ولما صور الله الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله : ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة ، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ، وبدا لهم سيئات
ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . . عاد يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة . ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية . ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين . ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا ، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان . .
( قل : يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم ) . .
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية . كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة . دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال . دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله . إن الله رحيم بعباده . وهو يعلم ضعفهم وعجزهم . ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه . ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد . ويأخذ عليهم كل طريق . ويجلب عليهم بخيله ورجله . وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث ! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه . وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده . وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك ؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم . .
يعلم الله - سبحانه - عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون ؛ ويوسع له في الرحمة ؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط . وبعد أن يلج في المعصية ، ويسرف في الذنب ، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره ، ولم يعد يقبل ولا يستقبل . في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط ، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف :
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفر الذنوب جميعاً . إنه هو الغفور الرحيم . .
وليس بينه - وقد أسرف في المعصية ، ولج في الذنب ، وأبق عن الحمى ، وشرد عن الطريق - ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية ، وظلالها السمحة المحيية . ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة . التوبة وحدها . الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع ، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان :
أسرفوا على أنفسهم : تجاوزا الحد فيما فعلوه من المعاصي .
إن هذه الآية الكريمة أعظم بشرى لنا نحن المؤمنين ، فهي دعوة صريحة من الله لنا إلى التوبة ، ووعدٌ بالعفو والصفح عن كل ذنبٍ مهما كبر وعظم . وقد ترك الله تعالى بابه مفتوحا للرجوع إليه أمام من يريد أن يكفّر عن سيئاته ، ويصلح ما أفسد من نفسه .
روى الإمام أحمد عن ثوبان مولى رسول الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية : { قُلْ يا عبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ . } فقال رجل : يا رسول الله فمن أشرك ؟ فسكت الرسول الكريم ، ثم قال : أَلا ومن الشرك - ثلاث مرات » إلى أحاديث كثيرة كلها تبشر بسعة رحمة الله ، والبشرى بالمغفرة مهما جل الذنب وكبر ، ويا لها من بشرى . { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } صدق الله العظيم . { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } فمن أبى هذا التفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، وجعل يقنّط الناس ، وتزمّتَ مثل كثير من وعَاظ زماننا ، وبعض فئات المتدينين على جَهل ، فقد ركب أعظم الشطط ، فبشّروا أيها الناس ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا ، يرحمكم الله .
قوله تعالى : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وإن شئت حذفت الياء ؛ لأن النداء موضع حذف . النحاس : ومن أجل ما روي فيه ما رواه محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : لما اجتمعنا على الهجرة ، أتعدت أنا وهشام بن العاصي بن وائل السهمي ، وعياش بن أبي ربيعة بن عتبة ، فقلنا : الموعد أضاة{[13324]} بني غفار ، وقلنا : من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه . فأصبحت أنا وعياش بن عتبة وحبس عنا هشام ، وإذا به قد فتن فافتتن ، فكنا نقول بالمدينة : هؤلاء قد عرفوا الله عز وجل وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم افتتنوا لبلاء لحقهم لا نرى لهم توبة ، وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم ، فأنزل الله عز وجل في كتابه : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " إلى قوله تعالى : " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " قال عمر : فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام . قال هشام : فلما قدمت علي خرجت بها إلى ذي طوى فقلت : اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا ، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان قوم من المشركين قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أو بعثوا إليه : إن ما تدعو إليه لحسن أو تخبرنا أن لنا توبة ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " ذكره البخاري بمعناه . وقد مضى في آخر " الفرقان " {[13325]} . وعن ابن عباس أيضا نزلت في أهل مكة قالوا : بزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له ، وكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا مع الله إلها آخر وقتلنا النفس التي حرم الله فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إنها نزلت في قوم من المسلمين أسرفوا على أنفسهم في العبادة ، وخافوا ألا يتقبل منهم لذنوب سبقت لهم في الجاهلية . وقال ابن عباس أيضا وعطاء نزلت في وحشي قاتل حمزة ؛ لأنه ظن أن الله لا يقبل إسلامه : وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : أتى وحشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد أتيتك مستجيرا فأجرني حتى أسمع كلام الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد كنت أحب أن أراك على غير جوار ، فأما إذ أتيتني مستجيرا فأنت في جواري حتى تسمع كلام الله ) قال : فإني أشركت بالله وقتلت النفس التي حرم الله وزنيت ، هل يقبل الله منى توبة ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت : " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " [ الفرقان : 68 ] إلى آخر الآية فتلاها عليه ، فقال أرى شرطا فلعلي لا أعمل صالحا ، أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ النساء : 48 ] فدعا به فتلا عليه ، قال : فلعلي ممن لا يشاء أنا في جوارك حتى أسمع كلام الله . فنزلت : " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " فقال : نعم الآن لا أرى شرطا . فأسلم . وروى حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب عن أسماء أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم " . وفي مصحف ابن مسعود " إن الله يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء " . قال أبو جعفر النحاس : وهاتان القراءتان على التفسير ، أي يغفر الله لمن يشاء . وقد عرف الله عز وجل من شاء أن يغفر له ، وهو التائب أو من عمل صغيرة ولم تكن له كبيرة ، ودل على أنه يريد التائب ما بعده " وأنيبوا إلى ربكم " فالتائب مغفور له ذنوبه جميعا يدل على ذلك " وإني لغفار لمن تاب " [ طه : 82 ] فهذا لا إشكال فيه . وقال علي بن أبي طالب : ما في القرآن آية أوسع من هذه الآية : " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " وقد مضى هذا في " سبحان " {[13326]} . وقال عبد الله بن عمر : وهذه أرجى آية في القرآن فرد عليهم ابن عباس وقال أرجى آية في القرآن قوله تعالى : " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " [ الرعد : 6 ] وقد مضى في " الرعد " {[13327]} . وقرئ " ولا تقنطوا " بكسر النون وفتحها . وقد مضى في " الحجر " {[13328]} بيانه .
