( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم ) !
لتسألن عنه من أين نلتموه ? وفيم أنفقتموه ? أمن طاعة وفي طاعة ? أم من معصية وفي معصية ? أمن حلال وفي حلال ? أم من حرام وفي حرام ? هل شكرتم ? هل أديتم ? هل شاركتم ? هل استأثرتم ?
( لتسألن )عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل !
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها . وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها . وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون !
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل . . ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر ) . . وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة . . ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ؛ ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد . .
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة ، بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها ، الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها . . حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق !
{ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } الذي تنعمتم به في دار الدنيا ، هل قمتم بشكره ، وأديتم حق الله فيه ، ولم تستعينوا به ، على معاصيه ، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل ، أم اغتررتم به ، ولم تقوموا بشكره ؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله فيعاقبكم على ذلك ، قال تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } الآية .
قوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر . فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة " ؟ قالا : الجوع يا رسول الله . قال : " وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما قوما " ، فقاما معه ، فأتى رجلا من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا وأهلا . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين فلان " ؟ قالت : يستعذب لنا من الماء ؛ إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، ثم قال : الحمد لله ، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني . قال : فانطلق ، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، فقال : كلوا من هذه . وأخذ المدية فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب " فذبح لهم ، فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا ، فلما أن شبعوا ورووا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : " والذي نفسي بيده لتسألن عن نعيم هذا اليوم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم " . خرجه الترمذي ، وقال [ فيه ] : " هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة : ظل بارد ، ورطب طيب ، وماء بارد " وكنى الرجل الذي من الأنصار ، فقال : أبو الهيثم ابن التيهان . وذكر قصته .
قلت : اسم هذا الرجل الأنصاري مالك بن التيهان ، ويكنى أبا الهيثم . وفي هذه القصة يقول عبد الله بن رواحة ، يمدح بها أبا الهيثم بن التيهان :
فلم أر كالإسلام عِزًّا لأمة *** ولا مثل أضيافِ الإِرَاشِيِّ{[16343]} مَعْشَرَا
نبيٌّ وصِدِّيقٌ وفاروق أمة *** وخير بني{[16344]} حواء فَرْعًا وعُنْصُرَا
فوافوا لميقاتٍ وقدرِ قضية *** وكان قضاء الله قَدْرًا{[16345]} مُقَدَّرَا
إلى رجل نجد يباري بجودِهِ *** شُموسَ الضحى جودا ومجدا ومفخرا
وفارسِ خلق الله في كل غارة *** إذا لبِس القوم الحديد المُسَمَّرَا
ففدّى وحيَّا ثم أدنى قراهم *** فلم يَقْرِهِمْ إلا سمينا مُتَمِّرَا{[16346]}
وقد ذكر أبو نُعَيم الحافظ ، عن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، فخرجت إليه ، ثم مر بأبي بكر فدعاه ، فخرج إليه ، ثم مر بعمر فدعاه ، فخرج إليه ، فانطلق حتى دخل حائطا لبعض الأنصار ، فقال لصاحب الحائط : " أطعمنا بسرا " فجاء بعذق ، فوضعه فأكلوا ، ثم دعا بماء فشرب ، فقال : " لتسألن عن هذا يوم القيامة " قال : وأخذ عمر العذق ، فضرب به الأرض حتى تناثر البسر نحو وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله ، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة ؟ قال : " نعم ، إلا من ثلاث : كسرة يسد بها جوعته ، أو ثوب يستر به عورته ، أو حجر يأوي فيه من الحر والقر " . واختلف أهل التأويل في النعيم المسؤول عنه على عشرة أقوال :
