في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

8

وبعد عرض هاتين الصورتين يتجه إلى الذين آمنوا يناديهم ليتقوا ويحسنوا ؛ ويتخذوا من حياتهم القصيرة على هذه الأرض وسيلة للكسب الطويل في الحياة الآخرة :

( قل : يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم . للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة . وأرض الله واسعة . إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) . .

وفي التعبير : ( قل : يا عباد الذين آمنوا )التفاتة خاصة . فهو في الأصل : قل لعبادي الذين آمنوا . . قل لهم : اتقوا ربكم . ولكنه جعله يناديهم ، لأن في النداء إعلاناً وتنبيهاً . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لا يقول لهم : ( يا عبادي )فهم عباد الله . فهناك هذه الالتفاتة في أثناء تكليفه بتبليغهم أن يناديهم باسم الله . فالنداء في حقيقته من الله . وما محمد [ صلى الله عليه وسلم ] إلا مبلغ عنه للنداء .

( قل : يا عباد الذين آمنوا . اتقوا ربكم ) . .

والتقوى هي تلك الحساسية في القلب ، والتطلع إلى الله في حذر وخشية ، وفي رجاء وطمع ، ومراقبة غضبه ورضاه في توفز وإرهاف . . إنها تلك الصورة الوضيئة المشرقة ، التي رسمتها الآية السابقة لذلك الصنف الخاشع القانت من عباد الله .

( للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ) . .

وما أجزل الجزاء ! حسنة في الدنيا القصيرة الأيام الهزيلة المقام . تقابلها حسنة في الآخرة دار البقاء والدوام . ولكنه فضل الله على هذا الإنسان . الذي يعرف منه ضعفه وعجزه وضآلة جهده . فيكرمه ويرعاه !

( وأرض الله واسعة ) .

فلا يقعد بكم حب الأرض ، وإلف المكان ، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها ، إذا ضاقت بكم في دينكم ، وأعجزكم فيها الإحسان . فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان ؛ ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان .

وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري ، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه ، تنبئ عن مصدر هذا القرآن . فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به ، العليم بخفاياه .

والله خالق الناس يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس ، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق ، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان : ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب :

( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) . .

فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب ، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي ، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة . ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب . . فسبحان العليم بهذه القلوب ، الخبير بمداخلها ومساربها ، المطلع فيها على خفي الدبيب .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

{ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } :

أي : قل مناديا لأشرف الخلق ، وهم المؤمنون ، آمرا لهم بأفضل الأوامر ، وهي التقوى ، ذاكرا لهم السبب الموجب للتقوى ، وهو ربوبية اللّه لهم وإنعامه عليهم ، المقتضي ذلك منهم أن يتقوه ، ومن ذلك ما مَنَّ اللّه عليهم به من الإيمان فإنه موجب للتقوى ، كما تقول : أيها الكريم تصدق ، وأيها الشجاع قاتل .

وذكر لهم الثواب المنشط في الدنيا فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا } بعبادة ربهم { حَسَنَة } ورزق واسع ، ونفس مطمئنة ، وقلب منشرح ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }

{ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } إذا منعتم من عبادته في أرض ، فهاجروا إلى غيرها ، تعبدون فيها ربكم ، وتتمكنون من إقامة دينكم .

ولما قال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } كان لبعض النفوس مجال في هذا الموضع ، وهو أن النص عام ، أنه كل من أحسن فله في الدنيا حسنة ، فما بال من آمن في أرض يضطهد فيها ويمتهن ، لا يحصل له ذلك ، دفع هذا الظن بقوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } وهنا بشارة نص عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بقوله ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك ) تشير إليه هذه الآية ، وترمي إليه من قريب ، وهو أنه تعالى أخبر أن أرضه واسعة ، فمهما منعتم من عبادته في موضع فهاجروا إلى غيرها ، وهذا عام في كل زمان ومكان ، فلا بد أن يكون لكل مهاجر ، ملجأ من المسلمين يلجأ إليه ، وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه .

{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وهذا عام في جميع أنواع الصبر ، الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها ، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها ، والصبر على طاعته حتى يؤديها ، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب ، أي : بغير حد ولا عد ولا مقدار ، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه ، وأنه معين على كل الأمور .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } :

يأمر الله عباده المؤمنين أن يتقوا ربهم ، وذلك بعبادته وحده لا شريك له ، فيطيعوا أوامره ويجتنبوا نواهيه .

قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } أعدَّ الله للمحسنين الذين أخلصوا دينهم لله وبادروا فعل الطاعات والصالحات واستقاموا على صراط الله القويم ومنهجه الحكيم – أعدَّ الله لهم حسنة وهي الجنة .

قوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } فلا عذر للمفرطين المتخاذلين الذين يتعللون بأنهم مقهورون في بلادهم وأوطانهم فلم يتمكنوا من عبادة الله وطاعته ودعوة الناس إلى الإسلام بما يجدونه في أوطانهم من ظلم الظالمين الذين يصدونهم عن دين الله . بل عليهم أن يبادروا القرار بدينهم وترك الأوطان التي لا يستطيعون فيها أن يعبدوا الله أو يوشك أن تغشاهم فيها غاشية من الفتنة ، ينزلقون فيها عن الإسلام فينقلبون فاسقين مشركين . فلا جرم أنهم في مثل هذه الحال مكلفون بالهجرة إلى بلاد الله الواسعة التي يجدون فيها الأمن فيعبدون الله طُلقاء ويدعون الناس إلى منهج الحق ، منهج الإسلام .

قوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ذلك ثناء من الله عظيم على الصابرين الذين يصبرون على فراق الوطن والأهل والعشيرة والخلان ، ويصبرون على بلاء الغربة وهم بعيدون عن بلادهم وأهليهم فرارا بدينهم من أرض القهر والصدّ والفتنة . أولئك يوفّيهم الله أجورهم بغير حساب ؛ أي يعطون في الآخرة من جزيل الأجر والجزاء ما لا يحصره حساب من الكثرة .