ولما حذر سبحانه في هذه السورة ولا سيما في هذه الآيات فطال التحذير ، وأودعها من التهديد وصادع الإنذار والوعيد العظيم الكثير ، وختم بالحث على الإيمان ، والنظر السديد في العرفان ، وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست ونفرت وأوحشت ، وصدت عن العطف وأبعدت ، قال تعالى مستعطفاً مترفقاً بالشاردين عن بابه متلطفاً جامعاً بين العاطفين ، كلام ذوي النعمة على لسان نبي الرحمة صارفاً القول إلى خطابه بعد أسلوب الغيبة : { قل } أي يا أكرم الخلق وأرحمهم بالعباد ، ولفت عما تقتضيه " قل " من الغيبة إلى معنى الخطاب زيادة في الاستعطاف ، وزاد في الترفق بذكر العبودية والإضافة إلى ضميره عرياً عن التعظيم فقال : { يا } أي ربكم المحسن إليكم يقول : يا { عبادي } فلذذهم بعد تلك المرارات بحلاوة الإضافة إلى جنابه تقريباً من بابه . ولما أضاف ، طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين ، فرفعوا رؤوسهم ، ونكس العاصون وقالوا : من نحن حتى يصوب نحونا هذا المقال ؟ فقال تعالى جابراً لهم : { الذين أسرفوا } أي تجاوزوا الحد في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى صارت لهم أحمال ثقال { على أنفسهم } فأبعدوها عن الحضرات الربانية ، وأركسوها في الدنايا الشيطانية ، فانقلب الحال ، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت ذلتهم والذين رفعوا رؤوسهم أطرقوا وزالت صولتهم - قاله القشيري ، وأفهم تقييد الإسراف أن الإسراف على الغير لا يغفر إلا بالخروج عن عهدة ذلك الغير { لا تقنطوا } أي ينقطع رجاؤكم وتيأسوا وتمتنعوا - وعظم الترجية بصرف القول عن التكلم وإضافة الرحمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الجلال والإكرام فقال : { من رحمة الله } أي إكرام المحيط بكل صفات الكمال ، فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة ، ولعظم المقام أضاف إلى الاسم الأعظم ، ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد لظنهم أن كثرة الوعيد منعت الغفران ، وحتمت الجزاء بالانتقام ، وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للحال ، وتأكيداً بما فيه من معنى الإحاطة والجمع لإرادة العموم : { إن الله } أي الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال والإكرام ، فكما أنه متصف بالانتقام وهو متصف بالعفو والغفران { يغفر } إن شاء { الذنوب } ولما أفهمت اللام الاستغراق أكده فقال : { جميعاً } ولا يبالي ، لكنه سبق منه القول أنه إنما يغفر الشرك بالتوبة عنه ، وأما غيره فيغفره إن شاء بتوبة وإن شاء بلا توبة ، ولا يقدر أحد أن يمنعه من شيء من ذلك .
ولما كان لا يعهد في الناس مثل هذا بل لو أراد ملك من ملوك الدنيا العفو عن أهل الجرائم ، قام عليه جنده فانحل عقده وانثلم حده ، علل هذه العلة بما يخصه ، فقال مؤكداً لاستبعاد ذلك بالقياس على ما يعهدون : { إنه هو } أي وحده { الغفور } أي البليغ المغفرة بحيث يمحو الذنوب مهما شاء عيناً وأثراً ، فلا يعاقب ولا يعاتب { الرحيم * } أي المكرم بعد المغفرة ولا يقدر أحد أصلاً على نوع اعتراض عليه ، ولا توجيه طعن إليه .