أحدها : الأمن والصحة ، قاله ابن مسعود . الثاني : الصحة والفراغ ، قاله سعيد بن جبير . وفي البخاري عنه عليه السلام : " نعمتان مغبون{[16347]} فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ " . الثالث :الإدراك بحواس السمع والبصر ، قاله ابن عباس . وفي التنزيل : { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا }{[16348]} [ الإسراء : 36 ] . وفي الصحيح عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( " يؤتي بالعبد يوم القيامة ، فيقول له : ألم أجعل لك سمعا وبصرا ، ومالا وولدا . . . . " ، الحديث . خرجه الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح . الرابع : ملاذ المأكول والمشروب ، قاله جابر بن عبد الله الأنصاري ، وحديث أبي هريرة يدل عليه . الخامس : أنه الغداء والعشاء ، قاله الحسن . السادس : قول مكحول الشامي : إنه شبع البطون ، وبارد الشراب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ، ولذة النوم . ورواه زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { لتسألن يومئذ عن النعيم } يعني عن شبع البطون . . . " . فذكره ، ذكره الماوردي ، وقال : وهذا السؤال يعم الكافر والمؤمن ، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن يجمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة . وسؤال الكافر تقريع أن قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية . وقال قوم : هذا السؤال عن كل نعمة ، إنما يكون في حق الكفار ، فقد روي أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله ، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان ، من خبز شعير ولحم وبسر قد ذنب{[16349]} ، وماء عذب ، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه ؟ فقال عليه السلام : " ذلك للكفار ، ثم قرأ : { وهل نجازي إلا الكفور }{[16350]} [ سبأ : 17 ] ، ذكره القشيري أبو نصر . وقال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار . وقال القشيري : والجمع بين الأخبار : أن الكل يسألون ، ولكن سؤال الكفار توبيخ ؛ لأنه قد ترك الشكر . وسؤال المؤمن سؤال تشريف ؛ لأنه شكر ، وهذا النعيم في كل نعمة .
قلت : هذا القول حسن ؛ لأن اللفظ يعم . وقد ذكر الفريابي قال : حدثنا ورقاء ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال : كل شيء من لذة الدنيا . وروى أبو الأحوص عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله تعالى ليعدد نعمه على العبد يوم القيامة ، حتى يعد عليه : سألتني فلانة أن أزوجكها ، فيسميها باسمها ، فزوجتكها " . وفي الترمذي عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } قال الناس : يا رسول الله ، عن أي النعيم نسأل ؟ فإنما هما الأسودان{[16351]} والعدو حاضر ، وسيوفنا على عواتقنا . قال : " إن ذلك سيكون " . وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد - أن يقال له : ألم نصح لك جسمك ، ونرويك من الماء البارد " ، قال : حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا كان يوم القيامة دعا الله بعبد من عباده ، فيوقفه بين يديه ، فيسأله عن جاهه كما يسأل عن ماله " . والجاه من نعيم الدنيا لا محالة . وقال مالك رحمه الله : إنه صحة البدن ، وطيب النفس ، وهو القول السابع . وقيل : النوم مع الأمن والعافية . وقال سفيان بن عيينة : إن ما سد الجوع وستر العورة من خشن الطعام واللباس ، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة ، وإنما يسأل عن النعيم . قال : والدليل عليه أن الله تعالى أسكن آدم الجنة . فقال له : { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى . وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }{[16352]} [ طه : 118 ] . فكانت هذه الأشياء الأربعة - ما يسد به الجوع ، وما يدفع به العطش ، وما يستكن فيه من الحر ، ويستر به عورته ، لآدم عليه السلام بالإطلاق ، لا حساب عليه فيها ؛ لأنه لابد له منها .
قلت : ونحو هذا ذكره القشيري أبو نصر ، قال : إن مما لا يسأل عنه العبد لباسا يواري سوأته ، وطعاما يقيم صلبه ، ومكانا يكنه من الحر والبرد .
قلت : وهذا منتزع من قول عليه السلام : " ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال : بيت يسكنه ، وثوب يواري عورته ، وجلف الخبز والماء " ، خرجه الترمذي . وقال النضر بن شميل : جلف الخبز : ليس معه إدام . وقال محمد بن كعب : النعيم : هو ما أنعم الله علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم . وفي التنزيل : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم }{[16353]} [ آل عمران :164 ] . وقال الحسن أيضا والمفضل : هو تخفيف الشرائع ، وتيسير القرآن ، قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج }{[16354]} [ الحج : 78 ] ، وقال تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }{[16355]} [ القمر :17 ] .
قلت : وكل هذه نعم ، فيسأل العبد عنها : هل شكر ذلك أم كفر . والأقوال المتقدمة أظهر . والله أعلم .