وصدق رسول الله . إنه لأمر متفاوت . وإن موحيات الإيمان وموجباته لديهم لشيء هائل ، هائل ، عجيب عجيب . وهو يعجب : ما لهم لا يؤمنون ? ثم يطلب إليهم تحقيق الإيمان في نفوسهم إن كانوا مؤمنين ! ثم ينتقل بهم من موحيات الإيمان وموجباته إلى موحيات الإنفاق وموجباته في توكيد وتكرير :
( وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض ? ) . .
وفي هذه الإشارة عودة إلى حقيقة : ( له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور ) . . فميراث السماوات والأرض ملكه وراجع إليه ، وما استخلفوا فيه إذن سيؤول إليه في الميراث ! فما لهم لا ينفقون في سبيله حين يدعوهم إلى الإنفاق . وهو استخلفهم فيه كما قال لهم هناك . وكله عائد إليه كما يقول لهم هنا ? وما الذي يبقى من دواعي الشح وهواتف البخل أمام هذه الحقائق في هذا الخطاب ?
ولقد بذلت الحفنة المصطفاة من السابقين ، من المهاجرين والأنصار ، ما وسعها من النفس والمال ، في ساعة العسرة وفترة الشدة - قبل الفتح - فتح مكة أو فتح الحديبية وكلاهما اعتز به الإسلام أيام أن كان الإسلام غريبا محاصرا من كل جانب ، مطاردا من كل عدو ، قليل الأنصار والأعوان . وكان هذا البذل خالصا لا تشوبه شائبة من طمع في عوض من الأرض ، ولا من رياء أمام كثرة غالبة من أهل الإسلام . كان بذلا منبثقا عن خيرة اختاروها عند الله ؛ وعن حمية لهذه العقيدة التي اعتنقوها وآثروها على كل شيء وعلى أرواحهم وأموالهم جميعا . . ولكن ما بذلوه - من ناحية الكم - كان قليلا بالقياس إلى ما أصبح الذين جاءوا بعد الفتح يملكون أن يبذلوه . فكان بعض هؤلاء يقف ببذله عند القدر الذي يعرف ويسمع أن بعض السابقين بذلوه ! هنا نزل القرآن ليزن بميزان الحق بذل هؤلاء وبذل أولئك ، وليقرر أن الكم ليس هو الذي يرجح في الميزان ؛ ولكنه الباعث وما يمثله من حقيقة الإيمان :
( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل . أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ) . .
إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة ، والأنصار قلة وليس في الأفق ظل منفعة ولا سلطان ولا رخاء . غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة ، والأنصار كثرة ، والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال . ذلك متعلق مباشرة بالله ، متجرد تجردا كاملا لا شبهة فيه ، عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده ، بعيد عن كل سبب ظاهر وكل واقع قريب . لا يجد على الخير عونا إلا ما يستمده مباشرة من عقيدته . وهذا له على الخير أنصار حتى حين تصح نيته ويتجرد تجرد الأولين .
قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا زهير ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس ، قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ! فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد - أو مثل الجبال - ذهبا ما بلغتم أعمالهم " . .
وفي الصحيح : " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " .
وبعد أن قرر القيم الحقيقية في ميزان الله لهؤلاء ولهؤلاء عاد فقرر أن للجميع الحسنى :
فقد أحسنوا جميعا ، على تفاوت ما بينهم في الدرجات .
ومرد ذلك التفاوت وهذا الجزاء بالحسنى للجميع ، إلى ما يعلمه الله من تقدير أحوالهم ، وما وراء أعمالهم من عزائمهم ونواياهم . وخبرته تعالى بحقيقة ما يعملون :
وهي لمسة موقظة للقلوب ، في عالم النوايا المضمرة وراء الأعمال الظاهرة ، وهي التي تناط بها القيم ، وترجح بها الموازين . .
ثم زاد في التأكيد على الإنفاق أن الجميع صائر إليه ، وأن الإنسانَ لا يأخذُ معه شيئا مما يجمعُه إلا العملَ الصالحَ والإنفاقَ في سبيل الله فقال :
{ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } .
مالكم أيها الناس ، لا تنفقون مما رزقكم الله في سبيله ؟ أنفِقوا أموالكم في سبيل الله قبل أن تموتوا ، ليكونَ ذلك ذُخراً لكم عند ربكم . فأنتم بعد الموت لا تقدِرون على ذلك ، إذ تصير الأموال ميراثاً لمن له السمواتُ والأرضُ فهو الذي يرث كل ما فيهما .
ثم بيّن تفاوت درجات المنفقين فقال :
{ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } .
لا يستوي في الدرجة والأجرِ ذلك المؤمن الذي أنفق قبلَ فتح مكة وقاتَلَ ( لأن المسلمين كانوا في ضيق وجُهد وحاجة إلى من يسانِدهم ، ويقويهم ) فهؤلاء المنفِقون والمقاتلون قبل فتحِ مكةَ أعظمُ درجةً عند الله من الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا . وقد وعدَ الله الجميعَ المثوبةَ الحسنى ، { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فيجازي كلاًّ بما يستحق .
قرأ ابن عامر : وكلٌّ وعدَ الله الحسنى برفع كل . والباقون : وكُلاً بالنصب .
{ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض } أي أي شيء لكم في ترك الانفاق في طاعة الله وأنتم ميتون تاركون أموالكم ثم بين فضل السابقين في الانفاق والجهاد فقال { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح } يعني فتح مكة { وقاتل } جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداء الله { أولئك أعظم درجة } يعني عند الله { من الذين أنفقوا من بعد } الفتح { وقاتلوا وكلا } من الفريقين { وعد الله الحسنى } الجنة
ولما أمرهم بالإيمان والإنفاق ، وكان{[62412]} الإيمان مع كونه الأساس الذي لا يصح عمل بدونه ليس فيه{[62413]} شيء من خسران أو نقصان ، فبدأ به لذلك ، ورغب بختم الآية بالإشارة بالرأفة{[62414]} إلى أن من{[62415]} توصل إليه بشيء من الإيمان أو غيره زاده من فضله " من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً - إلى قوله : ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " عطف عليه الترغيب في التوصل إليه{[62416]} بالإنفاق منكراً على من تركه موبخاً لمن حاد عنه{[62417]} هو يعلم أنه فان ، مفهماً بزيادة " أن " المصدرية اللوم على تركه في جميع الأزمنة الثلاثة فقال : { وما } أي وأيّ شيء يحصل { لكم } في { ألا تنفقوا } أي توجدوا الإخراج للمال { في سبيل الله } أي في كل ما يرضي الملك الأعظم الذي له صفات الكمال لتكون لكم به وصلة فيخصكم بالرأفة التي هي أعظم الرحمة ، فإنه ما بخل به{[62418]} أحد عن وجه خير إلا سلط الله عليه غرامة في وجه شر ، وأظهر موضع الإضمار في جملة حالية باعثاً على الإنفاق بأبلغ بعث{[62419]} فقال : { ولله } تأكيداً للعظمة بالندب إلى ذلك باستحضار جميع صفات الكمال لا سيما صفة الإرث المقتضية للزهد في الموروث { ميراث } أي{[62420]} الإرث {[62421]}والموروث{[62422]} والموروث عنه وغير ذلك { السماوات والأرض } جميعاً لا شيء فيهما أو منهما إلا هو كذلك يزول عن المنتفع به ويبقى لله بقاء الإرث{[62423]} ، ومن تأمل أنه زائل هو وكل ما في يده والموت من ورائه ، ويد طوارق الحوادث مطبقة به ، وعما قليل ينقل ما في يده إلى غيره هان عليه الجود بنفسه وماله .
ولما رغبهم في الإنفاق على الإطلاق ، رغبهم في المبادرة إليه ، مادحاً أهله خاصاً منهم أهل السياق فقال : { لا يستوي } . ولما كان المراد أهل الإسلام بين بقوله : { منكم من أنفق } أي أوجد الإنفاق في ماله وجميع قواه وما يقدر عليه . ولما كان المقصود الإنفاق في زمان الإيمان لا مطلق الزمان ، خص بالجارّ فقال : { من قبل الفتح } أي الذي هو فتح جميع الدنيا في الحقيقة وهو فتح مكة الذي كان سبباً لظهور{[62424]} الدين على الدين{[62425]} كله لما نال المنفق إذ ذاك بالإنفاق من كثرة المشاق لضيق المال حينئذ ، وذلك مستلزم لكون المنفق أنفذ بصيرة ونفقته أعظم غنّى وأشد نفعاً ، وفيه دليل على فضل أبي بكر رضي الله عنه فإنه أول من أنفق ولم يسبقه في ذلك أحد ، وفيه نزلت الآية - كما حكاه البغوي{[62426]} عن الكلبي .
ولما كان المراد بالإيمان خدمة الرحمة ، وكان الإنفاق وإن كان مصدقاً للإيمان لا يكمل تصديقه إلا ببذل النفس قال : { وقاتل } أي سعياً في إنفاق نفسه لمن آمن به ، وحذف المنفي للتسوية به وهو من{[62427]} لم ينفق مطلقاً أو بقيد القبلية لدلالة ما بعده ، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى قلة السابقين .
ولما كان نفي المساواة لا يعرف منها الفاضل من غيره ، وقد كان حذف قسيم من أنفق لوضوحه والتنفير منه ودلالة ما بعده عليه ، نفى اللبس بقوله : { أولئك } أي المنفقون المقاتلون وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، {[62428]}المقربون من أهل الرتبة العلية لمبادرتهم إلى الجود بالنفس والمال { أعظم درجة } وبعظم الدرجة يكون عظم صاحبها { من الذين أنفقوا } ولما كان المراد التفضيل على أوجد الإنفاق والقتال في زمان بعد ذلك ، لا على من استغرق كل زمان بعده بالإنفاق والقتال{[62429]} أدخل الجار فقال : { من بعد وقاتلوا } ولما كان التفضيل مفهماً اشتراك الكل في الفضل ، صرح به ترغيباً في الإنفاق على كل حال فقال : { وكلاًّ } أي من القسمين { وعد الله } أي{[62430]} الذي له الجلال والكمال والإكرام { الحسنى } أي الدرجة التي هي غاية الحسن وإن كانت في نفسها متفاوتة ، وقرأ ابن عامر{[62431]} { وكل } وهو أوفق لما عطف عليه .
ولما كان زكاء الأعمال إنما هو بالنيات ، وكان التفضيل مناط العلم ، قال {[62432]}مرغباً في{[62433]} إحسان النيات مرهباً{[62434]} من{[62435]} التقصير فيها : { والله } أي الذي له الإحاطة الشاملة بجميع صفات الكمال ، وقدم الجار إعلاماً بمزيد اعتناء بالتمييز عند التفضيل فقال : { بما تعملون } أي تجددون عمله على مر الأوقات { خبير * } أي عالم بباطنه وظاهره علماً لا مزيد عليه بوجه ، فهو يجعل جزاء الأعمال على{[62436]} قدر النيات التي هي أرواح صورها .