطه رَاوِي السكون ؛ فإنها لغة ثابتةٌ عن بني عقيل وبني كَلاَبٍ .

قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } قال الجبائي : هذا يدل على أنه لا يجوز أن يقال : إنه تعالى يأخذ الأولاد بذنوب الآباء واحتج به أيضاً من أنكر وجوب ضرب الدية على العَاقِلَة . ثم قال : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } وهذا يدل على إثبات البعث والقيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وهذا يدل على تهديد العاصي وبشارة المطيع . وقوله : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } كالعلة لما سبق أي إنه إنما ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف قال- صلى الله عليه وسلم - : «إنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأَعْمَالِكُمْ » .